عند المحطة الوسطى بالخرطوم، كنت أقف وحيدا ،بعيدا عن رواد المقهى ،الذي يضج بهم المكان . كان في نيتي الذهاب لزنك اللحوم والخضار ثم العودة لمنزلنا.ولكن وجدت نفسي أكِر راجعا بشارع السردار كتشنر . وعندما وصلت فندق رويال عند تقاطع شارع فكتوريا ، شعرت بدوار ، فجلست على كرسي صادف وجوده هناك تحت ظل شجرة أمام مدخل الفندق . في الجانب المقابل من الشارع مقر شركة تجارة السودان المحدودة ( سودان مركنتايل) .من مجلسي ذاك يمكنني رؤية المدير الإنجليزي ،جالسا خلف مكتبه ،والباب مفتوحا على مصراعيه . قمت من مكاني واتجهت نجوه ، وجدت نفسي أدخل مكتبه وأنا غير مباليا.فقلت باندفاع : ( سيدي .. إنني أبحث عن وظيفة .. فأنا أجيد النسخ على الآلة الكاتبة وأجيد تنظيم الملفات و أستطيع قيادة الشاحنات الثقيلة ).نظر لي الإنجليزي باستغراب ، قد يكون بسبب الطريقة الرعناء التي دخلت بها المكتب و قدمت بها طلبي .اربكتني نظراته وأشعرتني بالخجل. بعد برهة خلتها دهرا أجاب الرجل : (أتستطيع النسخ والقيام ببعض الأعباء الحسابية ؟ .. خذ أنسخ هذا على تلك الآلة ). جلست إلى آلة النسخ - القارئ يعلم مدى كراهيتي لها وسبق أن قمت بإتلافها مرتين -_ ولكن هذه المرة جلست إليها بتلهف وأنجزت ما طلب مني . عندما وضعت نتيجة النسخ أمامه ، نظر إليه مليا ، - في تلك اللحظة نظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار خلفه ،وقد كانت تشير إلى خمسة دقائق بعد الثانية عشر _ هز المدير رأسه علامة الرضا ، ثم دعا الباشكاتب طالبا منه مساعدتي في ملء استمارة طلب التوظيف . بعد نصف ساعة أي في الساعة الثانية عشر وخمس وثلاثون دقيقة ، تم توظيفي مشرفا على البريد الصادر والوارد ، براتب شهريا قدره خمسة جنيهات في الشهر، على أن أخضع لفترة تجريبية لمدة شهر .لم أصدق أذني عندما أخبرني المدير بذلك ، فخلال الثمانية أشهر الماضية لم أترك مكانا لم أذهب إليه , حتى إني فكرت أن أصرف نظرا عن البحث ،وأمكث في البيت حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا