(1)
صَبِيٌ من النيل الأزرق ملحمة الحياة والحب والأسى في السودان المُستَعمَر 1883-1950
من تأليف : G.balamoan
ترجمة : مصطفى المأمون الشيخ محمد
صَبِيٌ من النيل الأزرق ملحمة الحياة والحب والأسى في السودان المُستَعمَر 1883-1950
من تأليف : G.balamoan
ترجمة : مصطفى المأمون الشيخ محمد
[/center]
مولد الطفل فأل المطر
في يوم سبت من شهر سبتمبر عام 1918 م شعرت وردة زوجة أيوب بآلام المخاض ، كان الناس قبل ذلك العام يسعدون بمقدم كل مولود جديد - ولكن بسبب الجفاف والقحط الذي أصاب البلاد خلال العامين السابقين – أصبح الناس يقابلون هذه المناسبة ببعض الإهمال .لم تذق وردة الطعام طوال هذا اليوم .وتمر الساعات بطيئة ومؤلمة ،حتى جاء المساء ليُسمَع أنينها في أنحاء مدينة ود مدني .جذب ذاك الأنين كثيرا" من السكان و لكن كانت كل حيلتهم التشجيع والدعاء .
اقترحت القابلة عمل قطع بالسكين وسحب الجنين باليد حفاظا" على صحة الأم ، ولكن وردة - على ما بها من ألم - أبت ذلك في إصرار، مفضلة حياة الجنين على حياتها .بعد ذلك توالت محاولات العاجزين .البعض لم يملك إلا الدعاء وآخرين قاموا بمسح جسمها بزيت السمسم وغيرهم حاولوا مساعدتها على السير .
وسط هذه المعمعة والأنين والألم واليأس ،لم يشعر الحضور إلا بغزال كبير يقف وسط الحوش -كأنه جاء يستقصي الخبر ويشارك في المحاولات اليائسة – وجم الحضور برؤية الغزال في وقفته الوديعة واستطاعت إحدى النساء الخروج من هذا الوجوم وصاحت : ( الكرامة .. الكرامة .. الكرامة جاءت بكرعينها يا ناس ) . ولفت هذا الصياح الرجال بالقسم الآخر من الحوش .أغلق أحدهم الباب بخفة وأمسك بالغزال وذبحه في الحال .طلب من وردة التحامل على نفسها والتعدي فوق الغزال المذبوح وسط صيحات أمها خالدة المفعمة بالتفاؤل : ( هيا يا وردة .. عدي ، لقد أرسلها الله لنا لتكون فداء" لك و لمولودك ) .فقامت وردة تقاوم إعيائها لتعدي فوق الذبيحة وهي تنظر متضرعة إلى تباشير الفجر اللائح على الأفق في منظر تتفطر له القلوب، و جو تتجاذبه المشاعر ما بين الدم المسفوح والدمع المدفوق .. ما بين اليأس والأمل .وقفت وردة على رجلين مفراكتين ،وقد بلغ الألم منها ما بلغ .لم تعد قادرة على الصراخ ،لم تعد قادرة حتى على التألم. ودخلت الأم خالدة في نوبة بكاء كأنها تنوب عن أبنتها .
ما إن أُخذت وردة إلى داخل الغرفة الطينية حتى تبدل الكون !! السحب تتراكم .. الرعد يدوي و العبادي يشيل والجميع في دهشة ،أفعمت القلوب _ رغم الخوف - بالحياة والتزم الجميع الصمت .حتى وردة كأنها استعاضت عن صراخها بصراخ الكون وعن تضرعها بصلاة الكون .
توالت الأحداث عاصفة :النوافذ تزداد اهتزازا .. السماء تزداد لمعانا وصاعقة تضرب شجرة اللالوب وسط الحوش فتحيلها إلى كتلة حمراء ملتهبة .
جاء الفرج عند بزوغ الفجر . ففي اللحظة التي كانت فيها وردة تضع مولودها – أرسلت السماء رحمتها مطرا يزيل رماد السنين المتراكم . جاء الفرج وسط معزوفة كونية لا تتكرر كثيرا ، المطر ينزل ،المؤذن يؤذن لصلاة الفجر ، جرس الكنيسة الأرثوذكسية يرن لصلاة الأحد ،الديك يصيح بإعلان يوم جديد ،وردة تصرخ بإعلان مولود جديد والأم خالدة تزغرد بإعلان نهاية المأساة .
بعد أن أُضجعت وردة على سريرها ، غسلت بالماء الدافئ ،ومسح جسمها بزيت السمسم . نودي على أيوب ليرى زوجته والمولود .ما أن رأى أيوب وجه وردة الممتق كالوردة الذابلة، ارتاع وأسرع الخطى ليطلب العون من الإدارة الإنجليزية .ما لبث أن عاد وبصحبته طبيب إنجليزي _ في الأصل طبيب بيطري _ .جاء الطبيب بصحبة زوجته الممرضة .
بدأ الزوجان على الفور في عملهم ومحاولة إيقاف النزيف وتطهير الجرح .وأشاروا في كبرياء استعماري إلى انه لولا استدعاءهم لكانت وردة في عالم آخر .وصرخت الممرضة بنفس الكبرياء :(أوقفوا هذا الجهل ، إنكم تقسون على أنفسكم أكثر مما يجب .لا تحاولوا خياطة الخفاض مرة أخرى ولا تضعوا الجردق (ملح صخري ) علي المهبل وعليكم تنظيف الجرح بهذا المطهر والقطن).
في اليوم السابع ذبح خروفان للسماية والكرامة .قدمت الفتة للضيوف وسط بهجة الجميع بالطعام والمطر ،التي يعتقد البعض أن المولود قد جلبها معه وكان من محاسن الصدف أن ذلك العام كان عام خير وفير أعقب سنين القحط السابقة ..