أصبحنا همه .. قدَّم لنا المحارم لمسح الدموع وكاد يبكي معنا، خرج دون كلام .. مررت بحالة لا أعرف تسميتها، أهي مزيج من الخوف واليأس، أم تجربة مريرة نهايتها وخيمة.. ثم كيف ستتلقى أمي خبر ضياعي ، ذلك الخليط من الصور المتناقضة أوقف لديَّ التفكير وعطل حواسي.. استجمعت قواي لمساعدة الصغيرة عن طريق التحدث إليها ، وفي الوقت نفسه كما اكتشفت فيما بعد ، كنت أساعد نفسي ، وكذبت على الصغيرة ، ندمت على أمور كثيرة فعلتها ، لكن ذلك لم يمنعني من انتقاد سلبياتي العديدة ، ونجحت أحيانا .. أذكر جيداً أنني سألتها عن أخوتها، فأجابت بعد تأمل في وجهي:
- لم تسأليني عن أبي، ورغم ذلك يجب أن أحدثك عنه أولا, فهو أب وأم ، يعمل من أجلنا الكثير.. لا يزال يزور قبر أمي في الأسبوع مرتين، يسقي شتل الريحان الذي زرعه حول قبرها، يشعل البخور ، رافقته مرة إلى هناك ، وقال لي إنه بيتها الأبدي، وستمضي فيه وقتا طويلا ، وقلت له أرغب في دخول هذا البيت كي أراها ولو للحظة ، فهي تنتظرني .. بكى .. تمتم كلمات أخرى غير مفهومة ، ازداد بكاء، وبكيت .. رجعت دون رؤيتها، وما أصعب ألا تقابلي من تزورينه وأنت بالقرب منه.. رجعت وأكاد أمزق ثيابي .. ومن بعدها لم أرافقه أبدا ..
جعلتني أتفجر بكاء ، بكيت على أمي البعيدة التي تبكي من أجلي، وأحسست بأهمية الدموع وكأنها مقبرة للتشنج والقلق الذي يضغط على الروح ..
- مسحت ندى دمعة عن خدها ، بينما تماسكت سلاف أكثر وحاولت ترويض الموقف بالانتقال إلى حديث أكثر ليونة - ..
وتابعت أروى كلامها ببراءة : أما أخي الكبير ، فقد اقتسم الأبوة والأمومة مع والدي، وأضاف إلى نفسه مهمة العطف والحنان.. يدرس في الجامعة ويعمل في الأرض.. أقسم لماما قبيل دفنها أن يلتزم بالأسرة حتى النهاية.. فهو يطعمني ويسقيني ويحممني ويأخذني إلى المدرسة، وإذا فارقت الابتسامة وجهي، فلا ينام حتى يعيدها ثانية.. يتحول إلى مهرج في أية لحظة يراني حزينة، وهو على استعداد الآن لفعل أي شيء من أجلي وأحتمي بك كي أبكي قليلاً، فلأنك حزينة بكيت وذلك يقهره ويعذبه.. أما مَجد، فهو يصغرني سنتين .. ونحبه كثيراً.. وأخي فاضل في الصف الثالث الثانوي،ويستعد للفحص .. وأختي الصغيرة عند خالتي الآن وهي ترعاها ونزورها كل ثلاثة أيام ..
تحدثت عن أخيها الكبير كقديس تجلّه، بدت كلوحة سماوية تشع تحت ضوء القمر المتسرب عبر النافذة.. أفصحت عن ذكاء ولباقة وتهذيب لا مثيل له، أشعرتني بانتمائي إليها في تلك اللحظات العصيبة وأتعاطف معها .. و جعلتني أتخيل أمها الجميلة والتي ستعود إليها يوماً لتحضر عرسها، هكذا أقنعتها الجارة.. صدقت ذلك وانتهى الأمر.. تلاعبت بالألفاظ كهرة تبحث عمن تداعبه.. خلقت أمامي مجموعة صور متباينة، كبطلة حزينة ومرحة في آن معاً.. دخل والدها بهدوء، وضع معوله وخردة في الزاوية ، فرّك يديه وسلَّم عليّ بقوة .. أشاع بعض الطمأنينة والثقة بالنفس قائلاً:
- أنت ستكونين غداً في أحضان أهلك، أما الذين فقدوا ذلك الغد، فما حالهم؟ حزنت لما قاله ، وشعرت أنه أراد أن يبيِّن لي أن لدى الآخرين مصائب أكبر من مصيبتي ..
هون عليَّ الأمر ، وأطلق نكتة سريعة ومركزة عن بنات آوى ، وذكر حادثة وقعت لجاره قبل أيام ، وكيف أمسك بواحدة في قنه ، ضربها فتظاهرت بالموت ، انطلت عليه الخدعة ، سحبها إلى المسيل المحاذي لبيته وما أن ابتعد عنها خطوات حتى هربت وهي تلتفت إليه ساخرة .. وقتها ضحكت أروى وطلبت منه أن يعيدها ، فأشار إليّ أن أعيدها لها ، ففعلت وحكيت لها حكاية أخرى عن وطواط مصاب بالطرش سأحكيها لك فيما بعد..
بلغ مسامعي محاولة الأخ الأكبر توضيح بعض الأفكار لأخيه حول أهمية التركيز وتكرار كتابة الأفكار الصعبة، ثم مراجعتها باستمرار.. شجعه على الدراسة وتنظيم الوقت.. وبعد ذلك أحضر إلينا الحليب والكعك.. ثم خرج..
قالت أروى: تصوري إنه يحلب البقرة ويخض اللبن ويستخرج منه السمنة والعيران، ثم يغلي العيران ويستخرج منه (القريش)، ومن القريش يحضر( الشنكليش) بطريقة ممتازة تشبه طريقة أمي تماما ، ويزق الماء على كتفه ، لو لم تكن أمي لقلت أنه أشطر منها- لا يوجد أشطر من أمي في الكون كله -
توقفت سلاف عن الكلام بسبب الدموع المتمردة التي انفجرت كنبع من محاجرها ، كانت فرصة للتخلص مما علق حولها من خوف وتردد .. تشجعت بعد أن اقتربت منها ندى وساعدتها على مسحها، ثم مسحت دموعها.. تشاركتا في بكاء عفوي.. ضحكتا ، بدتا في حالة توحد غير عادية .. شعرت سلاف برغبة في الكلام وطاقة غريبة تجتاحها ، طاقة كامنة كسرت حواجز عتيدة مبنية من أسمنت التردد .. سمعت أصوات ذوبان أفكار في داخلها .. تجاوزت حفر العزلة الذاتية ، وراحت تتكلم وكأنها تحكي عن أنثى لا تخصها ، أنثى كانت ترافقها كظلها في تلك الرحلة ، وتحفظ أسرارها وتحميها بأحداقها ، وآن الأوان للتخلص منها ، ورميها بعيدا عن القدسية التي أحاطتها بها .. ولتقديمها إلى ندى الشخص الموازي الذي تهيأت تماما لتكون شريكا في سراء وضراء الصداقة .. صديقة تتحكم في منسوب العاطفة والعقل .. مثل ميزان حرارة فهرنهايت .. تلمست سلاف عاطفة صديقتها ، شعرت أنها في جواها .. تشجعت تحت تأثير منسوب العاطفة المرتفع ، وصرحت لها بتلك الحكاية الغريبة والضاغطة كي تتحرر من ماضٍ لم تعد تألفه كما كانت في السابق ، حكاية جامحة ، ثائرة .. انتفضت لتتخلص من حبسها في حقيبة أسرار سلاف الخاصة، وتعيش بعيدا عنها .. وتدفنه في مقبرة المكاشفة.. تعلنه وينتهي به الأمر في قلوب الآخرين ..
طلبت ندى منها المتابعة.. استسلمت سلاف إلى رحمة الذكريات التي تلقتها ندى كالصاعقة، و قالت:
- كنت أحس أحيانا أنك تخفين سراً ما، وها قد حان الوقت لإطلاعي عليه..
مباشرة تابعت سلاف :
- لم تسأليني عن أبي، ورغم ذلك يجب أن أحدثك عنه أولا, فهو أب وأم ، يعمل من أجلنا الكثير.. لا يزال يزور قبر أمي في الأسبوع مرتين، يسقي شتل الريحان الذي زرعه حول قبرها، يشعل البخور ، رافقته مرة إلى هناك ، وقال لي إنه بيتها الأبدي، وستمضي فيه وقتا طويلا ، وقلت له أرغب في دخول هذا البيت كي أراها ولو للحظة ، فهي تنتظرني .. بكى .. تمتم كلمات أخرى غير مفهومة ، ازداد بكاء، وبكيت .. رجعت دون رؤيتها، وما أصعب ألا تقابلي من تزورينه وأنت بالقرب منه.. رجعت وأكاد أمزق ثيابي .. ومن بعدها لم أرافقه أبدا ..
جعلتني أتفجر بكاء ، بكيت على أمي البعيدة التي تبكي من أجلي، وأحسست بأهمية الدموع وكأنها مقبرة للتشنج والقلق الذي يضغط على الروح ..
- مسحت ندى دمعة عن خدها ، بينما تماسكت سلاف أكثر وحاولت ترويض الموقف بالانتقال إلى حديث أكثر ليونة - ..
وتابعت أروى كلامها ببراءة : أما أخي الكبير ، فقد اقتسم الأبوة والأمومة مع والدي، وأضاف إلى نفسه مهمة العطف والحنان.. يدرس في الجامعة ويعمل في الأرض.. أقسم لماما قبيل دفنها أن يلتزم بالأسرة حتى النهاية.. فهو يطعمني ويسقيني ويحممني ويأخذني إلى المدرسة، وإذا فارقت الابتسامة وجهي، فلا ينام حتى يعيدها ثانية.. يتحول إلى مهرج في أية لحظة يراني حزينة، وهو على استعداد الآن لفعل أي شيء من أجلي وأحتمي بك كي أبكي قليلاً، فلأنك حزينة بكيت وذلك يقهره ويعذبه.. أما مَجد، فهو يصغرني سنتين .. ونحبه كثيراً.. وأخي فاضل في الصف الثالث الثانوي،ويستعد للفحص .. وأختي الصغيرة عند خالتي الآن وهي ترعاها ونزورها كل ثلاثة أيام ..
تحدثت عن أخيها الكبير كقديس تجلّه، بدت كلوحة سماوية تشع تحت ضوء القمر المتسرب عبر النافذة.. أفصحت عن ذكاء ولباقة وتهذيب لا مثيل له، أشعرتني بانتمائي إليها في تلك اللحظات العصيبة وأتعاطف معها .. و جعلتني أتخيل أمها الجميلة والتي ستعود إليها يوماً لتحضر عرسها، هكذا أقنعتها الجارة.. صدقت ذلك وانتهى الأمر.. تلاعبت بالألفاظ كهرة تبحث عمن تداعبه.. خلقت أمامي مجموعة صور متباينة، كبطلة حزينة ومرحة في آن معاً.. دخل والدها بهدوء، وضع معوله وخردة في الزاوية ، فرّك يديه وسلَّم عليّ بقوة .. أشاع بعض الطمأنينة والثقة بالنفس قائلاً:
- أنت ستكونين غداً في أحضان أهلك، أما الذين فقدوا ذلك الغد، فما حالهم؟ حزنت لما قاله ، وشعرت أنه أراد أن يبيِّن لي أن لدى الآخرين مصائب أكبر من مصيبتي ..
هون عليَّ الأمر ، وأطلق نكتة سريعة ومركزة عن بنات آوى ، وذكر حادثة وقعت لجاره قبل أيام ، وكيف أمسك بواحدة في قنه ، ضربها فتظاهرت بالموت ، انطلت عليه الخدعة ، سحبها إلى المسيل المحاذي لبيته وما أن ابتعد عنها خطوات حتى هربت وهي تلتفت إليه ساخرة .. وقتها ضحكت أروى وطلبت منه أن يعيدها ، فأشار إليّ أن أعيدها لها ، ففعلت وحكيت لها حكاية أخرى عن وطواط مصاب بالطرش سأحكيها لك فيما بعد..
بلغ مسامعي محاولة الأخ الأكبر توضيح بعض الأفكار لأخيه حول أهمية التركيز وتكرار كتابة الأفكار الصعبة، ثم مراجعتها باستمرار.. شجعه على الدراسة وتنظيم الوقت.. وبعد ذلك أحضر إلينا الحليب والكعك.. ثم خرج..
قالت أروى: تصوري إنه يحلب البقرة ويخض اللبن ويستخرج منه السمنة والعيران، ثم يغلي العيران ويستخرج منه (القريش)، ومن القريش يحضر( الشنكليش) بطريقة ممتازة تشبه طريقة أمي تماما ، ويزق الماء على كتفه ، لو لم تكن أمي لقلت أنه أشطر منها- لا يوجد أشطر من أمي في الكون كله -
توقفت سلاف عن الكلام بسبب الدموع المتمردة التي انفجرت كنبع من محاجرها ، كانت فرصة للتخلص مما علق حولها من خوف وتردد .. تشجعت بعد أن اقتربت منها ندى وساعدتها على مسحها، ثم مسحت دموعها.. تشاركتا في بكاء عفوي.. ضحكتا ، بدتا في حالة توحد غير عادية .. شعرت سلاف برغبة في الكلام وطاقة غريبة تجتاحها ، طاقة كامنة كسرت حواجز عتيدة مبنية من أسمنت التردد .. سمعت أصوات ذوبان أفكار في داخلها .. تجاوزت حفر العزلة الذاتية ، وراحت تتكلم وكأنها تحكي عن أنثى لا تخصها ، أنثى كانت ترافقها كظلها في تلك الرحلة ، وتحفظ أسرارها وتحميها بأحداقها ، وآن الأوان للتخلص منها ، ورميها بعيدا عن القدسية التي أحاطتها بها .. ولتقديمها إلى ندى الشخص الموازي الذي تهيأت تماما لتكون شريكا في سراء وضراء الصداقة .. صديقة تتحكم في منسوب العاطفة والعقل .. مثل ميزان حرارة فهرنهايت .. تلمست سلاف عاطفة صديقتها ، شعرت أنها في جواها .. تشجعت تحت تأثير منسوب العاطفة المرتفع ، وصرحت لها بتلك الحكاية الغريبة والضاغطة كي تتحرر من ماضٍ لم تعد تألفه كما كانت في السابق ، حكاية جامحة ، ثائرة .. انتفضت لتتخلص من حبسها في حقيبة أسرار سلاف الخاصة، وتعيش بعيدا عنها .. وتدفنه في مقبرة المكاشفة.. تعلنه وينتهي به الأمر في قلوب الآخرين ..
طلبت ندى منها المتابعة.. استسلمت سلاف إلى رحمة الذكريات التي تلقتها ندى كالصاعقة، و قالت:
- كنت أحس أحيانا أنك تخفين سراً ما، وها قد حان الوقت لإطلاعي عليه..
مباشرة تابعت سلاف :