منتديات السديرة
أنت غير مسجل لدينا . للتسجيل اضغط على زر التسجيل


منتديات السديرة
أنت غير مسجل لدينا . للتسجيل اضغط على زر التسجيل

منتديات السديرة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات السديرةدخول

رواية حبٌ أخضر

power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد
4 مشترك

descriptionرواية حبٌ أخضر - صفحة 2 Emptyرد: رواية حبٌ أخضر

more_horiz
أصبحنا همه .. قدَّم لنا المحارم لمسح الدموع وكاد يبكي معنا، خرج دون كلام .. مررت بحالة لا أعرف تسميتها، أهي مزيج من الخوف واليأس، أم تجربة مريرة نهايتها وخيمة.. ثم كيف ستتلقى أمي خبر ضياعي ، ذلك الخليط من الصور المتناقضة أوقف لديَّ التفكير وعطل حواسي.. استجمعت قواي لمساعدة الصغيرة عن طريق التحدث إليها ، وفي الوقت نفسه كما اكتشفت فيما بعد ، كنت أساعد نفسي ، وكذبت على الصغيرة ، ندمت على أمور كثيرة فعلتها ، لكن ذلك لم يمنعني من انتقاد سلبياتي العديدة ، ونجحت أحيانا .. أذكر جيداً أنني سألتها عن أخوتها، فأجابت بعد تأمل في وجهي:
- لم تسأليني عن أبي، ورغم ذلك يجب أن أحدثك عنه أولا, فهو أب وأم ، يعمل من أجلنا الكثير.. لا يزال يزور قبر أمي في الأسبوع مرتين، يسقي شتل الريحان الذي زرعه حول قبرها، يشعل البخور ، رافقته مرة إلى هناك ، وقال لي إنه بيتها الأبدي، وستمضي فيه وقتا طويلا ، وقلت له أرغب في دخول هذا البيت كي أراها ولو للحظة ، فهي تنتظرني .. بكى .. تمتم كلمات أخرى غير مفهومة ، ازداد بكاء، وبكيت .. رجعت دون رؤيتها، وما أصعب ألا تقابلي من تزورينه وأنت بالقرب منه.. رجعت وأكاد أمزق ثيابي .. ومن بعدها لم أرافقه أبدا ..
جعلتني أتفجر بكاء ، بكيت على أمي البعيدة التي تبكي من أجلي، وأحسست بأهمية الدموع وكأنها مقبرة للتشنج والقلق الذي يضغط على الروح ..
- مسحت ندى دمعة عن خدها ، بينما تماسكت سلاف أكثر وحاولت ترويض الموقف بالانتقال إلى حديث أكثر ليونة - ..
وتابعت أروى كلامها ببراءة : أما أخي الكبير ، فقد اقتسم الأبوة والأمومة مع والدي، وأضاف إلى نفسه مهمة العطف والحنان.. يدرس في الجامعة ويعمل في الأرض.. أقسم لماما قبيل دفنها أن يلتزم بالأسرة حتى النهاية.. فهو يطعمني ويسقيني ويحممني ويأخذني إلى المدرسة، وإذا فارقت الابتسامة وجهي، فلا ينام حتى يعيدها ثانية.. يتحول إلى مهرج في أية لحظة يراني حزينة، وهو على استعداد الآن لفعل أي شيء من أجلي وأحتمي بك كي أبكي قليلاً، فلأنك حزينة بكيت وذلك يقهره ويعذبه.. أما مَجد، فهو يصغرني سنتين .. ونحبه كثيراً.. وأخي فاضل في الصف الثالث الثانوي،ويستعد للفحص .. وأختي الصغيرة عند خالتي الآن وهي ترعاها ونزورها كل ثلاثة أيام ..
تحدثت عن أخيها الكبير كقديس تجلّه، بدت كلوحة سماوية تشع تحت ضوء القمر المتسرب عبر النافذة.. أفصحت عن ذكاء ولباقة وتهذيب لا مثيل له، أشعرتني بانتمائي إليها في تلك اللحظات العصيبة وأتعاطف معها .. و جعلتني أتخيل أمها الجميلة والتي ستعود إليها يوماً لتحضر عرسها، هكذا أقنعتها الجارة.. صدقت ذلك وانتهى الأمر.. تلاعبت بالألفاظ كهرة تبحث عمن تداعبه.. خلقت أمامي مجموعة صور متباينة، كبطلة حزينة ومرحة في آن معاً.. دخل والدها بهدوء، وضع معوله وخردة في الزاوية ، فرّك يديه وسلَّم عليّ بقوة .. أشاع بعض الطمأنينة والثقة بالنفس قائلاً:
- أنت ستكونين غداً في أحضان أهلك، أما الذين فقدوا ذلك الغد، فما حالهم؟ حزنت لما قاله ، وشعرت أنه أراد أن يبيِّن لي أن لدى الآخرين مصائب أكبر من مصيبتي ..
هون عليَّ الأمر ، وأطلق نكتة سريعة ومركزة عن بنات آوى ، وذكر حادثة وقعت لجاره قبل أيام ، وكيف أمسك بواحدة في قنه ، ضربها فتظاهرت بالموت ، انطلت عليه الخدعة ، سحبها إلى المسيل المحاذي لبيته وما أن ابتعد عنها خطوات حتى هربت وهي تلتفت إليه ساخرة .. وقتها ضحكت أروى وطلبت منه أن يعيدها ، فأشار إليّ أن أعيدها لها ، ففعلت وحكيت لها حكاية أخرى عن وطواط مصاب بالطرش سأحكيها لك فيما بعد..
بلغ مسامعي محاولة الأخ الأكبر توضيح بعض الأفكار لأخيه حول أهمية التركيز وتكرار كتابة الأفكار الصعبة، ثم مراجعتها باستمرار.. شجعه على الدراسة وتنظيم الوقت.. وبعد ذلك أحضر إلينا الحليب والكعك.. ثم خرج..
قالت أروى: تصوري إنه يحلب البقرة ويخض اللبن ويستخرج منه السمنة والعيران، ثم يغلي العيران ويستخرج منه (القريش)، ومن القريش يحضر( الشنكليش) بطريقة ممتازة تشبه طريقة أمي تماما ، ويزق الماء على كتفه ، لو لم تكن أمي لقلت أنه أشطر منها- لا يوجد أشطر من أمي في الكون كله -
توقفت سلاف عن الكلام بسبب الدموع المتمردة التي انفجرت كنبع من محاجرها ، كانت فرصة للتخلص مما علق حولها من خوف وتردد .. تشجعت بعد أن اقتربت منها ندى وساعدتها على مسحها، ثم مسحت دموعها.. تشاركتا في بكاء عفوي.. ضحكتا ، بدتا في حالة توحد غير عادية .. شعرت سلاف برغبة في الكلام وطاقة غريبة تجتاحها ، طاقة كامنة كسرت حواجز عتيدة مبنية من أسمنت التردد .. سمعت أصوات ذوبان أفكار في داخلها .. تجاوزت حفر العزلة الذاتية ، وراحت تتكلم وكأنها تحكي عن أنثى لا تخصها ، أنثى كانت ترافقها كظلها في تلك الرحلة ، وتحفظ أسرارها وتحميها بأحداقها ، وآن الأوان للتخلص منها ، ورميها بعيدا عن القدسية التي أحاطتها بها .. ولتقديمها إلى ندى الشخص الموازي الذي تهيأت تماما لتكون شريكا في سراء وضراء الصداقة .. صديقة تتحكم في منسوب العاطفة والعقل .. مثل ميزان حرارة فهرنهايت .. تلمست سلاف عاطفة صديقتها ، شعرت أنها في جواها .. تشجعت تحت تأثير منسوب العاطفة المرتفع ، وصرحت لها بتلك الحكاية الغريبة والضاغطة كي تتحرر من ماضٍ لم تعد تألفه كما كانت في السابق ، حكاية جامحة ، ثائرة .. انتفضت لتتخلص من حبسها في حقيبة أسرار سلاف الخاصة، وتعيش بعيدا عنها .. وتدفنه في مقبرة المكاشفة.. تعلنه وينتهي به الأمر في قلوب الآخرين ..
طلبت ندى منها المتابعة.. استسلمت سلاف إلى رحمة الذكريات التي تلقتها ندى كالصاعقة، و قالت:
- كنت أحس أحيانا أنك تخفين سراً ما، وها قد حان الوقت لإطلاعي عليه..
مباشرة تابعت سلاف :

descriptionرواية حبٌ أخضر - صفحة 2 Emptyرد: رواية حبٌ أخضر

more_horiz
- ليس سراً فحسب.. بل غيّر حياتي وأصبحت تلك اللحظات الحاسمة هي الإيقاع الذي أسير عليه.. فكما أن المواسم تضبط الإنسان على إيقاعها.. أيضاً هو حال الأحداث الكبيرة، فمنذ ذلك الوقت انتصب أمامي حلم جميل، حلم يأخذني من كفي خطوة.. خطوة إلى الحياة التي تستحق أن تعاش وبقوة.. كنت أكبر على وقع حكاية رائعة تمتعني ، أحتفظ بها لوحدي ككنز ثمين ، كنز يساوي حياتي ، حكاية كحديقة جميلة أمتلكها، أهتم بها ، وأحافظ على نضارتها ..
- وماذا بعد؟ سألت ندى بحماس واضح.
تابعت سلاف بشيء من التوتر لا يخلو من ضعف في التركيز:
- كان ليل طويل وأحداث متناقضة.. اغتصبني القلق وفشلت في النوم، كانت فرصة لتدريب نفسي على التآلف مع الآخرين .. كانت المرة الأولى في حياتي أبتعد عن البيت .. وقتها تجاذبتني الأفكار المجنونة والتناقضات المرعبة حتى الصباح.. أنجز الشاب أشغاله المنزلية، رأيته يكنس مربط البقرات أمام الدار، وينظف معالف الدواب ، ويحلب، ويرتب الفراش مثل سيدة تهتم بأولادها .. قدَّم لي الحليب وأقسم أن أشرب، فشربت.. بعدها انطلقنا معاً إلى ضيعتنا.. وأثناء العودة حدثني عن حياته وعن تعلقه بوالديه وعن أهدافه ودراسته وهمومه التي لا يظهرها عادة أمام أحد من أفراد أسرته.. كلمني عن طاقة الإنسان التي لا تنضب.. أتذكر تماما قوله " المواجهة أمر سيئ في حياتنا لأنها تستهلك منا أشياء يمكن الاستفادة منها في مجالات أخرى، لكن كتب علينا أن نتعلم باستمرار حتى من عدونا الذي نخترعه في أغلب الأحيان كي نبرر تعمير البيوت المحصنة والأسوار وشراء السلاح ، أو ما شابه ذلك .." كنا مقابل قلعة المرقب عندما قال تلك الفكرة التي نُقشت في دماغي كالنقر على الحجر ..
تكلم عن الشباب والأحلام ، أحسست أنه لديه حكمة اكتسبها من الحياة ومن تجاربه ..
تنوعت الأحاديث التي لم أعتد عليها وقصد تسليتي أكثر من التأثير بي، ومن دون أن يقصد أطلق جملا من واقع حياته كانت كحقن مناعية لقحني بها وإلى الأبد.. وقال جملة لن أنساها ما حييت: " فحتى طاقة الشمس من حياتنا، ولن يكون لها أية قيمة هناك ما لم يوجد من يستقبل أشعتها.."
لم أفهم ذلك آنذاك، لكن أمي أفهمتني فيما بعد أن النور من هذه الحياة.. واقتنعت بتفسيرها..
بعد ساعتين أحسست أنها دقيقة ونصف وصلنا الضيعة التي كانت في حالة جنائزية.. أهلي، أخوتي.. رفاقي.. الأهالي بالكامل ينتحبون ويبكون.. كانوا قد أرسلوا وفوداً إلى محطات الرحلة للبحث عني.. استقبلوني كمبعوثة من موت.. عشت لحظات البعث الحقيقية.. حملوني على الأكتاف.. زغردوا.. غنوا لي.. بكوا وفرحوا ، غنوا مواويل جنائزية وعرائسية ، وكأن الضيعة ولدت من جديد .. كل شيء كان يسطع كنور الشمس، كنور إلهي في لحظة تجلي .. الابتسامات والكلمات والتهاني و انكسار الحزن والدموع.. لقد تحولتُ إلى فرح الضيعة وموسمها.. احتفلوا بي لأنني بخير ولأنهم سيكونون بخير ونجوا من عبء خطيئة كانت ستحل بهم إلى الأبد.. توحدت مع الناس والتراب والسماء.. أمضى الشاب عندنا عدة ساعات وشاركنا الفرح الأشبه بالهستيريا ، ثم غادرنا دون أن نعرف حتى اسم ضيعته، قال لي مودعاً: اسم سلاف يعني من كل شيء أفضله وأخلصه.. وأضاف:
" هي أفضل الخمرة - خلاصة الشيء- أول ما يعصر من الفاكهة.. " فيما بعد تأكَّدتُ من القاموس أنَّ هذا فعلاً هو معنى اسمي..
وهكذا انتهت علاقتنا به.. منذ ذلك اليوم وأنا أسترجع كل كلمة قالها لي.. كانت في البداية كلمات ضبابية وغير مستعدة لتحليلها، وبعد استعادة عافيتي وخلاصي من صدمة الضياع، واستمتاعي بحادثة البعث التي لم تجعلني أولد من جديد وحسب، بل أضافت إليَّ حاسة جديدة ، حاسة أشبه بحشرية أو فضول تمد رأسها والنظر إلى قفا الجدران المعتمة ، والأسقف المستعارة التي حُرم علينا التساؤل عما وراءها .. حاسة اسمها طرح الأسئلة الكبيرة ، أسئلة دون أجوبة ، أسئلة بريئة وضخمة أرسلتها إلى الإله بانتظار الإجابة عنها ، وإن كانت لدي بعض الأجوبة ، لكنني دخلت في تحد مشروع مع الحياة.. حكاية بدأت أغزلها ، تغزلني في مغازلها الواخزة .. وكلما عرفت شيئا أستمتع كطفلة ، أو هكذا بقيت صغيرة ، لم أكبر ، ظللت رهينة تلك الحادثة .. من بعدها لم أكبر .. أعيش معها كل هموم الدنيا، أعيش وحيدة معها ، دون أن أتعب منها أو أشكو .. لا..لا أبدا ، بل كانت قوة خفية لي ، والآن جاء من يسلبها مني.. يسلب مشروعي هذا .. يسرق طفولتي وحكاية بعثي ..
انتفضت ندى ، وسألت :
- من يتجرأ على الاقتراب منك؟ أنت قريبة من الرب العظيم ..
- لا أعرف ، ما حدث لي هذا اليوم يشير إلى أن الله قد تخلى عني .. أنا غير سعيدة ، وما أحاول بناءه قد تهدم .. تهدم دفعة واحدة ..!
اقتربت منها ندى ، وضعت يدها على كتفها ، وقالت بتحدٍ:
- أنا إلى جانبك .
- لكنني لم أعد أنا إلى جانب نفسي ..
- هذا وهم ، نعم وهم ، أنت أقوى ..
هدأت سلاف صديقتها المتحمسة .. أبدت شجاعة غير متوقعة، وطلبت منها أن تصغي إليها بانتباه .. استجابت مباشرة .. فتابعت سلاف:
- كانت لدي فرصة رائعة للمقارنة بين الموت والحياة وبين الفرح والحزن ، قارنت بين حزن أهلي أثناء غيابي عنهم ، وحزن أسرة ذلك الشاب، وبين فرح الأسرتين ، واستنتجت بأن الفرح ليس نقيض الحزن ، لا..لا أبدا .. وبأن للحزن مملكة خاصة به، إذا لم نقترب منها فتبقى هادئة ، ويمكننا دفنها ، لكننا نحن من نأتي إليه ونهاجمها ونفتح أبوابها ونقتحمها بإرادتنا كمن يستهتر بوكر أفعى ويدفعها للدغه .. أيضاً هكذا حال الفرح .. كلاهما قريبان منا ، لكن إذا لم نعتد عليهما فيبقيان حياديان ، وبينهما توجد مملكة الإنسان الذي يخترع حكاية حزن وفرح ، وحب وكراهية ، شر وخير وتناقضات غريبة ..
ناقشت طويلا هذه الأفكار مع ماهر ، وافقني أحيانا وعارضني، لكن تجربتي تقول إنه لا قيمة لأي شيء حتى في كنف الأيمان الإلهي دون تجربة خاصة ..
هذه تجربتي الشخصية ، طبعا ، لا يمكن تعميمها ، لكنني لا أزال أفكر ، وأنا الآن على حافة الهاوية ، أعرف ماذا أقول .. وأفهمتني مشاعري العميقة بأن الحق والباطل ليس لهما أية علاقة بي .. وأنا صغيرة على القضايا أو القصص الكبيرة .. لكن ما موقف إنسان احتفل الناس بعودته من الموت وهكذا فجأة أصبح محط اهتمامهم ، ولدوا لديه أسئلة هامة حول معنى الحياة والموت والبعث والوجود.. وطرحوا هذه القضايا أمام طفلة مثلي ..
كنت أريد لأسئلة أخرى أن تكتمل ، أسئلة تجري في روحي ومشاعري لها قيمة الحياة ذاتها ، لكنها توقفت ، أو منيت بهزيمة ، هذا اليوم كل شيء توقف ..
تحمست ندى ، وقالت : ربما ، على العكس هي بداية جديدة ..
فأجابت سلاف بحسرة

descriptionرواية حبٌ أخضر - صفحة 2 Emptyرد: رواية حبٌ أخضر

more_horiz
لكن ليست البداية التي أريد.. ليست البداية التي خططت لها .. لم أحدد موعدها .. معركة لم أنتظرها !
- يا شقية .. تخططين ولا أدري؟! .. ثم قد تكون بداية رائعة ..
- أخشى من أحاسيسي التي ..
- وهل دائما صادقة ؟
- لا أعرف .. لم أجربها بعد .. لم تكذب عليّ ، ولم تصدق..
- ماذا تقولين يا بنت الحلال؟
- قد أبدو صغيرة على أمور كثيرة ، لكن تجربة البعث جعلتني أعيش ألف عام خلت ، وألف عام قادمة ..
- ألفا عام ؟!
- وربما أكثر .
- لكنك صغيرة؟
- بل طفلة ، وهل أسئلة الطفل التي لا يستطيع أحد الإجابة عليها غير مهمة؟ أعتقد أن عمر أي سؤال ألف ألف عام ..
شعرت ندى بمشروعية هذه الأسئلة وصدقها ووضوحها وسهولتها وصعوبتها في آن معا.. ودون أن تطلب منها أن تكمل ، تابعت سلاف:
- بعد تلك الحادثة ، فكرت طويلا بما قاله عن الهمة والحيوية.. ثم عن الموت.. تذكرت أنه قال: "الموت لا يستطيع أخذ الحياة لأنه فيها، فهو جزء منها ولو كان أقوى منها - أي هي جزء- منه لما كانت.." سألته عن قصده وفهمت آنذاك أن أولئك الذين يرحلون مستمرّون معنا كأمه مثلاً هي باقية في الأولاد.. والأولاد هم من مورثة ما.. تعود إلى الحياة دون شك، والميت يسهم في الحياة، بينما الموت لعبة تافهة ولا قيمة لها في حركة الكون.. وقال: " إن النجوم تشبه زهر عباد الشمس، فكما تستمد الزهرة حياتها من عناصر الحياة الحيوية، أي من أشياء حية، كذلك النجوم تستمد نورها من عناصر حية ، لها تربة تزودها بالنور .."
واستوحى تلك الأفكار من كلمات أمه قبيل رحيلها ، عذبه فقدانها واحتاج إلى جهد كبير لمقاومته، و أوضح لي كيف أحدث فلاح بسيط في قريتهم انقلابا في نظام الفلاحة عندما اضطر لاستخدام حماره الوحيد بدل الثورين المعتمدين في حراسة الأرض، ومن بعده تعلم الجميع أنه لا توجد أصنام في الحياة، أقنعني بما قاله، دون اضطراري للدخول في تحد مع نفسي إلا في حالات نادرة استوجبت ذلك ونجحت.. عرَّف لي العودة من جديد بشيء لا يخلو من المزاح ، وكان لكلامه معانٍ كثيرة .. وبعد ذلك قارنت العودة بالبعث ، وكما فهمت معنى البعث من خبرات الأهالي " بأنه من حياة إلى حياة " وقال ماهر : " خلقنا ومعنا إرادة، والإرادة هي نتاج طبيعي لفعل الخلود، والصورة الحقيقية للرغبة، وإلا لما رسم الأجداد نقوشاً على جدران الكهوف، ولما اخترعوا الكتابة .. "
تكلم عن البحر وعن الفرح والأرض ، ورائحة الزهر ، وعن حياة الفلاحين البسيطة ، والعلم ، وتاريخ قريته .. عن أشياء كثيرة.. ركزت على الكلام المبهم وطلبت منه شرحاً لبعض الأفكار، كان يجيب بغية تسليتي، وكنت أستمع بغية إضاعة الوقت، رافقنا شاطئ البحر كصفحة دفتر بيضاء، أعجبني عندما مجّد الأنثى قائلا : إن الجامعة والأسرة والأم هي مؤنث واحد عنوانه العطاء، والدم الذي يجري في عروق الثلاثة هو قوة العاطفة.. ومنذ تلك اللحظة انتصبت أمامي حكمة ذلك اليوم المؤثر : الجامعة، الأسرة، الأم والأرض، وأصبحت في فمي كطعم السكر، وفي عقلي كمعادلة ثابتة تبعث على التلذذ بالمعرفة وبالواقع ذاته الذي تمثل كمرآة شفافة أرى من خلالها بعض الأشياء الغريبة .. بدا وكأنه حقن فيّ لقاح الحياة ، أو ما يجب أن أبحث عنه.. فعل بي ما فعل، وحوّل تلك اللحظة إلى ولادة.. ولادة طاقة كامنة مخبأة في ركن سري من داخلي .. وتحرك معها ما يشبه ضربات القدوم على المسار أو ما يشبه المغص الكلوي الذي ذقت مرارته من قبل ..
أحست ندى أن طاقة هائلة تفجرت لدى صديقتها ، تركتها تسترسل ، وهي مندهشة من قوة كلامها ووضوحه الذي كشف لها عن مغامرة غريبة لفتاة لا تزال صغيرة .. بعد توقف .. حثتها على المتابعة .. فاسترسلت :
- قال أشياء كثيرة ، لكنني لم أفهم كل ما قاله، جعلتني تلك الحادثة أتحسس واقعي بجدية، و شعرت أنني لست بحاجة للقائه ثانية، لكنني كنت ألتقيه كل صباح وأقوم بنفس الأعمال التي يقوم بها.. أكنس، أحلب البقرات، أجمع الحطب، أصنع مع أمي أقراص الجلّة ، أنقل التبن من البيادر ، أدرس ، وأتدرب بعفوية على لعبة دون قصد اسمها - الحياة- ومع كل ذلك كنت أفكر وأتأمل طويلا.. طويلا وعلمني التأمل أنني أستطيع التعرف إلى أشياء كامنة فيّ لا يمكنني الإحساس بها دون النظر إلى نفسي كغريبة عنها ، كلما أشعر بفتور أو ملل أتذكره ، فيعود إليّ النشاط ، رحت أراقب الديدان والنمل والنحل والبعوض بطريقة مغايرة .. أصغي إلى الناس وأشعر بأن كلماتهم هي الحياة بعينها .. وقال ماهر " الكلمة كائن حي" صدقته .. و سمعت عمتي تردد حكايات للصغار عن نبلاء عظام انتصروا على أعداد كبيرة من الفرسان الخطيرين دون مساعدة .. أيضا صدقتها ، وتمثلت حكاياتها ، كان ذلك أسلوبا جيدا كي أكتشف بعض معاني الحياة ، وقتها قالت عمتي في نهاية حكاية عن فارس كان يعظم النور ، بما معناه :" مَنْ يصعب عليه أن يكون بطلا .. يجب أن يتمثل فعل الشمس ويعمل على إضاءة روحه بقواه الذاتية، فكما البذرة تنمو بفعل قوتها الداخلية كذلك الإنسان.. " تعلمت أن الحياة برمتها لي والشيء الوحيد الضائع فيها- ألا تفعل شيئاً يمكنك فعله أو تلجأ إلى آخرين ينجزونه بدلا عنك- هذا الكلام تردده أمي باستمرار نقلا عن جدها الذي استطاع لوحده زرع تل كامل بأشجار الزيتون واللوز ..
قاطعتها ندى بحذر

descriptionرواية حبٌ أخضر - صفحة 2 Emptyرد: رواية حبٌ أخضر

more_horiz
عفواً.. الآن فهمت بشكل أفضل معنى تأملك.
- بصراحة هو ليس مجرد تأمل، بل صب الزيت على مللي ، مجرد أن أتذكره أشعر بنشاط ، لذا كنت أسترجع حكاية ضياعي و أتمثلها باستمرار كي أتنشط ، وجعلت منها عمتي حكاية لبطلة تقصها لأحفادها.. وبالمقدار نفسه راحت تكبر حكايتي معي.. أنضج وتنضج في داخلي أكثر.. وتولّد لدي شعور قوي بأنني أتجدد، وتعلمت كيف أستغل هذه القوة، كسبت رضى أهلي بسهولة،تفوقت في دراستي ، تفاعلت مع الأرض والزراعة بمنطق ، ومع دواب البيت برفق، تسليت طويلا بتأمل الحمامات ودجاجات البيت ، وقطتنا .. تمكنت من اجتياز الثانوية العامة بتفوق، و استحققت كلية الصيدلة، فأقسمت على دخول فرع اللغة الإنكليزية من أجل عينيه.. وحققت ذلك، أستطيع أن أنسجم مع قناعتي بسهولة ..
تركتها ندى في حالة شرود، ألبستها سترة واقية ضد النسيان ، ونجحت في تحريضها .. قامت وأحضرت الشاي بسرعة، لتعود وهي تتكلم بلهجة إيمانية :
- أشعر أن حادثة ضياعك قد جعلت منك فيلسوفة..
- أنا ابنة محنة، أو انكسار، هجم الحدث الكبير أو ما يشبهه.. لا أعرف بالضبط كيف أعبر ، المهم أنه حدث ذلك في وقت مبكر من عمري، وعلمني كيف أهتم بنفسي وبكل ما يحيط بي .. و أصبح زمن ما قبل البعث غامضا، يداهمني كمتهمة .. وتدافع عني حياتي ما بعد البعث كأنني ابنتها الوحيدة ..
توقف الحديث عند رومانسية ممزوجة بحيرة لدى ندى، ووضوح عند سلاف التي أضافت : تصوري لم يعرف اسمي إلا عندما وصلت الضيعة و صاحوا: عادت سلاف.. عادت سلاف.. فقال:
- اسم جميل..
أضافت ندى:
- وصبية جميلة.. ليته يراك الآن .. لو رآك ، لفتن بكِ.
- هذه هي المشكلة.. لقد اختصر هذا اليوم رحلتي منذ لقائي به حتى هذه اللحظة.. لقد التقيته.. نعم إنه الأستاذ رضوان مدرس مادة النقد نفسه.. أخو أروى الكبير..
أطلقت ندى سؤالا كطلقة مدفع :
- الأستاذ رضوان ؟!
- نعم هو ، لقد التقيته ..
- رائع .. رائع ..! إنها حكاية مثيرة ..
- لا أعرف.. لا أعرف ..!
- إنه مدرس رائع ..
- هو بالتأكيد رائع ، لكنني لست برائعة .. لا أفهم ماذا يجري ..
صمتتا قليلا ، قدمت ندى كأس ماء لصديقتها التي بدت لها كجوهرة تلمع ، ووجها كقشطة طرية.. اعتبرت أن الأمور ستهون كون علاقتها مع شاب شهم ومغوار .. شربت سلاف بنهم وهي تنظر إليها من وراء عينين كعيني هرة حذرة ، سبقتها ندى إلى كلام فرض نفسه :
- ياه.. ياله من مدرس رائع.. لقد درسني العام الماضي، وذكرت لكِ أن مدرساً في الفصل الثاني سيعلمك وأنه يخلب اللب..ولم تعر لاسمه انتباها ..
بقيت سلاف صامتة ، وصفته ندى بأوصاف رائعة ، وكيف أعجب به جميع الطلاب ، وبأنه مدرس مثل الحب نفسه ، وكان على كل قلب نظرة وقار وتقدير وعسل ، وكسائل حبة عنب ناضجة كما وصفته إحدى الطالبات.. شبهته بالحلم الذي يمكن لمسه وبوسه والإحساس به دون أن تثار ضدك تهمة الخيانة .. كالت له المديح ، واستزادت في وصفه مشعلة تساؤلات لدى المتألمة الجالسة بجانبها ، ازداد وجوم سلاف وقاطعتها بكلمات مفرطة الوضوح :
- إنه هو.. لكنني خشيته.. خفت منه ، لا أستطيع تفسير ما حدث لي.. لقد هربت من المحاضرة.. شعرت أنه عدوي.. تمنيت الموت على رؤيته.. إنني مستاءة.. أتعذب، مقهورة.. منكوبة.. أحسست هذه المرة أنني قد نمت تحت تلك الشجرة أثناء ضياعي الأول ، وها أنا أضيع مرة أخرى ، لكنني لن أعود هذه المرة إلى أهلي.. لن ينتظرني أحد ولن يبحث عني أي أحد ، لن أبعث من جديد ، لن أتأمل ولن أنتظر ولن أحلم.. هرمت دفعة واحدة ، لقد صودرت طفولتي ، سُرقت من جواي .. هل تفهمين ؟
قفزت ندى من مكانها ، وأحاطت رأسها بقوة ، وهي تطلب منها الهدوء ، بينما تزفر سلاف كلمات تخرج من بين ساعدي ندى ويتلقاها صدرها كصدى مؤثر.. وتأن تحت وطأة قلق : " أرجوك ساعديني، فأنا بحاجة إليك.. أرى الفشل قدامي كوغد ويريد تدميري ، وسرقة أحلامي وتأملي وجوهرة البعث الثمينة من روحي .. سرقة كل شيء جميل.."
وضعت حافة يدها على فمها وأوقفتها عن الكلام :
- أنتِ تمزحين بالتأكيد.. فرضوان يمنح الإنسان الشعور بالطمأنينة.. خذي مثلا على نبله وذكائه .. لقد نجحنا جميعاً في مادته وأقل درجة نجاح هي 60%.. وذلك كان شعاره: " على المدرس أن يحبب الطلاب بمادته وبشخصه ويسهل المعقد ويوصل الأفكار..عندئذٍ يؤمن نجاحه، ثم نجاح طلابه، ولا يختلف الهدفان عن بعضهما البعض.." فهمنا ذلك وتعاملنا مع المادة كقيمة روحية ومعرفية.. نجح ونجحنا ولن ننساه ما حيينا.. لذا شعورك هذا هو مغالطة عابرة وستزول..
انكمشت سلاف على نفسها ، اصطنعت تماسكا فيه قلة حيلة.. ابتعدت عنها قليلا ، زرغت الغرفة ذهابا وجيئة لعدة مرات وكأنها تفتش في أنوثتها الباطنة عن شيء محدد.. ارتدت على هجاء قاسي للذات بشيء فيه قلة خبرة .. كررت جملا متقطعة وركيكية خالية من أي ترابط أو معنى .. ثم أردفت :
- أقول لك صراحة أنا خائفة جداً لا منه فحسب، بل على مستقبلي برمته.. بدني هزيل وروحي ضعيفة .. خائفة على ضياع أحلامي .. لن أخلو بنفسي بعد الآن.. لن أتأمل .. هل هذا قليل ؟!
لاحظت ندى تزايد تعب صديقتها وقلقها وجدية ما تقول واقعة تحت تأثير طفرة ممسوسة ، ورأت في عينيها البليلتين نظرة لوم تفور .. رامشتها بخوف .. بدأت تتغير بسرعة وكأنها على أعتاب مواجهة مع نوبة حمى مفاجئة وحادة .. راحت تعلو وجهها سنابك معركة عاتية ، كما لم تتجرأ على المساس بأفكارها التي لا تزال أغلبها مخبوءة .. تحركت تحت تأثير إحساسها بالعجز .. تملكها شعور بالحيرة ، ودون تفكير طلبت منها الخروج في مشوار صغير .. فأجابت وحزن يسح على وجهها :
- لن أزور اللاذقية ثانية لقد كرهتها، كرهت ضواحيها وبحرها.. إنها مدينة تعلم الخيانة.. تجعل الأحلام تموت..
رددت سلاف جملا تفور من شفتيها كحليب يغلي.. ذكرت كلمة موت الأحلام كأنها تتكلم عن موت نهائي.. موت لروح قبرُها هذا جسد الواهن .. قدمت لها ندى الماء بسرعة .. شربت ، ثم قدمت لها حبات (بنبون) وجدتها صدفة على طرف رف المكتبة.. تناولتها سلاف كأنها تتناول أقراص للعلاج ، بينما همست ندى : " جرعة من السكر تفيدها .." ورددت أمامها بارتباك واضح أكثر من مرة " بالهناء والعافية "..
استرخت سلاف مضرجة بالصمت ، وتدثر سكونها بقناع مفتعل ، وبرغبة خفية بأن الأمور ستتحسن ، كلمتها دون أن تجيب.. كانت فرصة لندى كي تلتقط أنفاسها الحامضة .. وترتب حروف هذه المفاجأة بطريقة تسهل على صديقتها التكيف مع الموقف .. تركتها واندفعت إلى الشرفة وكأنها هي التي تعاني بالفعل ، وراحت تتساءل: أهي قادرة فعلا على التعامل مع هذه الحالة الأشبه بالصدمة..؟! فسّرت الأمر على أنه زوبعة في فنجان ، حالة من ارتباك عابر نتيجة شعورها بالتناقض بين قيمها الريفية والواقع الجديد في المدينة ، وإحساسها بالخيانة تجاه الأستاذ ، ولأنها لم تحاول زيارته إلى قريته وشكره على ما قدمه لها كرد للجميل .. ثم واجهته فجأة مما دفعها للهروب من لقائه.. بحثت عن أسباب أخرى كثيرة ، ضربتها كلها بعرض الحائط ، واعتبرت هذا الموضوع عرضي وسيزول بعد غفوة طويلة تريحها ، ثم أقنعت نفسها بأن هذه الحالة مشابهة لحالتها قبل اتخاذ قرار الارتباط بوائل ، ولحكاية زميلات أخريات يخضن تجربة التحدي مع كل قرار صعب كهذا ، وفهمت أن كل فتاة تقريبا تتعرض لمثل هذه القصص في حال لقائها مع شاب معجبة به أو يطلب يدها ، فترتبك بسبب الحدث الجديد ، وتغير في مشاعرها نتيجة شعورها بخسارة شيء ما من خصوصيتها.. استغربت الحضور المفاجيء لشخصية ( ستاسي ) بطلة " مزرعة الدموع " ، وقفت أمامها وهي تمسح دموعها ، من قسوة كورد هاريس الذي أذاقها الويلات لدرجة أنها تمنت موته وفي الوقت نفسه تحبه كمخلّص لها من الخوف ولا يوجد أمامها خيار سوى الشكوى .. قارنت عن غير قصد بين الفتاتين << - طمأنينة وقلق .. عذاب وراحة .. تأمل وخوف .. رهبة ورغبة ..
- هل هذه هي الأنثى ؟
- ماذا تقصدين ؟
- أتساءل عن مواجعها ..>>

descriptionرواية حبٌ أخضر - صفحة 2 Emptyرد: رواية حبٌ أخضر

more_horiz
انتهت من هذا الجدل الذي فرضته على منطقها كحاكم من العالم الثالث ، ثم دخلت إلى الغرفة بهدوء مظهرة ثقة بالنفس ، حكت لها حكاية طويلة عن شهرزاد البطلة والمغرمة و شهريار الراكع أمام التسلية ، كانت تحكي ، وكانت سلاف تنام وسط دموع تفطر عينيها .. نظرت ندى إلى جسمها الملتوي على نفسه كعود لين ، وهمست : " أزمة ستمر سريعاً.. شخصيتها قوية وأفكارها جريئة، أمضت نصف حياتها وهي تجرب ، هي أفضل مني بكثير ، ولا أخشى عليها.. كما فهمت فيها كثير من عمتها.. "
خرجت للقاء سوزان التي كانت مشغولة هي الأخرى بإعداد محاضرة تأخرت عنها هذا الأسبوع، جلست عندها قليلاً وبعيداً عن المرح،أو حتى شرب الشاي.. افترقتا على أمل اللقاء بعد الانتهاء من تحضير الواجبات الدراسية .. شعرت ندى بوحدة خانقة أربكتها وتبخرت الأفكار والمشاريع لهذه الليلة، فحاولت أن تنام، انشغلت بأفكار عرضية، استندت إلى الطاولة التي تحب الجلوس طويلاً إليها، سحبت عنها كوعها لترمي يدها إلى حضنها .. بينما تناولت اليد الأخرى مجلة قديمة ، قلبتها ، راعتها بعض الصور المبتذلة لثوان .. تركتها جانباً ..
بحثت ذاكرتها عن تسلية .. تمنت أن تتذكر آخر رواية عشق قرأتها ، وانسجاما مع خيارها قفزت إلى ذاكرتها لوسي مانيت بطلة رواية " قصة مدينتين " التي قرأتها قبل سنتين .. حضرت هذه الفتاة كصديقة لتتسلى معها، وتحكي لها من جديد قصة الباستيل والجمهورية .. حولتها ناحية الحب، وتركتها تقص حكاية عشقها مع تشارلز دارني .. تجاوزت حكاية ديفارج والعميل غاسبارد والزفاف لتصل معها إلى العربات التي تتجول في باريس حاملة خمسا وعشرين زائرا إلى المقصلة ، ومنهم ايفرموند الذي سيموت ليحيا الآخرون .. شعرت بدوار يلفح كامل رأسها كزوبعة ..
تفّت على الثورة ، وعلاقتها بقصص الحب ، وتراءت لها صورة أخيها أسامة الذي جرح ذات مرة بسبب عنجهية الشباب وولعهم بالتحدي الطائش .. سكبت جام غضبها على تلك الذكرى المباغتة : " هه.. يا لها من سخافة : ثورة وخوف وحرية.. تماما هكذا تصرف أسامة وتخانق مع زميله حول فتاة لمجرد ذكر اسمها .."
سلّت نفسها بحكاية أنثى تسعى للفوز .. واستهجنت ما رددته زميلتها صبيحة هذا اليوم وهما في طريقهما إلى الكلية بأن شهرزاد مومس سعت لقتل سلطة الزمن .. هزت رأسها معبرة عن عدم فهم قصدها بالضبط .. ثم رمقت بسرعة هذه الفتاة الغافية التي تتنفس بخفوت .. وهمست : " هي مناسبة لتكون بطلة رواية مشوقة ، بطلة حقيقية .."
استخفت من أفكارها هذه ، ومن الأناشيد التي تنشد أمام ميت كي يبكي عليه الآخرون أو يروا كم هو عظيم ، بينما هو في لحظة وداع أخيرة .. عابت على نفسها السماح بتمرير مثل هذه الصور البائسة .. ودون القدرة على التفريق بين ما يحدث بالقرب منها ، وبين ما تحمل من أفكار وصلت بها الحالة إلى ما يشبه الإحساس بفراغ لم تعتد عليه .. أخذها إليه من طرف كمها، تحرش بها أبعدته كذبابة ، فخطى فوق إهمالها كإقطاعي متوحش وطلب من أزلامه أن تدفع ثمن سذاجتها وعدم فهمها لما يحدث حولها ، وقبولها لأن تكون عبدة مقيمة في إقطاعيته..
ودون وعي وجدت نفسها الجزء النابض من صديقتها في لحظة نومها وكأنها تحرسها ، أو تحرس نفسها من وجع صديقة ستنتقل عدواه إليها ..
تمددت على سريرها ، وبقيت على هذه الحالة من الاسترخاء المصطنع إلى أن أخذتها فكرة " الموت جزئية الحياة والحياة شاملة وسرمدية".. جزعت من هذه الصورة ، ثم تساءلت حول قدرة سلاف على حمل بعض الأفكار المهمّة دون البوح بها : << - صحيح أنه كان بإمكاني استشفاف بعض ملامحها من تصرفاتها واستقراء ما يدور في خلدها خاصة الجدية والتأمل، لكنني للأسف تصرفت بسطحية معها..
- اخجلي من نفسك يا بنت ولا تتدخلي بخصوصيات غيرك .
- هي صديقتي ..؟
- فعلا ، لكن لم تقل لك شيئا عما تفكرين به الآن ..
كل واحدة منكما في وادٍ.. >>
جلدت نفسها بأسئلة غير منطقية ، تنفست ارتباكها هذا، ومشت فوق ركام أفكارها كمن تمشي فوق أنصال مكسرة من الحيرة.. تركت هواء صدرها منزويا في بهو ضيق لقلقها ، و خلصت إلى نتيجة : << كل يوم تجعلني أقترب منها أكثر، فهي تستحق الصداقة.. لكن لا أعرف كيف سأساعدها .. بالكاد أفهم علاقتي بوائل – الذكر ، لا وائل الحبيب .. الحب يعلمني أنه أقوى من محاولتي لمعرفة معنى الرجولة ، إنه شيء مثل الماء ، بسيط لذا هو عظيم .. لكن المفاجآت من هذا النوع تجعل ابن آدم يتساءل ، وسؤال بعد سؤال يبدأ باختبار نفسه.. والعشق يسهل هذه العملية .. لأنه لا يخضع لإرادة أحد .. إرادته خاصة به لا يمكن أن يمسها أي قوي .. >>
أوقفت هذا الحديث عند أول إشارة حمراء للقلق ، وتركت ما تبقى لديها من صور لبطلات و سير ذاتية لنساء عظيمات قرأت عنهن أمثال آسيا زوجة فرعون والأم تريزا .. منحت نفسها فرصة للتأمل على شاكلة سلاف ، جعلت عينيها الكروانيتين تثبتان إلى زاوية الغرفة ، وجمّدت ترددات قفصها الصدري بحركة صارمة من رقبتها ، وبعد حين جفلت ، وهي تردد قول أستاذ مادة الترجمة : " لا تستهلك طاقة روحك وجسدك حتى النهاية ، بل انتظر أن تتعلم منهما معنى القدرة على التحمل اللامحدود .."
مرَّت فكرة بشكل مباغت شوطا كاد يكون خطيرا على مرمى الصداقة، وفي منطقة الجزاء على شكل سؤال : هل نحن مختلفتان؟ صدتها فورا بشعرة من ضفائرها غطت أفقها المحبوس ضمن جدران الأسئلة غير الشرعية ..
استسلمت لهدنة مع الوقت .. وارتمت في أحضانه كأنثى مهمومة حتى النخاع ..
بقيت الغرفة هي الشاهدة الوحيدة لطالبتين تتنفسان ارتباكاً في رسمِ الاستكشاف قبل انبلاج القانون من فم التفاحة التي غادرت غصنها لتقدم قانونا غيّر تاريخ العالم ، وربما أحلاماً، لكنهما بدتا مختلفتين وهما تغفوان بفعل ما تحمله كل واحدة من تجربة مغايرة..
قرعت سوزان الباب بقوة أيقظتهما، ودخلت:
- ( شايفة أنكم نمتم بكير) على غير العادة؟
أجابت ندى بتهكم:
- تغيير العادة متعة.
- يا جماعة أنا شاطرة، أنهيت محاضرتي بسرعة وأدعوكما لزيارة الشاطئ، أو أي مكان آخر..
- بصراحة.. أنا متعبة وكذلك سلاف.
- أحضر لكما أقراصاً مسكنة؟
- لا.. لا داعي.. نحن بحاجة إلى الراحة (شوية)..
- طيّب، بس ( ترتاحو ) خبروني..
بعد أن لاحظت سوزان جفاء في كلام ندى خرجت، ووعدتهما بالعودة بعد حين..
شعرتا أن الجو مناسب للخروج وكلام سوزان في محله .. واقتنعت سلاف بعد إلحاح ندى، فخرجتا.. وصلتا الصخرة الكبيرة المعتادة على الانتظار الطويل .. جلستا على سفحها كنورسين.. فاق البحر من كبوة ، جلس القرفصاء واستند على عكازه ، ينظر إليهما كشيخ لديه حكمة ينتظر قولها .. انشغلوا معا بالسكون المولود بعملية قيصرية ، وبعد ذلك اطمأنوا على سلامة الموقف ، عاتبت ندى البحر ، واتهمته بأنه كجراح يخفي أسرار مرضاه، ولا يتدخل في الوقت المناسب .. وبعد جدل لا يخلو من العتب .. قامت واقتربت منه ، شعرت بدفء أشبه بنار في شهر كانون ، وطلبت من سلاف أن تقترب ، فاقتربت منها.. حازتها ، كانت موجة تنتظرهما و أفرغت عنفوانها قدامهما .. لفحتهما برذاذ.. ابتسمتا ، اعتلت ضحكة ندى ، بينما ظلت شفتا سلاف تصدر ارتعاشا مقصوص الجناحين ..
أضاف البحر وجبة أخرى من الرذاذ على خديهما.. أحستا باستفزاز ما.. قال البحر:
- أنا لا أحتمل الحزن ، أنا مائدة مفتوحة للكلام والحياة والأعياد واللقاء والأطعمة.. ومستعد لابتلاع أمواجي من أجلكما.. بس لازم ..
اعترضتا على قوله باستدارة مقصودة ، وكأنهما ليستا بحاجة إلى نصائح أحد.. وبعد أن سكت .. اقتربت ندى منه ، رشقت الصخرة بالماء ، ورشقته بمائه مفتعلة هرج ومرج .. كانت سلاف بعيدة ، ولم تتمكن من إيصال قبضة يدها المبللة إليها .. انحنى البحر بتواضع أمام شاطئه راميا حكمته في سلة اليابسة.. نظرت ندى إلى سلاف، وقالت:
- إنه رائع.
- مَنْ؟
- البحر..
- البحر..؟!
- إنه كجدي مُسَلٍ..
فجأة ضاع الكلام خلف زفرة مسترجلة ، راحت تبحث ندى عن مدخل لحديث عن الشباب:
- أنا أحبه.
- أعرف ذلك.
- ماذا تعرفين؟
- أعرف أنك تحبينه.
- مَنْ هو؟
- طبعاً وائل.
- لا.. لا.. أقصد البحر.
ضحكتا.. راحت كل واحدة تبحث عن مسوّغ لهذا الغموض القسري.. تشجعت ندى ، وقالت:
- يجب أن تقيمي لنا حفلة صغيرة كونك التقيت بشخص غالٍ عليك.. بحلم من أحلامك..
- أشعر أنني فقدته، فقدت حلماً رائعاً.. أُصِبْتُ بجرح خطير لا أعرف كيف أضمده .. عندما رأيته كأن صرحاً من صروحي العظيمة انهار أمامي، وهذا ما أريد الإجابة عنه.. أنا عاجزة.. قاصرة أمام قوته الهائلة التي اجتاحتني.
- أكاد لا أفهم عليك.
- أنا لا أفهم نفسي.
- أتحسين برعشة ما أو خوف؟
- لا أعرف.
- يجب أن تعرفي.

descriptionرواية حبٌ أخضر - صفحة 2 Emptyرد: رواية حبٌ أخضر

more_horiz
- حاولت منذ الظهيرة إبعاد فكرة القسم ألا ألتقي شاباً مهما كلف الأمر ، وقلت لنفسي رضوان ليس أي شاب ولن يمنعني من تحقيق هدفي في التفوق.. شعرت كأن داخلي انتفض ضدي.. والذي صرخ في وجهي هو تاريخ ميلادي ومسقط رأسي وأحلامي وأشياء خفية أحس بها ولا أفهمها.. تدعوني ألا أتنازل ولا أكلمه أبداً.
- مجرد نزوة عابرة ؟
- هذا مالا أعرفه.. لا أعرف ماذا يجري لي ..
- دائماً توجد أشياء لا نعرفها، لكن يجب ألا تمنعنا من اتخاذ قرار.
- أي قرار؟
- لا أعرف.. ربما الحب ، أو ..
قهقهت سلاف ، وقالت :
- نعم.. لا أعرف على نقيض من قسمي برأس ضيعتي ورأس أحلامي .. أنا تائهة .. لا أعرف ماذا أسمي هذه الحالة.. أشعر أن طاقتي وتاريخي وأفكاري قد خانتني دفعة واحدة.
- هذه ليست خيانة وإنما مجرد موقف لاتخاذ قرار هام.
- أردته أن يبقى حلماً.. أكبر معه ويكبر معي.. لقد فقدت انسجامي وبعض ما كنت أقدسه ..
- أحس.. أحس أن ما تخشينه هو..
- ماذا؟
- إنك تحبينه.. نعم تحبينه .. أو ..
شعرت سلاف بدوار اجتاح ما تبقى لديها من توازن.. ألزمها صمتاً قابلته ندى بابتسامة رخوة واسترخاء ، ثم قالت:
- نعم.. نعم إنك تحبينه، و غارقة في حبه حتى ( شوشتك)..
لاحت أمام سلاف جروحٌ نازة في جسد البحر ضمدتها بصمت.. تركت ندى ومشت.. بدت الطريق مكسورة الساقين ، وفي رأس الطريق جرح نَزَفها كخثرة دم ، ومسحها عن جرحه لتجد نفسها في الغرفة .. ألقت بجسدها في السرير، بينما استقرت روحها في حقيبة أسئلة غير مرتبة إلى جهة ما..
قررت ندى ألا تثير الموضوع ثانية ، وأن تصبر عليها ريثما تتخذ قرارا بنفسها حول الأستاذ ، إلا إذا طلبت منها ذلك، واعتبرت مشكلتها من حيث المبدأ قضية شخصية بحتة.. ولديها القدرة على حلها بمفردها..
وبعيدا عن الأخذ والرد الطويل حول موقفها هذا ، وجدت ندى نفسها وليومين متتالين أقرب أكثر إلى صديقتها مع ملاحظتها وجود بعض التصنع والمبالغة في هذا التقرب ، دون أن تتدخل في المشكلة خاصتها ..
حاولت أن تشيع الفرح في الغرفة ، وتعمل فيها كخادمة ، علقت صورة كبيرة لحديقة في عز الربيع تفر من الإطار .. وصورة لهرتين في سلة قش .. وراحت تستمع أكثر إلى عبد الحليم وفيروز .. وتصطنع فوضى وقلة جدية ..
مضى يوم آخر على مهل ، تحفزت ندى لترتيب مشروع تسلية مثير .. كما تمكنت من ضبط تصرفاتها وأسئلتها وتجنبت التحرش بها.. ونجحت بإعادة الأمور معها إلى سابق عهدها: أحاديث عن الدراسة والمحاضرات والضيعة والزراعة وأغاني الريف..
مرّ يوم الأربعاء، رفضت سلاف وعن سابق إصرار حضور محاضرة الأستاذ رضوان.. انتظرت ندى مساءً أن تكلمها أي شيء عن المحاضرة.. أيضاً تجاهلتها ، وخرجت وحيدة إلى الصخرة.. جلست عند حافتها.. ضمت رأسها إلى يديها وراحت تحدّق في الأرض.. أحست بثقل ظلها عليها ، وكأن البحر منشغل في معركة ضدها ، استدرجتها كلمات الزميلات اللاتي صادفتهن إلى ما يشبه الفخ وهن يتكلمن بوضوح عنه : أستاذ عبقري، وسيم، رقيق، جذاب، يخلب القلوب.. أستاذ ومثقف ، ونبيل ، وشهم ..
هربت إلى الركن الخفي في روحها .. لحظة تمضي لتكشف عن عمرترجل ، زمن تكثف في حركة من إبهام لا يطيعها ، خلفية مفتوحة لمساحة البصر .. تراشق الأنين والموج بين أصابعها.. ركنت بعض الوقت إلى تلك الصور المتباينة حول تشتتها بفعل شبق غيرةٍ طوتها بدمعة كبرت لتزيد عن بحيرة همٍ ، ودون أن تعرف معناها بالتحديد .. تساقط تماسكها أمامها كأوراق الخريف ، وشعرت بما يشبه العزلة ، وكأنها غزت إبرة في رحم فراغها .. خاطبها ضمير غائبها الذي أشبعها تسلطا على ضمير المتكلم : " هكذا قلن عنه.."
وقعت أناها تحت وطأة ملامحه، انتابتها مباشرة موجة أحاسيس غريبة، رمتها عند أول حفرة صادفتها في أحشاء يقينها ، ثم تساءلت:
- هل هو حقاً عقبة أمام أحلامي، أم أنها (الولدنة )؟
بعد تعثر ، ومهاترة ، همست بتحدٍ :
- إنها أسئلة حمقاء.. ويجب أن أنجح وأتفوق، وكيف لي النجاح دون حضور المحاضرات؟
قالت أناها : ياله من سؤال غبي.
تدخل البحر بشيبته و وقاره، ثم نصحها :
- كوني مثلي، تحت سطحي كونٌ عامر بالحياة، وفوقي هواء شفاف..
تظاهرت بعدم فهمه ، وحاولت استشارة قلبها كيف ستواجه هذا الموقف.. تابع البحر :
- ألا ترينني يا فتاة ؟ حسنا، فلن أدعوك للغوص فيّ، لكنني أبقى نقيا حتى في سائل العيون وفي ماء القلب، و..
تركته يهمس في أذنها ما يشاء كأرستقراطي أكبر همومه كيف سيبتلع مياه الأنهر العذبة .. عادت إلى الغرفة، جلست على سريرها.. وأمامها دفاترها وأقلامها كفتيان غاضبين .. تماسكت إلى حد التظاهر بالورع الخلبي ..
تركتها ندى وخرجت لتمضي سهرة طويلة مع سوزان.. أثقلتها الوحدة بوحدة مضادة قسمت ظنها إلى ظنون ، وهمها إلى هموم.. وهاجمتها ملامح الغد المتعبة، والمحملة بالمجاهيل التي تكرهها.. قابلها النوم كعابر وهمي ، أدخلها خيمته الأشبه بخيوط العنكبوت

descriptionرواية حبٌ أخضر - صفحة 2 Emptyرد: رواية حبٌ أخضر

more_horiz
وجدت نفسها في اليوم التالي وحيدة رغم كثرة المحاضرات، اعترتها عاصفة غامضة لدرجة أنها امتنعت عن تناول الطعام، ورفضت مرافقة ندى وسوزان في مشوار قصير إلى الفرن.. عجزت عن تفسير ألوان هذا الطيف الغامض الذي لبسها ولا تستطيع خلعه : ألهذا الحد أنا ضعيفة، وما ذنب معدتي، فلماذا لا أقدم لها الطعام، ولماذا لا أذهب إلى المحاضرات..؟!.. أنا هنا للدراسة رغما عن أنف رضوان وعن نفسي .. تساءلت بتشدد:
أهذا أنت يا رضوان، أيعجبك ما يجري لي بسببك ؟
بعد السؤال تمرغ وجهها بشحوب ترابي .. وعلا صوتها المبحوح :
- سأصمد في وجهك يا سارق الأحلام..
تعقلت قليلاً، وضعت نفسها أمام مشرحة الأسئلة ومبضع المنطق:
- ما هذا الجديد والمستجد الذي غيّرني؟ .. هل هو وهم أم حقيقة؟ .. ما الذي أخافه ؟
أجابت بتهكم:
لا جديد ولا قديم.. سراب، وليذهب إلى النار، فلن أجري وراءه.. دراستي أولا وأخيرا ، وأنا هنا من أجلها .. لا أكثر ولا أقل ..
حاولت الاستماع إلى الموسيقا متجاهلة المشكلة.. مع دخول ندى كان صوت عبد الحليم يصدح.. حاولت الإسراع بقفل المسجل، أمسكتها من يدها ، وقالت :
- يعجبني .. وإذا كان ..
- (ستوب) لا تكملي ..
- ما راح أكمل ، بس لازم تروقي (شوية) ..
- ( أنا رايقة كتير) ..
شعرت ندى كأن جبلا أُزيح عن كاهلها ، شدت قامتها وسوت جذعها استعدادا لقول شيء هام ، كان إلهامها يدفع بها نحو الاعتراف الفج بأمور حول الطلبة ، توقفت أمام فكرة لامعة، واعتبرت أن مجرد استماعها للموسيقا هو انتصار لوجهة نظرها .. أخرجت من تحت السرير طبق برازق.. وضعته على الطاولة .. جهزت الشاي ، وقالت :" أظن أنك لا تحتاجين إلى عزيمة .." ..
صبت لها الشاي ، وكي تبرهن عن إرادة وتحدٍ تناولت قرص برازق ، حشته في فمها بسرعة ، غصت ، فطارت نثراته في وجه ندى ، استقبلت الأمر بضحكة وناولتها الشاي ، كرعت جرعة ، وخرجت إلى الشرفة وعيناها تنفجر دموعا .. تبعتها.. ربتت بين كتفيها مصطنعة مساعدتها .. رجتها سلاف أن تتركها وحيدة لبعض الوقت .. فدخلت ندى .. لفت نفسها بصمت ، وأحست أن الموضوع جدي ، وعليها التعامل معه بانتباه رغم عناد سلاف واتفاقهما الضمني على مبدأ الحياد .. ثم استدركت أنها مرت بمثل هذه المرحلة من التردد والقلق والتعب النفسي قبيل علاقتها بوائل، وقالت لنفسها:
" ستمر بمرحلة قد تكون عاصفة قبيل اتخاذ قرارها بهذا الشأن المتعلق بمستقبلها.. حتى وإن كانت في السنة الأولى، فرياح العشق لا تعرف سناً محددة، ثم لا بد وأن تتعرض لتغييرات ما على صعيد بنيتها النفسية والعاطفية وعلى صعيد هدفها ، وبين هذا وذاك ستقاوم وتتغير، وفي النهاية ستستسلم لقلبها.. والأفضل أن أطبق وصية أمي بعدم التدخل بين القلب وصاحبه لأنهما دائما يصلان إلى شاطئ الأمان إذا تركا حُرَّيْنِ .."
تخلت ندى عن حماسها وعن أية محاولة لحشرية قد يكون لها فعل عكسي ..
تعاملت سلاف طيلة الأسبوع التالي معها على هذا الأساس.. اتضح لها بالمطلق تغيّر سلاف نحو الأسوأ فالأسوأ.. لاحظت ذبول ابتسامتها، وشحيح صوتها ، وتجهم ملامحها، وضعف تركيزها، وقلة حماسها للدراسة، ونقص وزنها بسبب ضعف شهيتها.. انتبهت إلى ارتخاء بنطالها الجنز ونحول خصرها .. تحملت ندى اضطرابها إلى حد لم تعد قادرة معه على السكوت بشأنها : "هي صديقتي.. وجعها وجعي، وفرحها فرحي، وهي بحاجة لمساعدتي، وحان الوقت كي أتصرف .."
تراجعت عن رغبتها هذه تحت تأثير فكرة سمعتها في مسلسل تلفزيوني " دع كل شيء يمر .. لا تتدخل .. لا تكن عائقاً أمام عبور الأشياء .. فهي في النهاية ستعبر ، والتدخل لن يكون لصالحك .."
قبلت بهذه النصيحة على مضض .. ودون طرح أية أفكار أخرى ..
أبدت عزيمة خاصة ، و لم تقحم وائل في هذه القصة ، وعدّته شخصا غريبا عن شأن البنات ..
مضى بعض الوقت وهي تنظر إلى عذاب هذه الفتاة .. شبهت ساقيها بكوع مدفأة مستهلك .. ولون وجهها كقشر البرتقال اليابس ..
كانتا عائدتين معا من الكلية عندما اعترضهما شابٌ عند المدخل المؤدي إلى السكن .. وبردة فعل حادة ، انحنت سلاف .. سحبت ( مشايتها ) وقذفته بها ، هرب صارخا ، بينما أعادتها ندى لتقرأ أن في سلوكها هذا تصرفا غريبا ..
ودون تعليق ، وجدت أن من واجبها التدخل مباشرة تجاه هذا الوضع السيء لصديقتها ، كما لعنت الأفكار الآتية من المسلسلات التي تكذب على فقراء الفكر من أمثالهن..
كان ذلك في منتصف الأسبوع التالي.. عندما عادت من الكلية ولديها تصميم كامل للتحرش بها ..تفاجأت بسفرها للضيعة بعد أن تركت لها قصاصة من طرف ورقة كرتون مكتوب عليها كلمة واحدة: وداعا..
فهمت منها إلى أين ذهبت .. واعتبرت ذلك حلاً جيداً..

descriptionرواية حبٌ أخضر - صفحة 2 Emptyرد: رواية حبٌ أخضر

more_horiz
مشكور

descriptionرواية حبٌ أخضر - صفحة 2 Emptyرد: رواية حبٌ أخضر

more_horiz
يسلموووو وردة

descriptionرواية حبٌ أخضر - صفحة 2 Emptyرد: رواية حبٌ أخضر

more_horiz
مشكوور اخي

descriptionرواية حبٌ أخضر - صفحة 2 Emptyرد: رواية حبٌ أخضر

more_horiz
مشكورين علي المرور
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد