منتديات السديرة
أنت غير مسجل لدينا . للتسجيل اضغط على زر التسجيل


منتديات السديرة
أنت غير مسجل لدينا . للتسجيل اضغط على زر التسجيل

منتديات السديرة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات السديرةدخول

رواية "صبي من النيل الأزرق

power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد
+6
وحيدة بدنيتي
ابوالزهور
monty
moon love
wellyee
عسيلاتي
10 مشترك

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
الآن أكملت نصف عام في وظيفتي .. أذكر ذلك اليوم جيدا ، إنه في أغسطس من عام 1944م . وفيه أخبرني أحمد بيه أن الألمان قد أخلوا باريس، وبذلك نجت مدينة النور من الدمار بواسطة ماكينة الحرب الإنجليزية الأمريكية .منذ مجيئنا الخرطوم أصبحت زياراتي لفؤاد وعزيزة قليلة ومتباعدة .حالة منزلنا المخذية لم تشجعني على دعوتهم لزيارتنا في منزلنا ، وأنا واثق إنهم يقدرون ذلك . في أحد الأمسيات أحست عزيزة بالصراع الداخلي الذي أعانيه فقالت لي: ( إنني أحبك وسوف أنتظرك لآخر العمر . أجعل ثقتك في الله كبيرة .. إنني أؤكد لك بأن هذه الأزمة إلى زوال .. وأن المستقبل يحمل لك حياة عملية مستقرة ، كما تنبأ بذلك القسيس إنك لست الوحيد الذي عانى من سياسة الحكومة الخرقاء ). لقد كان كلامها بلسما بعث في نفسي روحا جديدة ، وأزال من نفسي تعذيب الضمير الذي يشعرني إنني قد أجرمت في حقها وجعلتها كالمعلقة .عندما نقلت هذا الكلام لأمي وردة ، قالت : ( إنها تضئ مثل القمر في الليل .. وتشع مثل اللؤلؤة في الطين .)


**


في أحد الأيام طلبت من مستر فيروذر أن يزيد راتبي ، فقال لي :
- كم تستحق ؟
فقلت دون تردد :
- عشرة جنيهات !
- لابد أنك تمزح !
- هذا هو آخر ما لدي .. إنني أحب فتاة وأريد أن أتزوجها و …
قبل أن أتم جملتي وجدته ، يدخل في نوبة من الضحك حتى ظننت أنه قد جن .نوبة اهتز لها كل جسده ، ودمعت عيناه ،وأختلط سعاله مع ضحكة حتى جحظت عيناه.ذهبت مسرعا للبوفيه لأحضر له كوبا من الماء، عندما عدت وجدته قد هدأ قليلا . أخذ الكأس وشرب منه جرعتين ثم مسح عينيه من الدموع ، تناول سماعة الهاتف ليحادث المدير المالي الإنجليزي : ( معي هنا صوص .. يطلب المزيد ، لأنه يريد أن يتزوج ) ثم أعقب ذلك بضحكة ووضع السماعة .جاء المدير المالي وانضم إلينا وباقي الضحك ما زال عالقا بعضلات وجهه ثم قال :
- كم يطلب هذا السعيد ليتزوج ؟
- يقول إنه يستحق عشرة جنيهات !! هل يمكننا زيادته جنيها أو جنيهين ؟ لأنه قد اجتاز فترة التجربة بنجاح
- لا مانع من زيادته جنيهان ، علها تحقق له مشروعه.
ثم التفت إليَ متسائلا :
- هل هذا يكفي؟
- في الوقت الحاضر أشكرك ، ولكن هل من زيادة أخرى بعد شهرين؟ إنني أؤدي عملي على أكمل وجه، أليس كذلك ؟
- يا لك من اوليفر تويست !! الآن أخبرني هل تعرف هذه الفتاة من قبل أم اختارتها لك أمك ؟
قلت له : ( أولا لن أتكلم عن اوليفر تويست ، لأنني لا أعرف ماذا تعني به ..) ثم حكيت له قصة حبي من الألف إلى الياء .قد أدهشني استماعه لقصتي بكل اهتمام واحترام .لقد كان هذا الإنجليزي مختلفا عن غيره .كنا نحبه لأنه يكلمنا قليلا عن نفسه وعن بريطانيا ويهتم بالشؤون الخاصة لمرءوسيه في القسم ، ويقدم لهم المساعدة الممكنة
.

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
كانت هناك فتاة سورية الأصل من المواليد ، كثيرا ما تزور مستر فيروذر في مكتبه .كانت تدخل إليه من الباب الخلفي ، المطل على شارع السردار كتشنر.كانت فتاة جميلة ، حسنة الهندام والمظهر ،ذات شعر أسود طويل. كانت تجلس واضعة رجلا على الأخرى ، كاشفة عن ركبتيها.كنت لا أتبين كلامهم ،لأنهم يتكلمون في همس.كان ذلك غير عاديا أن ترى فتاة من المواطنين أو المواليد مع رجل إنجليزي .بعد عدة سنوات من تركي العمل في هذه الشركة ، سمعت أنهما قد تزوجا . ألم أقل لكم أن مستر فيروذر إنجليزيا من صنف آخر. مقابل هذا كان هناك صنفا ماسخا من الموظفين الإنجليز: موظف عمل لعشرين عاما في السودان .كان جلفا متعجرفا. تعمل معه فتاة إنجليزية في وظيفة ناسخة على الآلة الكاتبة ، سمعته يشتمها ويصفها بالبقرة الغبية .كان هذا بمثابة الصدمة لنا . لم يسبق أن سمعنا رجلا إنجليزيا يتلفظ بمثل هذا . قلت لنفسي: لا بد أن طول مكوثه بالسودان ، جعله يتعلم هذا منا ،بالرغم من قلة احتكاكه بنا ..عندما خرجت الفتاة من عنده باكية ، ذهبت لها وطيبت خاطرها وأحضرت لها كوبا من الليمون.عندما أخبرت عزيزة بذلك ، ضحكت قائلة : ( تتقرب لفتاة إنجليزية ‍!إن أمثالك لأمثالي .. هل تسمعني !؟ )
هناك كثير من الإنجليز يعملون في شركتنا ، معظمهم ميكانيكيون ولكن مثلهم مثل كل الإنجليز الموجودون في السودان ، يحيطون أنفسهم بكثير الغموض .كنا نادرا ما نرى المدير العام ، كنت في بعض الأحيان أجده قربي ليراجع حساب الطوابع ، كنت أتضايق من هذا ، وأعتبره نوعا من عدم الثقة .كنا نسميه فرس البحر لأنه يشبهه .في أحد الأيام بعثت له كشف حساب بمبلغ عشرة جنيهات ، قيمة بريده وبرقياته الخاصة التي يرسلها لعائلته وأصدقائه في لندن .في ذلك اليوم استدعاني إلى مكتبه ، كانت تلك أول مرة أدخل فيها مكتبا مكيف الهواء .دخلت مكتبه المكيف ولكنه لم يدعني أهنأ بالتكييف .صاح في وجهي غاضبا ،حتى إنني خشيت على وظيفتي .طلب مني ألا أرسل له مثل هذا الكشف مرة أخرى . ولكنه لم يبصرني ماذا أفعل بالضبط ، ففهمتها من نفسي وصرت أدونها تبع منصرفات الشركة ، ولكنني أحتفظ بها في كشف خاص أحفظه لنفسي .
من أطرف الشخصيات في الشركة ذلك القبطي الضئيل الحجم .وهو من الأقباط المصريين ولكنه يتظاهر بأنه من المواليد ويحاول تقليدهم .كان طوله لا يتجاوز الخمسة أقدام ، مع نحافة بادئة بالرغم من أنه يكثر من أكل الفول السوداني والبلح .لاحظت أنه يكره لبسي للقبعة في المكتب ،خاصة وإنني لا أخلعها طوال فترة العمل. اختلاف طبيعتنا ساعد في نمو العداء بيننا . هذا العداء جعلني استدعي الجوانب السيئة من طبيعتي.كان دائما ما يخترع لي أعباء إضافية ، ليحوز رضاء رؤسائه على حسابي .ولكنني كنت دائما ما أنجح في إحراجه والسخرية منه ، لأنني اكتشفت ضعف شخصيته .كان من القلائل الذين يملكون سيارة في ذلك الزمن ، وحتى هذا الجانب لم ينجَ من تشنيعي عليه ، فقد كان لضآلة جسمه ، يكاد لا يرى وهو يمسك بمقود السيارة . فقلت له في أحد الأيام أمام جمع من الزملاء : ( لقد رأيت سيارتك تعبر جسر النيل الأزرق دون سائق ، يالها من سيارة ذكية ) .انفجر الزملاء ضاحكين . نظرت له خلسة , فوجدت تعابير وجهه جامدة كأن شيئا لم يكن.مما جعلني أندم على تصرفي الصبياني . ألم أقل لكم أن هذا العداء قد استدعى جوانب الشر الكامنة في طبيعتي. ولكن إنصافا له أقول إنه كان محاسبا ممتازا ويجيد اللغة الإنجليزية .
في نهاية عام 1945م ، وبينما أنا أجهز البريد الصادر إلى مقر الشركة بلندن . قرأت في إحدى المستندات أن الشركة قد جنت أرباحا من عملها في السودان بما يقدر بربع مليون جنيها .قلت في نفسي : ( كل هذه الأرباح ولا يدفعون لي سوى حفنة من الجنيهات !) .أحيانا يكون الجهل رحمة ولكن محدثكم لا يرضى أن يكون جاهلا . منذ أن اكتشفت أرباح الشركة لم يهدأ لي بال ، فقررت إمَا أن يزيدوا راتبي أو أذهب لأبحث عن عمل في مكان آخر
.

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
بعد عامين من توظيفي في هذه الشركة أي عام 1946م ، كان راتبي في حدود عشرة جنيهات . ولكن احتياجاتنا في ازدياد . مالك المنزل الحاج دنقس يطالبنا بزيادة الإيجار . منزلنا يحتاج لفرش وأثاث، لأنه ومنذ قدومنا من عطبرة قبل ثلاثة سنوات لم نضف فرشا ولا أثاثا .عندما بدأ الطلب على الوظائف الكتابية يتحسن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، بدأت أبحث عن البديل .وجدت وظيفة مؤقتة في شركة شل للبترول وكان ذلك في عام 1946م.كانت وظيفة مؤقتة لأنني لا أعتبر مواطنا سودانيا!.
مستر فيروذر سبق أن وعدني بإيجاد فرصة عمل لأخي خالد .تعمدت أن أناقش معه هذا الموضوع في حضور صديقته السورية .عندما سألني عن الشركة التي سوف أنتقل إليها قلت له بافتخار : ( شركة شل للبترول .. براتب خمسة عشرة جنيها شهريا ) ثم نظرت في وجهه لأرى تأثير ذلك عليه ، فلم أرَ أي أثرا للاستغراب .أخذ غليونه وجذب منه نفسين وحدّجني بنظرة ثم قال: ( أجر زهيد !! إنهم أغنياء ).لم أهتم بملاحظته , فقلت له مودعا : (أشكرك لعطفك وتفهمك . إنني واثق أن أخي خالد سوف يكون أفضل مني …. وأرخص !) نظرت نحو الفتاة فابتسمت لي وهمست لها بالعربية قائلا: ( إن السعادة تنتظرك مع هذا الرجل !) فأحمر وجهها خجلا.فقال لنا بابتسامته الرائعة : (كفى همسا ). فشكرته مرة أخرى وودعت الفتاة بابتسامة ثم غادرت المكان.

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
كنا أنا ورمسيس وخالدة مدعوين في منزل فؤاد بمناسبة وداع أحمد بيه وزوجته .بالرغم من الضحك والأنس الذين سادا تلك الجلسة، لم يبرح ذهني بأنني قريبا سوف أفتقد صديقي المخلص ,الذي لم يخذلني يوما.أحسّت عزيزة بحالتي فحولت الموضوع قائلة : ( إننا محظوظون لأننا هنا في سلام .. لقد قرأت عن المدن الألمانية التي مسحت من الوجود .في درسدن وميونخ أزهقت أرواح ملايين الأرواح البريئة ، من المسئول عن كل هذا ؟) . قلت أنا : ( هيروشيما ونجزاكي ) فقال أحمد : ( لقد خسرت روسيا ثلاثة وعشرون مليون قتيلا وكسبت ثمانية عشر مليون معوقا . هل ستحقق محكمة نيرمبرج في الأسباب الحقيقية للحرب ) قالت خالدة : ( عمّ تتحدثون ؟ يا لي من جاهلة ) فقالت لها عزيزة : ( إنني أيضا سياسية مستجدة .لقد قرأت هذا في المجلات المصرية ) ثم التفتت إلى أحمد وزوجته عواطف قائلة : ( إنكم ستتركون بيننا فراغا كبيرا )
أصبحت أكثر اهتماما ، بهذا النوع من المعرفة ، كلما قرأت في هذا المجال كلما تفتحت شهيتي للمزيد.كنت أمرر كل ما يقع في من هذه الموضوعات إلى عزيزة التي كانت قارئة نهمة .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(42)




زواجي من عزيزة
يناير 1947م


في شهر مايو من عام 1946م ، كان راتبي الشهري من شركة شل خمسة عشر جنيها . كان نظام العمل فترة واحدة : من السابعة صباحا إلى الثانية بعد الظهر. هذا ما أغراني للبحث عن عمل آخر في الفترة المسائية .في شهر أغسطس من نفس العام ، وجدت فرصة وظيفية للعمل مساء مع شركة بِرّوتا إخوان براتب وقدره ستة عشر جنيها للعمل في الفترة من الخامسة مساء إلى الثامنة ،لخمسة أيام في الأسبوع .ما بين يوم وليلة وجدت أن دخلي الشهري قد أرتفع إلى واحد وثلاثون جنيها ‍‍!!
الآن بدأت عليّ سمات البحبوحة.: صرت من رواد العظمة (عربة تجرها أربعة خيول) ،اشتريت ملابسا جديدة. صرت أهتم بهندامي وأحلق لحيتي كل صباح.صرت أرش على نفسي ماء الكولونيا، قبل ذهابي لزيارة فؤاد وعزيزة. . بلغ بي الشعور بالغنى لدرجة إني اشتريت مذياعا مستعملا من أحد خواجات الخرطوم .بدأت الراديوهات تظهر في بعض والمقاهي والبيوت وخاصة بيوت الأجانب . لقد كنا من أوائل السودانيين الذين أدخلوا هذا الاختراع إلى بيوتهم .شرحت لوالدي طريقة التشغيل .كانت أمي تستمتع للموسيقى التي تهواها ، وبمرور الأيام أصبحت تستمع للحديث السياسي من القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية.


**


كان ذلك في منتصف عام 1946م ، عندما أُعلنت خالدة كأول فتاة سودانية ، تنال شهادة أكسفورد الثانوية.وكانت تلك أقصى مرحلة متاحة لتعليم البنات في السودان. كانت في ذلك التاريخ لم تتجاوز السادسة عشر ربيعا . كنا جميعا فخورين بها وخاصة وردة وأيوب .في الأسبوع التالي وجدت وردة وظيفة في شركة الخطوط البريطانية لما وراء البحار , التي افتتحت فرعا حديثا لها في الخرطوم .كان راتبها الشهري خمسة جنيهات مقابل العمل ثمانية ساعات مقسمة على فترتين، صباحية ومسائية .
في أحد الأيام رجعت خالدة من العمل ،وهي في غاية الغضب.سرعان ما تحول غضبها إلى نوبة من البكاء. كان ذلك بسبب اكتشافها أن زميلتها الإنجليزية تأخذ ثلاثين جنيها مقابل العمل لفترة واحدة ، قالت خالدة بعد أن كفكفت دموعها : ( في صباح الغد إذا لم يساووني بزميلتي فسوف أقدم استقالتي ) . فصحت أنا مصفقا ومشجعا : ( برافو … برافو .. ). جاءتنا خالدة بعد ظهر اليوم التالي والخيبة تطل من عينيها ا الجميلتين .. لقد تم فصلها .لقد شكّل هذا الحادث نظرتها نحو كل شئٍ بريطاني .بالرغم من حزن أيوب إلا أنه علّق قائلا : ( هل تحسبين أن الإنجليز قد جاءوا إلى هنا من أجل سواد عينيك !!؟ ).بعد شهر وجدت خالدة وظيفة في أحد البنوك براتب شهري قدره اثنا عشر جنيها.
عندما أخبرت أحمد بيه بقصة خالدة ، قال : (نصف مشاكلنا من صنعنا والنصف الثاني من صنع الإنجليز و الخزر" اليهود الأوربيين" َ.هذه الأيام يخططون لخلق كيان يسمونه إسرائيل ، سيبنونه فوق جماجم الفلسطينيين .إنني أسى على الأجيال القادمة من اليهود ، لأنه ولو بعد مائة عام ، فإن فلسطين سوف تعود إلى أهلها .ودم هذا الجيل من اليهود سوف يكون في عنق المجلس العالمي لليهود.)
في ذلك الوقت بدأت المنشورات السياسية تظهر في السودان .كانت جل مواضيعها عن مصر والسودان وفلسطين .لقد صرت من ضمن الموكل لهم توزيع هذه المنشورات .و اشتريت دراجة خصيصا لهذا العمل . كنت آخذ حصتي منها ، وأقوم بجولتي الليلية في المنطقة المحددة لي .كنت لا أترك أيّ نسخة في البيت خوفا من إقحام أهلي في مشاكل سياسية .ازدادت معزتي لفؤاد عندما علمت بتعاونه مع أحمد بيه في هذا النشاط .
بعد التحسن الملحوظ في أحوالنا انتقلنا، إلى منزل آخر به كهرباء .بإيجار قيمته عشرة جنيهات شهريا . اتصلت بنا إدارة مدرسة الراهبات وأبلغتنا بوجوب دفع المصروفات كاملة لأخواتي سمسومة وإيزيس وقد قبلنا ذلك بكل طيب خاطر .الآن أصبحتا من ضمن ركاب الحافة المدرسية التي توصلهم حتى منازل هيئة السكة حديد
.

**


الآن و بعد تحسن أحوالنا لم نصبح من ضمن طبقة البرجوازية الخرطومية التي بدأت تنشأ في ذلك الوقت فحسب،بل كنا نعد من الطلائع المؤسسة لها. بهذا الوضع الجديد ، صرنا نتبادل الزيارات العائلية مع فؤاد.أحبت عائلتي عزيزة ، وكانت تفرحهم مناداتها لوردة بكلمة أمي.
الآن الطريق ممهد لنكمل أنا وعزيزة زواجنا ، وتم لنا ذلك في شهر يناير من عام 1947م .قررنا أن يكون الاحتفال مبسطا . دعونا حوالي مائة شخصا ، إضافة لمائة آخرين دعوا أنفسهم ومائة من متسولي غرب إفريقيا تجمعوا خارج الكنيسة
.

**


عزيزة في نظري هي أجمل مخلوق يمشي على الأرض .كما ذكرت سابقا ،فهي معياري لجمال الأخريات .على عكس قانون الطبيعة ، كان مرور السنوات يزيدها جمالا . عندما كنت أقف قربها أمام الكنيسة ، كانت تصل لأذني آهات الإعجاب من جمهرة المدعوين والمتطفلين .كانت هذه التعليقات تجمع ما بين الإعجاب والحسد .فتح أحدهم فمه دهشة وقال : ( يالك من صياد ماهر .. صوص .. أين وجدت هذا الغزال !؟ ) .رد عليه رفيقه : ( لقد انتظرته عدة سنين ! هذا هو الحب ! وتلك هي الرومانسية التي نسمع بها ) .
في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالمسالمة بدأ لي أن القس يطيل في المراسيم .قلت لنفسي : ( مهما أطال فلن أزيده عن العشر جنيهات ) .لقد كنت في عجلة من أمري ، لأنفرد بعزيزة بعد كل هذه السنين من الانتظار .عندما طلب منا القسيس أن نتشابك بالأيدي ونضع رؤوسنا مع بعض ، ضغطت على يدها وهمست في أذنها : ( ألم يطيل ؟) فردت هامسة (بلى ) ثم التفت إلى صديقي نصيف وقلت له : ( أطلب من الأب أن يسرع لأن العروس مصابة بالدوار.إن الرب قد سمع وبارك منذ زمن، فلم هذه الإطالة ؟ إننا نكاد أن نختنق .. هل من جرعة ماء ؟) . أسرع نصيف وأحضر لي ماء .أخذت الكوب وناولته لعزيزة لتشرب أولا .ما إن رأت مجموعة النسوة بأنني آثرت عزيزة وأعطيتها لتشرب أولا ، حتى انفجرن بالزغاريد تحية لهذا الإيثار .إن هذا القسيس هو نفسه الذي باشر عقد قراننا ، ولكنه في هذه المرة قد دعا قساوسة الخرطوم والخرطوم بحري ليشاركوه في تقديم هذه الخدمة المميزة .كان ثلاثتهم مع مساعديهم يقومون بتلاوة التعاويذ وبعض مزامير داؤود . طلب القسيس من عزيزة أن تكون مطيعة لزوجها ، وهنا قلت لها : ( هل تسمعين يا امرأة ؟ ) وضج الحاضرون بالضحك . استمر القسيس في إسداء نصحه طالبا من العروس أن تتصرف مثل سارة زوجة إبراهيم عليه السلام التي تنادي زوجها يا سيدي . كانت ذروة الاحتفال عندما تبادلنا خواتم الزواج . ارتفعت الزغاريد وازدادت الطبول النحاسية حماسا .قدم للعروس كأسا فضية مملوءة بالشمبانيا لنشرب اقتداء بحنا الجليل .أخذت منه جرعة وعندما مرر لي كدت أن أقضي عليه لولا تنبيه نصيف عندما همس لي : ( رويدك .. رويدك .. دع قليلا للآباء الكهنة ليشربوا ) . مررت كأسا شبه خالية للقسيس الذي أخذ قليلا ومررها خالية لقسيس الخرطوم الذي تظاهر بالشراب .
أخيرا أعلن زواجنا الذي انتظرناه طويلا. جاءت امرأة قبطية وأعطت عزيزة ربطة ملوخية ضخمة لتحملها في يديها . وجاءت مجموعة أخرى لتنثر أرزا وقمحا وبلحا تحت أرجلنا .ازداد الضجيج واختلط الحابل بالنابل ونحن في طريقنا لمنزل فؤاد..هناك في منزل فؤاد تناولنا طعامنا وتقسم المدعوين زرافات يتحدثون بصوت عالي . والأطفال يلعبون ويلهون حولنا .لقد افتقدت ثلاثة من أحب الناس إليّ في هذا اليوم :- لبيب ، أحمد بيه وديمتري .الأخيرين أبعدا إلى مصر نهائيا . لقد كانا من ضمن آخر فوج أبعد من السودان . وبرحيلهما اكتملت حلقة إبعاد المصريين من السودان ضمن السياسة المعلنة والتي كنت أحد ضحاياها .كنا في غاية التعب والإرهاق والتلهف أن نكون لوحدنا بعد كل هذه السنين من الانتظار . ولكن يبدو أن الانصراف آخر ما يجول في ذهن الضيوف .بعد منتصف الليل بادر أصدقائي حسن وصلاح ونصيف بالطلب من الضيوف الانصراف ، لأن العروسين في غاية التعب.
أخيرا ..أخيرا وعند الساعة الثانية صباحا صرنا أنا وعزيزة لوحدنا .كنا في غاية التعب والرهق ، مثل حالة العداء عندما يصل نهاية المضمار .
بعد أيام أخذت عزيزة لجرّاح إغريقي ليصلح لها ما أفسده الخفاض .بعد أن أدى الجراح مهمته على أكمل وجه ، نصح أن تكون تحت الرقابة الطبية في حالة حدوث حمل.لقد بدأنا ممارسة حياتنا الزوجية الحقيقية بعد ستة شهور من ذلك.
انتقلنا إلى منزل في حي بيت المال ، يقع على نهاية خط الترام على شاطئ النيل . بعد أيام قليلة م انتقلنا إلى منزل آخر قرب ميدان العرضة على بعد ميلٍ واحد من جسر النيل الأبيض . إنه واحد من ثلاث منازل ورثها فؤاد وأختيه من والديهم .يتكون المنزل من ثلاثة غرف مساحة كل منها ستة وثلاثون مترا مربعا.، تربط بينهم فراندا طولها أربعة وعشرين مترا ، وعرضها ستة أمتار .كل هذه المباني لا تحتل إلا الثلث من المساحة الكلية للمنزل .يبعد المطبخ عن الغرف بحوالي خمسون مترا . وفي ركن قصي آخر يوجد الحمام والمرحاض . لقد قمت بإضافة حمام آخر بالقرب من غرفة النوم لا نستعمل فيه الصابون ، لأنه لا توجد مجاري ، تترك الماء تنساب على أرض الحوش ، فيتسرب جزء وتقضي حرارة شمس أم درمان على الباقي.كنا نستعمل الحمام البعيد للاستحمام بالصابون . توجد بالحوش خمسة شجرات جوافة ونخلتين .يقال أن رودلف سلاطين قد سكن هذا المنزل في عهد الدولة المهدية . قام والد عزيزة بتجديده قبل وفاته حوالي عام 1930م.قامت عزيزة بمساعدة وردة بزراعة الحوش بالزهور وخاصة الياسمين

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
كان الحب والتقدير متبادلا بين عزيزة و الحبوبات، وكانتا ينادينها بالملاك .في أحد جلسات الجبنة طلبت من حبوبة الشول قراءة الطالع .أحضرت حبوبة صرتها المشهورة وفرشت الرمل أمامها .كعادتها قامت حبوبة برمي الودع خمسة رميات خفيفات ، وكانت تكلم نفسها بين كل رمية وأخرى .في أحد الرميات توقفت حبوبة مدة أطول وأخذت تغمغم .شعرنا أن هناك أمرا جللا . ونفذ صبرنا جميعا ، وقلنا لها بصوت واحدٍ: ( ماذا هناك ياحبوبة ؟) . هنا قالت بصوت حزين : ( إن شخصا عزيزا سوف يموت .. هذا الشخص هو أنا ، إنني قد بلغت أرذل العمر .) . هنا قامت عزيزة وقبلت العجوز قائلة : ( لماذا تريدي أن تخوفينا ؟ يحفظك الله ويعطيك طول العمر … قولي آمين .) . وهنا تدخلت حبوبة خالدة ، معنفة صديقة العمر بقولها : ( الشول … أنت تعلمين جيدا إن الودع لا يخبر صاحبه بقرب موته . ثم إنك قلت شخصا عزيزا ،هل هناك من يصف نفسه بأنه عزيز ؟ الشيطان وحده الذي يفعل ذلك .وأنت لست بشيطان ) ثم ضحكت وضحكنا معها جميعا معجبين بقوة حجتها.. قالت أمي وردة في حزن : ( اللهم أجعله خيرا .. لدينا أعزاء كثر … تنبؤات الشول دائما ما تصيب ، ربنا يحفظ الجميع ).هروبا من هذا الجو الذي خلقته النبوءة ، ذهبنا جميعا في ذلك المساء لدار السينما

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(43)


الحياة الجديدة


أصرت عزيزة على الحبوبات أن يعيشان معنا . فذهبتا لود مدني وأحضرتا أغراضهما من هناك.قمت ببناء غرفة مع فراندا خصيصا لهما ، وكان ذلك قرب المطبخ بناء على طلبهما.كنا يقمن بمعظم الأعباء المنزلية ، وبالذات صنع الكسرة . كما كنا يجلبن احتياجات المنزل من السوق .
لم تكن عزيزة تغير من التعليم الذي حازته خالدة. بل كان رد فعلها إيجابية ا وبناءًة ، إذ طلبت منها أن تساعدها في تعليم نفسها، واستعارت كل كتبها الموجودة.، مما مكنها من إكمال مقرر الخمسة سنوات في سنتين.
لم أتوقف عن دفع مبلغ العشرة جنيهات قيمة إيجار منزل الأهل زائدا جنيها للماء والكهرباء . خصصت عشرة جنيهات في الشهر لاحتياجاتنا اليومية .استأجرنا امرأة هوساوية للغسيل والنظافة، أما كي الملابس فقد كنت أقوم به بنفسي .كما خصصت جنيهين للماء والكهرباء والفحم والكيروسين.كنت أعطي جنيها للحبوبات كمصاريف شخصية ولكنهن كنا يصرفنه على البيت . كنت أصرف على المواصلات و منصرفاتي الشخصية مبلغ ثلاثة جنيهات مع العلم بأنني لا أدخّن ولا أتناول الكحول.بالرغم من كل هذه الالتزامات فقد كنت لا أفرّط في توفير مبلغ ثلاثة جنيهات شهريا .كنت أماطل المجلس البلدي في دفع رسوم العقار المقررة على منزلنا والبالغة ثلاثة جنيهات سنوية .أسَرّ إلي الهوساوي الذي يعمل كاتبا في البلدية ، بأن أخبر المسؤولين بأن هذا المنزل ترجع ملكيته لامرأة ، لأن التقاليد تعفي المرأة من أي التزامات ضريبية .
ازداد قلقنا على مستقبل أخي الأصغر خالد ، لتدني أدائه المدرسي خاصة في المواد النظرية ، كانت رغبته أن يصبح ميكانيكيا ،كما كنا نرغب أنا ورمسيس .كنت أعطيه ستة شلنات كمصاريف شخصية لحين يجد عملا. في عام 1947م عينه مستر فيروذر في وظيفة معه كما وعدني . كان عمره حينذاك ثمانية عشر عاما
.


**


في أواخر عام 1947م ، قرأت في الصحف ، أن معالي الحاكم العام سير روبرت هاو سوف يفتتح مركز السودان الثقافي .كان هذا أول ظهور جماهيري له بعد توليه هذا المنصب ،خلفا لهيبرت هدلستون الذي حكمنا من عام 1940م إلى عام 1947م. ذهبت لأتفرج ، كان مكانا جميلا رائعا . يبعد حوالي ثلاثمائة مترا شرق النادي المصري . كان المبنى يتكون من حديقة غناء ،صالة للقراءة ، مكتبة عربية وإنجليزية ،وغرفة للاستماع بها جهاز قراموفون وعشرات الأشرطة التي تحتوي على الموسيقى الكلاسيكية .وهناك غرفة أخرى لهواة الاستماع للراديو . كان البوفيه يقدم خدماته الممتازة بإشراف عامل حلفاوي . كنت في غاية السعادة عندما تم قبول عضويتي _ كانت العضوية مجانية_ كان من ضمن نشاطات المركز قيام محاضرة عامة كل أسبوعين .كان حضور هذه المحاضرات لا يتجاوز الأربعين، جلهم من الإداريين الإنجليز .أما في الأيام العادية فقد ينقص هذا العدد إلى الربع .كنت أعتبر من الأعضاء المواظبين على الحضور.راق لي هذا المكان،فيه كان أول عهدي بالصحف والمجلات الإنجليزية.، قرأت معظمها بمساعدة القاموس . هذا المكان جعلني أشعر بضآلة تعليمي وقلة معلوماتي .كانت المحاضرات تقام في الميدان المنجّل داخل حوش المركز. كنت دائما ما أختار مقعدا في ركن قصي وأركز كل جهدي لأفهم ما يقوله المحاضر . كنت في بعض الأحيان اسأل نفسي : ( كيف تسنى لي أن أكون عضوا مع هذه المجموعة التي تفوقني تعليما ؟ ) ولكنني في بعض الأحيان أكتشف أنني لست أقل منهم إطلاعا ، خاصة عندما استوعب شيئا من بعض المحاضرات..كان بعض الأكاديميين أمثال :- مارجوري بيرهام و ريتشارد هيل وغيرهم من الأكاديميين الإنجليز يقدمون بعض المحاضرات في تخصصاتهم.كنت أعاني معاناة شديدة لفهم هذه المحاضرات الأكاديمية .ولكنني قررت ألا أجعل اليأس يتسلل إلى نفسي. كان من ضمن المحاضرات ، محاضرة ألقاها مأمون {هل هو مأمون بحيري ؟ المترجم } أول اقتصادي سوداني . كان الحضور لهذه المحاضرة كثيفا من قبل الإنجليز والنخبة السودانية .كان مأمون من ضمن أول ستة سودانيين تلقوا تعليمهم الجامعي في اسكتلندا .حاضر مأمون عن التوظيف الكامل للموارد في بريطانيا .كانت فكرة المحاضرة تقول : ( للوصول إلى نقطة التوظيف الكامل للموارد ، على بريطانيا أن تصدر إلى مستعمراتها ودول العالم الثالث الأخرى .ولضمان استمرار هذا التصدير، يجب أن يكون مواطني هذه المستعمرات في مستوى مالي ، يمكنهم من شراء هذه السلع والخدمات.بمعنى كل ما زاد الاستهلاك في هذه الأقطار ، كل ما انعكس ذلك إيجابا على اقتصاد الإمبراطورية .التي لا تغيب عنها الشمس )
كنت جالسا في مكاني المعهود في أواخر الصفوف. عند فتح باب النقاش ، وبدون تفكير مسبق ،وجدت نفسي رافعا يدي طالبا الفرصة .سمح لي جمال المشرف على المحاضرة بالكلام . وقفت وقلت بصوت كأنه خارجا من شخص آخر : ( في محاضرات سابقة ، تكلم المحاضرون عن سياسة الحكومة حول إعداد السودان للاستقلال .كذلك الصحف تبشرنا كل صباح بالاستقلال .ويأتي اليوم من يحدثنا عن توظيف الموارد لشراء البضاعة والخدمات البريطانية ! في كل بيت الآن أكثر من شاب بدون عمل ولا يقوى أي منهم على تصليح أي آلة ، فهل تفترض أن هذه الأجهزة المستوردة لا تتعرض للأعطال ؟ أم تقترح أن نرمي بها بعيدا لنشتري غيرها !؟ بريطانيا العظمى تتحكم في التجارة والتقنية مع إنها تخطط للتخلي عن سياستها النمطية ، فهل هذا دفاعا عن إمبراطورية غير معلنة ؟ ) .
على ما أذكر التفت كل الحضور خلفه لينظر لي ، هذا ما أربكني قليلا ولكنني ظللت متماسكا حتى أكملت مداخلتي .ما إن جلست بعد الانتهاء من مداخلتي ، حتى دوى الحضور بالضحك والتصفيق ، مما أضطر المنصة أن تطلب منهم الهدوء .بعد الصمت قال مأمون : ( هذا سؤال رائع ، وغير متوقع . ولكنه ذو علاقة بالموضوع.الإجابة عليه تحتاج لبحث مطول .ومن المؤكد أن الحكومة تفكر في هذا ) وأنفجر الحضور ثانية بالضحك
.


**


في اليوم التالي طلبني مدير شركة شل بمكتبه .فاضطربت لهذا الطلب . لأنه لا شئ يجمعني بهذا المدير ، ولا حتى في مجال العمل . كل رؤسائي المباشرين من الأقباط الثقلاء .لدهشتي عندما دخلت عليه كان يتحدث في التلفون وأشار إليّ بالجلوس ولكنني ظللت واقفا .بدلا من أن يضع سماعة التلفون ، مدها لي قائلا : ( المحادثة لك ! ) كان المتحدث من الجانب الآخر مستر جون استون مدير المصروفات بوزارة المالية المنشئة حديثا .كنا كثيرا ما نتقابل في المركز الثقافي ونتناول الشاي..طلب مهاتفتي ليدعوني مع آخرين لاجتماع يعقد بالمركز الثقافي ، لمناقشة موضوع إنشاء معهد السودان للإدارة.المدعوون الآخرين أسماء معروفة مثل :-سيد شاعر،أحمد خالد،عطار ، محجوب وغيرهم .قلت لمستر جون في نهاية المكالمة مازحا : ( سوف تتكلف كثيرا لأنك سوف تطلب لنا شايا ) عندما وضعت السماعة ، بادرني مدير شل بالسؤال : ( لماذا يدفع لك ؟ ألا تستطيع أن تدفع بنفسك ثمن كوب الشاي ؟ ) قلت له : ( من أين لي !؟. كل مليم من راتبي مخصص ، إضافة إلى إنني انتظر طفلي الأول .هل تعتقد ما يدفع لي هنا يجعلني من الأغنياء ؟) دهش المدير من جرأتي ، يبدو أنني أول من تكلم معه مثل هذا من الموظفين ، لأن الأقباط الآخرين يرتعشون خوفا عندما يستدعيهم إلى مكتبه. قال المدير بعد أن فكر مليا : ( بعد أن أطّلع على تقارير أداءك سوف أمنحك جنيها علاوة . أي ما يساوي ثمن ثلاثين كوبا من الشاي ) . كاد المدير أن يقفز من كرسيه عندما أجبته بجرأة أقرب للوقاحة : ( تمخض الجمل فولد فأرا ! )
نصحني المدير بأن أحرص على وظيفتي و صرفني بغضب .ولكن العلاوة قد كانت جنيهين كاملين

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz


(44)


الشول تبكي


في عصر أحد الأيام توفيت جارتنا سمية وهي تضع مولودها .كانت شابة لطيفة تبادل عزيزة الزيارات .كانت تسكن على بعد ثلاثة منازل من بيتنا .تعيش مع زوجها هاشم وعائلته الممتدة في بيت كبير مثل بيتنا .سبق أن أبدى لي هاشم مخاوفه من أن تلاقي سمية صعوبة في الوضع بسبب الخفاض الفرعوني ، فلما أعطيته عنوان الجراح الإغريقي الذي عالج عزيزة ، احتج وقال إنه لا يرضى أن تنكشف امرأته على طبيب مسلم ، فكيف تذهب لآخر غير مسلم .. باسم الدين ترك زوجته تعاني حتى الموت.
ساد الحزن حينا ، وتذكر الجيران نبوءة حبوبة ، وازداد عدد المصدقين بتنبؤاتها وبالتالي زاد عدد زبائنها وارتفع أجرها إلى خمسة شلنات غير الهدايا العينية. .لأن سمية كانت عزيزة لدينا فقد اعتبرناها هي الشخص الذي عناه تنبؤ حبوبة..
بعد أسبوع من وفاة سمية ، وفي يوم أحد كان معي في المنزل جمع من الأصدقاء والأهل . وعندما أعدّت جلسة الجبنة طلبنا من حبوبة أن تقرأ لنا الطالع. جلسنا حولها ، نتابع باهتمام . أخذت حبوبة وقتا أطول من المعتاد لتبدأ الكلام، و هذا يعني نذير شؤم .غلبنا الانتظار ، وطلبنا منها في صوت واحد أن تنطق .ولكنها بدل أن تتكلم ، أجهشت بالبكاء ، وقالت مولولة : ( يا إلهي !! فظيع … ! فظيع… ! غير معقول …! ) .صرخنا في صوت واحد : ( ماذا رأيت؟) . فقالت : ( احفظنا ، اللهم أحمينا يا حفيظ ) ثم أردفت : ( أربعة أشخاص من هذه المنطقة سوف يموتون خلال أربعة أشهر ) ثم واصلت نحيبها . لم أرَ حبوبة باكية منذ أن وعيت الحياة . وقد أكدت حبوبة خالدة ذلك ، عندما قالت لها والقلق يلفها : ( لم أرك تبكين منذ وفاة خالد ).
كان ذلك في أحد أيام الآحاد وسط مجموعة من الأهل والأصدقاء .كان هناك والديّ ، خالدة ، رمسيس ، فؤاد ، شقيقة عزيزة وزوجها ، صديقي حسن والعم فانوس . أصابنا الخوف والهلع ، فلقد كنا جميعا نصدق بقراءة الطالع . أخذت أمي وردة تنهيدة عميقة وقالت : ( اللهم أجعله خيرا ) .لاحظ العم فانوس الجو الكئيب الذي بدأ يسود الجلسة فقال بروحه الخفيفة : ( أعز شئ حولنا هو هذه العنزة التي تحلب نصف رطل في الصباح ونصف رطل في المساء فلتكن هي الأولى ، والراعي الكسول فليكن الثاني . أما الثالث فليكن صديقك اللدود هاشم فهو عزيز لديكم لأنه جاركم ). بالفعل نجح العم فانوس أن يخفف قليلا عن الحضور وتجاوب الكثيرين مع قفشاته .قال العم فانوس لكي يطمئن الحضور أكثر : ( لقد أخبرتنا الشول قبل أكثر من عشرة أعوام أن صوصا سوف ينال تعليما أعلى من كلية غردون ولكن كما ترون مازال صوصا بيننا ) . بدأ الصياح بين الحضور مابين مؤيدا لفانوس ومتحفظا . كانت أمي وردة لا تشارك في الحديث، ولكنها لا تنفك تقول بين الحين والآخر : ( اللهم أجعله خيرا ) .
عندما دخلت غرفتنا لبعض شأني ، لحقت بي عزيزة والخوف يتطاير من بين جنبيها وقالت : ( تنبؤات حبوبة دائما ما تصيب .. إنني خائفة .. لا تذهب هذا المساء للمركز الثقافي وحدك ، سوف أذهب معك . )
بعد الغذاء قال فؤاد مخاطبا الجمع : ( أريد أن أتزوج .. لقد انتظرت بما فيه الكفاية .. ما بين شهر إلى أربعة شهور ، لا بد أن أكون قد تزوجت . يجب أن اختار من اللائى رشحتهن لي عزيزة .طبعا خالدة ما زالت صغيرة السن، إن عمري الآن فوق الأربعين ) . لم يفلح حديث فؤاد عن الزواج في إجلاء الكآبة التي أطلقتها نبوءة حبوبة .ثم دار الحديث في كل اتجاه .تحدثنا عن مأساة سمية، وعن تخوف الإنجليز من التدخل لإيقاف ممارسة الخفاض الفرعوني ، بعد مظاهرات 1945م التي قامت مناهضة لقرار إنجليزي بمحاكمة إحدى الخاتنات
.

**


كما ذكرت سابقا ، كانت عزيزة قارئة نهمة، اقتنعت بأسلوب الغذاء النباتي ، الذي قرأت عنه في إحدى المجلات المصرية ، ثم بدأت تطبيقه علينا عدة أسابيع .بعد ذلك بدأنا نخرقه، بتناولنا وجبة سمك بالإضافة إلى الوجبات التقليدية مثل البامية والملوخية المطبوختان باللحم . أما في العشاء فالتزامنا النباتي يكون كاملا ،لأننا لا نتناول إلا الفول والعدس والطعمية ..


**


كنا نضع سريرنا ليلا خلف الغرف ،يفصلنا من الشارع جدار عال طوله أربعة أمتار .كنا مفتونين ببعضنا . كان إعجابي ليس بجمالها فحسب ، بل بعقلها الكبير أيضا . الآن عزيزة في شهورها المتقدمة من الحمل .كانت تأخذ يدي وتضعها على بطنها المنتفخة لأتحسس حركة الجنين . كانت دائما ما تقول لي : ( أريدهما توأمان ، أيٍ كانا ، لا يهم النوع ) وقد أوصت النجار بعمل سرير لطفلين ، أما التمائم و التعويذات فسوف يقوم بها إبراهيم الكناري وقد يحضرها بنفسه كما قال في إحدى خطاباته .
سألتني عزيزة يوما هل ما زلت أحلم بالسفر إلى أوربا أم إنني تركت ذلك جانبا بعد الزواج . ثم قالت : ( إنني أرغب مثلك في زيارة بريطانيا العظمى ، لأرى هؤلاء الإنجليز في بلادهم ) ثم أضافت ضاحكة : ( هل يوجد عندهم شحاذين و تكارين ؟ ) ثم وقفت تقلد شحاذا تكرونيا : ( كولن ..كولن ..باشاكا )وانفجرنا ضاحكين . لقد كنا نعيش في سعادة حقيقية وتزداد سعادتنا كل صباح . بدأت علاقتنا بالحب .واستمر الحب وجاء معه التفاهم وإعجاب كل منا بشخصية الآخر .
لأن عزيزة تملك شخصية إيجابية ، فلقد قامت في صباح اليوم التالي بفتح حساب توفير بمكتب البريد ، أسمته (شهر إجازة في أوربا ) و افتتحته بخمسة جنيهات من مالها الخاص وجنيها مني .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(45)


تحقق النبوءة


بعد أقل من أسبوعين توفيت حبيبتي عزيزة وهي تضع مولودها .وكذلك توفي المولود بعد دقائق من موتها التراجيدي. لقد وُضِع الأثنان داخل تابوت واحد . وضع المولود تحت يدها اليسرى ، بينما مدت يديها اليمنى في استقامة بجانبها ، ولكنني عدلتها بأن جعلتها تضع كفها على قلبها كعادتها عندما تكون نائمة بجواري .
لم أكن في المنزل ولا في مكان قريب منه في ذلك اليوم المصيري .كنت في مدينة شندي للإشراف على تركيب مضخة الماء الخاصة بمشروع العمدة . ذهب فؤاد المكلوم إلى الخواجة سجنور بِرّوتا ، ومن هناك أرسل لي برقية يقول فيها : ( أرجع سريعا .. عزيزة في خطر ) .كذلك أرسلت إشارة تليفونية لمكتب المفتش الإنجليزي بشندي . طلب مني العمدة أن أضع ما في يدي وأعود سريعا للخرطوم . أخذت شاحنة الشركة وقدتها بنفسي وبأقصى سرعة صوب الخرطوم . في الطريق كانت تلح على خاطري نبوءة حبوبة ، يا ترى هل تكون عزيزة أحد هؤلاء الأربعة . لا بكاء ولا دموع ولكنني كنت أرتجف أحيانا من الشعور بالبرد تارة ثم يتصبب العرق من جسمي وأشعر بالحر تارة أخرى .واصلت القيادة وأنا غير مبالٍ بما حولي ، حتى العاصفة الترابية التي داهمتني في الطريق لم تجبرني على التوقف .
عندما اقتربت من منزلنا ترامى إلى أذني صوت النواح والنحيب.فلقد امتلأ البيت بالمعزيين ، أُخّر التشييع لحين وصولي . العاصفة الترابية لم يبرح أثرها ناس وسماء أم درمان .فلقد علا الغبار سماء أم درمان وحجب شمسها الملتهبة . علق الغبار برؤوس وملابس أهل أم درمان . كأن الطبيعة في أم درمان حزينة على فراق أجمل من وطأ ترابها .نساء الأسرة والأصدقاء لم يكتفين بالغبار الذي هالته الطبيعة على رؤوسهن ،بل حسون الرماد على رؤوسهن وسائر جسدهن .
جلست على ركبتي قرب التابوت لأنظر لمحبوبتي وطفلي، كان واحدا ليس كما قالت عزيزة . نظرت حولي وقلت بصوتٍ عالٍ للحضور : ( عزيزة قالت توأمين ، أين الثاني ؟) . بكى كثير الحضور ولكني للآن لم تنزل دمعة من عيني . تقدم حسن ومكرم ونصيف لأخذي بعيدا عن الصندوق ، ولكني تسمرت في مكاني ، قائلا : ( لن أبرح ، حتى تسمح لي عزيزة . يجب أن أسمع منها … دعوني أسمع منها . سوف تتكلم الحين .. إنها ليست ميتة !! انظروا إليها ا إنها تبتسم لي ) .ثم صمت لدقيقة والجميع حولي صامتين كأنهم قد قدوا من صخر. ثم صحت بأعى صوتي وبدون دموع : ( عــزييييزة ) . تقدم نحوي نصيف هامسا : ( تصبّر .. هذه إرادة الله ) فصحت فيه : (الله ؟ الله؟ إن له عندي أسئلة كثيرة!!) .
تقدم بعض الرجال وأبعدوني عن النعش ، كأن صبرهم قد نفذ . وتقدم آخرون وحملوا النعش وساروا في سرعة نحو الكنيسة .سرت مع السائرين بين صديقي حسن ونصيف .دقّ جرس الكنيسة إعلانا ببداية القداس وإعلانا بأن عزيزة ستختفي من هذه الدنيا بعد قليل .
كان القسيس الذي سيصلي على عزيزة ، هو نفس القسيس الذي قام على زواجنا مرتين . كان على معرفة تامة بعزيزة .كان دائما ما يقول : ( هذه هي الفتاة العقلانية الوحيدة التي قابلتها وسط الأقباط ). كان لا يكاد يجد صوته ليصلي عليها من فرط التأثر . كان صوته يخرج للناس مبحوحا مهتزا ، وهو يكابد أن ينهي صلاته .( الرب رأي أن يأخذ زهرتنا الصبية، قبل أن تكمل رسالتها الحياتية .. ذهبت عزيزة إلى حياة جديدة سامية … هذه الطاهرة العفيفة تستحق وزنها ذهبا … يا إلهي … يا إلهي ….) لم يستطع إكمال صلاته وخذلاه دموعه وصوته .كنا نقف صامتين ، لا يسمع إلا صوت مروحة الكنيسة تدور في إعياء لتلفح الحاضرين بهواء أم درمان الحار .
عند المقابر ، تقدم النجار ليضع آخر مسمار على نعش الحبيبة الغالية .وذلك كان آخر العهد لعزيزة على سطح الأرض .تقدم أربعة من الأصدقاء ووضعوا الصندوق داخل الحفرة .بعد ذلك شارك الجميع في الدفن ، بأخذ حفنة من التراب بقبضة اليد ورميها في الحفرة قائلين : ( من التراب وإليها ) . لم أشارك أنا ولا حتى أبي أو فؤاد في ذلك ، فقد كنا ننظر صامتين لما يجري حولنا .
عدنا إلى المنزل مشيا لمسافة ميلين وسط كتاحة ( عاصفة ترابية )أم درمان. حتى الآن لم أبك .جلست على البرش ، وحولي أصدقائي المقربين .طلبت من الشيخ عابدين أن يتلو علينا ما تيسر من القرآن الكريم . قد يعجب القارئ من ذلك ، لأننا أقباطاً مسيحيون .ولكن طلبي هذا لم يدهش أحدا من الحاضرين ، لأنهم يعرفون أننا أقباطاً مواليد . استجاب الشيخ عابدين لطلبي . كان صوته يخرج حزينا عميقا ، فرض الصمت على الجميع ، حتى النساء والأطفال في الجزء الآخر من الحوش . جلست وظهري على الحائط، ورأسي بين كفي ، وأنا استمع في خشوع ، والصداع العنيف يكاد يفتك بي. لم يشعر أحد بأنني قد أغمي علي لفترة قصيرة ، عندما عدت لوعيي وجدت أن العرق قد بلل مكان جلوسي على البرش . كانت القهوة السوداء المرة تدار على الحاضرين طوال اليوم . كل القهوة والأسبرين الذين تناولتهما لم يستطيعا أن يكبحا جماح هذا الصداع . أصدقائي المقربين كانوا معي طوال أيام العزاء . معظم أهل الحي كانوا معنا ، يحضرون الشاي والقهوة من منازلهم .المارة عندما يرون خيمة العزاء المنصوبة ، يدخلون ويعزون . كانت مشاعر الجميع صادقة . هؤلاء قومي فأتني بمثلهم .هذا هو التمدن الذي يتشدق به الآخرون .لم يأتي أحدا من معارفنا الإنجليز لتعزيتنا .

**


في فجر اليوم التالي وجدت وردة حبوبة الشول ميتة في سلام على عنقريبها ( سرير شعبي) . صرخت وردة في صوت واهن : ( لقد قالت أربعة ،، من هو الرابع يا ترى ؟ ).
دق جرس الكنيسة مرة أخرى. أخذنا حبوبة للكنيسة ونحن في غاية الإعياء والتعب من أحداث اليوم السابق ( سبق أن ذكر الكاتب أن الحبوبات قد بقين على إسلامهن ، ولم يعطي تفسير هنا لماذا صلي عليها في الكنيسة ودفنت بمقابر النصارى - المترجم - ) صلى عليها نفس القسيس ولكنه الآن قد وجد صوته .دفنا حبوبة بالقرب من قبر عزيزة ودفنت معها حقبة كاملة من تاريخ أسرتنا وتاريخ السودان .في اليوم السابع أُخذت كل متعلقات الراحلتين من ملابس وأحذية وغيرها إلى الكنيسة لتوزع للفقراء .
لعدة أسابيع لم أستطع أن استوعب ما حدث ، كنت أراه كالحلم المخيف ، ولكن سنة الحياة جرت على أن نتجرع الحقيقة ببطء وألم .
بقينا أنا وحبوبة خالدة في ذلك المنزل المشئوم ورفضنا أن نتحرك منه لبيت أيوب أو غيره،مما اضطر والديّ أن يعيشا معنا .
لاحظنا أن حبوبة خالدة أصبحت ثرثارة وقد كانت طوال حياتها قليلة الكلام .أصبحت تحدثنا عن اللورد كتشنر والخليفة عبد الله التعايشي و مكوجي وابنه خالد .وحكت لنا كيف أن حبوبة الشول قد انضمت إليهم . كانت صلواتها الإسلامية لا تتعدى الاثنين في اليوم ، ولكنها الآن صارت تصلي كل الصلوات الخمسة المكتوبة حاضرا . كانت بعد أن تصلي الفجر حاضرا ، توقد نار الجبنة وتعدها ثم تنادي : ( هوي يا عزيزة بنتي … الجبنة جاهزة … هوي يا الشول أختي الجبنة جاهزة … جبنة بكري تعدل الرأس ) . وعندما لم تجد استجابة ، كانت تقول لنفسها : ( هل أصاب القوم صمم ؟ ).كان هذا المشهد يجعل والديَّ يجهشان بالبكاء ، أما أنا فما زالت دموعي عصية . كانت عندما نجتمع حولها ولا تجد عزيزة والشول تقول : ( هل ذهبت عزيزة مع الشول لودمدني لزيارة خالد ؟ لماذا لم تأخذاني معهما ، هل أنا بهذا السوء ؟
كانت منذ حضورها للعيش معنا هي التي تذهب للتسوق من حوانيت الحي ، ولكنها في الآونة الأخيرة صارت تشتري بكميات أكبر من المطلوب ، كان الوالد يردها لأصحاب الحوانيت الذين يقبلونها برحابة صدر ، لأنهم متفهمين لما يحدث .كانت في سيرها بين المنزل إلى السوق تحدث نفسها بصوت عالٍ ، كأنها تتشاجر مع أحد .
كانت نادرا ما تذهب للكنيسة ، ولكنها في أيامها الأخيرة تزور الكنيسة يوميا تقريبا حيث يستقبلها الرهبان بكثير من التعاطف والاحترام .كانت حبوبة امرأة متوسطة في لبسها وزينتها ولكنها في الأيام الأخيرة بدأت تلبس أحسن ثيابها وتتضمخ بالطيب السوداني .وتزور الجيران وتقول لهم : ( إن خالدا آتٍ وأنني أتزين لمقابلته )
كانت بعد كل صلاة فجرٍ ولمدة ثلاثة عشر أسبوعا من يوم مأساتنا ، ترفع يديها للسماء وتدعو ربها أن يأخذها إليه ويريحها من أعباء هذه الحياة .وقد استجاب الله لها وأخذها إليه بعد ظهور الهلال الرابع من يوم رحيل عزيزة .لم تنهض كعادتها لصلاة الفجر وعمل الجبنة .دفنت بقرب الثلاثة الذين أحبتهم وخدمتهم بوفاء.
كانت مأساتنا محور تعاطف و تآزر من الآخرين . كان قسيس كنيسة القديس جورجيوس يأتي لزيارتنا كل يوم من الخرطوم بحري . كان هذا القسيس يمثل لنا رسول السلام وقد عم تأثيره جميع أفراد العائلة . كان يلقي موعظته بعد أو قبل تلاوة الشيخ عابدين .كان يقول في موعظته أن الراحلتين عائشتان لأنهما ما زالتا باقيتين في قلوب أحباءهما . كان ينصحنا بالصلاة ويقول أن الصلاة هي السبيل الوحيد لمواجهة عواصف الحياة
.


**


تشاءمنا من البيت فوهبه فؤاد للكنيسة ، التي باعته بدورها إلى أحد مهاجري غرب إفريقيا وحوله إلى نُزُلٍ للحجاج النيجيريين .
لست في حاجة لأقول لكم أن حياتي قد زلزلت وكياني قد اهتز اهتزازا كبيرا . إنني الآن أحتاج لراحة عقلية ، الراحة الجسدية سوف تأتي لاحقا .صادف أن كان الأب تومازينو في زيارة له لأم درمان . سمع بالخبر وجاء للبيت وأخذني من يدي إلى الكنيسة الكاثوليكية . هناك في الكنيسة الخالية جلس الأب إلى الأرغن وأنا بجانبه لنرتل تسبيحة < أبقى معي>


أبقَ معي إن:-
المساء يهبط سريعا.
إن الظلام كثيفا … فأبقَ معي يا رب.
حين يعجز الآخرون … ويعز السلوان.
أبقَ معي
يا معين العاجزين … أبقَ معي.
أحتاج حضورك كل لحظة تمر
كيف بفضلك نتغلب على قوة الإغواء ؟
من مثلك لأوليه قيادة نفسي .. وسط الأنواء والغيوم
أبقَ معي
مع يدك المباركة :-
لا أخاف خصما .
ليس للابتلاء ثقل .
ولا للدموع مرارة .
بحضرتك :-
لا نحس بفداحة الموت ..ونراه نصرا
سوف أبتهج بهذا النصر .. إذا بقيت معي
فأبقَ معي
أحمل صليبك أمام عيني المغمضتين :-
لينير لي نفسي المظلمة.
ويقودني إلى السماء.
في الحياة وفي الموت
فأبقَ معي يا رب

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(46)



عامي الأخير في وطني
1949م


أن أبقى في السودان فقد أصبح هذا شيئا مستحيلا .إنني الآن في حالة انعدام الوزن ، روحي القلقة لا تهدأ وتجاربي المريرة جعلتني في حالة تفكير وتخطيط مستمرين ، كأنني أود دخول حرب . أصبح السودان بالنسبة لي سجنا لأسباب كثيرة منها مشكلة الجنسية وسوف آتي لهذا لاحقا .أن أسافر فهذا أمر قد قرّ في النفس . ولكن … أين أذهب ؟ أين المال اللازم ؟ كيف أحصل على جواز السفر ؟حتى لو افترضت أن جميع هذه الأمور قد حلت وسافرت إلى بلدٍ بعيد , فما عساي أن أفعل هناك .
للترويح عن نفسي صرت مرتبطا بالحركات السياسية بالبلاد .وهو ما يعني في الحقيقة علاقات هامشية مع بعض النخب السياسية الجديدة. . من زمرة الأحزاب المختلفة اخترت الأحزاب التي في حالة نقار دائم مع الإدارة البريطانية الاستعمارية .بعض هؤلاء أرسلوا للسجون والبعض صودرت صحفهم من الأسواق مما عرضتهم لخسارة كبيرة لدرجة أن المبيعات لا تغطي تكلفة الطباعة والتحرير.كان من مهامي أن أجد لهذه الصحف إعلانات تجارية تخفف من هذه الخسائر . قد نجحت في هذه المهمة إلى حدٍ كبير. اتبعت في ذلك الأسلوب الإنجليزي الذي قرأت عنه ولاحظته خلال عملي بالشركات الإنجليزية . تظاهرت أنني من مؤيدي السياسة الإنجليزية وعملت وكيل إعلانات واستطعت أن أحصل على إعلانات من الشركات الإنجليزية تبلغ قيمتها الثمانمائة جنيها وخصصتها لهذه الصحف المنكوبة .كان دفاعي أمام السلطات الأمنية ، بأنني تصرفت تصرفا مهنيا وخصصت الإعلانات للصحف الأكثر رواجا في السوق السودانية خدمة للصناعة الإنجليزية . لم يفد دفاعي هذا ولم يصدقه أحد ، وأصبح ملفي لديهم مثقلا بكل حركاتي وسكناتي .
كان الوطنيون أمثال السلمابي،عبد الله رجب،أزهري ، وأمين من طليعة السياسيين الجدد في ذلك الوقت . كان كل من يهتم أو ينضم للحركات الوطنية في ذلك الوقت ، يصنف شيوعيا .
استدعيت يوما إلى مركز الشرطة وسألني المتحري :
- هل أنت شيوعي ؟
- شيوعي !! ما هي الشيوعية ؟ وكيف يبدو الشيوعي ويتصرف ؟
- أنت هنا لتجيب لا لتسأل … هل أنت شيوعي ؟
- لو امددتموني بالكتب والمراجع ، فسوف أكون سعيدا لأجب على أسئلة امتحانك ….
ثم قال مغيرا وجهة الحديث :
- كيف تقضي وقتك ؟
- إنني أسعى لكسب عيشي وكذلك أهتم بالشئون الوطنية .أذهب للكنيسة كل صباح تقريبا ، قبل شروق الشمس . استمع لتلاوة القرآن من القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية .في المساء أذهب للمركز الثقافي أو إلى معهد الإدارة لحضور بعض المحاضرات .
كان المتحري هو بابكر الديب الذي يسميه الوطنيون (صوت سيده) .كل الذي ذكرته كان حقيقة ، لقد نجحت في أن أجعل نفسي مشغولا طوال اليوم وجزء" كبيرا من الليل .كنت أقابل فؤاد أو حسن مرة في الأسبوع. وأرتاد السينما مساء كل جمعة .كان خيال عزيزة يطاردني حتى وأنا في السينما . كنت كثيرا ما أتخيلها جالسة جواري تناقشني عن مجريات الفيلم .
كان دخلي عن وظيفتي عند شركة شل بالكاد يكفيني . بدأت شركة شل في تطبيق سياسة جديدة ،تم بموجبها فصلي من وظيفتي ليحل محلي آخر يحمل الجنسية السودانية من الدرجة الأولى ،تطبيقا لقانون الجنسية لعام 1948م . عاد عزيز في هذا العام من مصر، يحمل درجة الليسانس في الحقوق وعضوية الجمعية الحقوقية المصرية .الآن اصبح عزيز مستشاري القانوني المتطوع . إنه الآن عزيز آخر ، ليس عزيز عطبرة الذي نعرفه . شرح لي عزيز وضعي القانوني من حيث المواطنة والجنسية :- ( في مثل حالتك قد تجد القانون لصالحك ،ولكن كل الأمر خاضع لتقديرات السكرتير الإداري ،بعد إيفاء كثير من التعقيدات الإدارية .ليست بالضرورة أن تكون هذه التعقيدات قانونية لأن حكومتنا فوق القانون .) ألم أقل لكم إنه عزيز آخر قد صقله المؤهل والسفر . واصل عزيز حديثه : ( إن الحكومة لا تضع في حسبانها أن شخصا يعتمد في رزقه على راتبه من العمل في الخدمة المدنية أو الشركات التجارية ،أن يتكلف مالا ويقف ندا لها في المحاكم .هل أنت في حالة مادية جيدة تسمح لك بأن تكون أول من يفعل هذا..؟ نصيحتي لك أن تقدم طلبا للحكومة وأنت خاضعا متذللا لكي تمنحك الجنسية من الدرجة الثانية . وحينها سوف تكون محظوظا عندما تكون مواطنا من الدرجة الثانية في وطنك .وحتى هذه للحكومة الحق في سحبها اعتباطا دون إبداء أي سبب .هذه الشهادة سوف تمنحك الحق في العمل مع الشركات الصغيرة مثل شروني و الخواجة بِروتا وليس شركة شل أو الخدمة المدنية .)
لقد أفزعتني هذه الحقائق التي يجب علي أن أواجهها . ماذا عساي أن أفعل وقد صرت أجنبيا في بلدي .الآن تلاشت مشاكلي العديدة أمام مشكلة الجنسية . بالجنسية يمكنني أن أعمل لكي أعيش وأن أحصل على جواز السفر .الآن شعرت بأنني في سجن كبير تبلغ مساحته مليون ميلا مربعا .



**


لو يذكر القارئ إنني كنت أعمل في الصباح مع شركة شل وفي المساء مع الخواجة بِروتا . بعد فصلي من شركة شل ،صرت أعمل مع الخواجة بِروتا في الفترة الصباحية من السابعة صباحا حتى الثانية بعد الظهر .براتب شهريا قدره خمسة وثلاثون جنيها .كان عملي مع بِروتا دون شهادة جنسية ولا حتى تصديق عمل وهو ما يعتبر نوعا من المخاطرة .لقد تقدمت لنيل الجنسية وكذلك فعل الخواجة بِروتا . كلانا مولود في السودان سكن أجدادنا السودان قبل ظهور المهدية ، لكن مشكلتنا إننا لا نستطيع إثبات ذلك . كان الخواجة من أصل إيطالي. قال الخواجة : ( لقد عاملت المهدية أسلافنا بكل شهامة .فأجدادي لم يجبروا على اعتناق الإسلام .) قلت له لأضع النقاط فوق الحروف : ( إن مشكلتنا ليست الوثائق الثبوتية .مشكلتنا الحقيقية هي ديننا ولوننا ) فأجاب الخواجة : ( اللون هو المشكلة الأولى ، أنظر لليمنيين بالرغم من أنهم مسلمين ولكنهم يعانون الأمرين في أمر الجنسية )
كانت الشريحة الوحيدة التي لا تعاني في الحصول على الجنسية السودانية -ومن الدرجة الأولى -هم مهاجرو غرب إفريقيا . فالمهاجر الإفريقي ينال الجنسية بعد اليوم الأول من وصوله .
حررت طلب الحصول على الجنسية وهذا ما يتطلب توقيع ضامنين من الأشخاص المعروفين للسلطات . بناء على نصيحة أحد الأصدقاء ، ذهبت إلى المركز الثقافي وتحصلت على التوقيعين المطلوبين من معارفي الإنجليز .بعد ثلاثة شهور دعيت للمعاينة عند إدارة الجوازات والجنسية هناك طلبوا مني ضامنين آخرين من الأعيان شرط أن يكونا من الحائزين على الجنسية من الدرجة الأولى وقد أوفيت طلبهم خلال أسبوع ولكن لم تعلن سودانيتي إلا بعد ثلاثة شهور . وقد طبعت عليها الملحوظة ( قابلة للسحب دون إبداء الأسباب ) .ثم دخلت في معمعة الحصول على الجواز فحصلت عليه بعد ثلاثة شهور أخرى . أنفقت عاما كاملا للحصول على هذين الوثيقتين وكنت أعد حصولي عليهم نصرا مؤزرا .
ألحت علي أمي أن أنذر كبشا لوليمة القديس جورجيوس ،ليعينني في معاركي مع الحكومة . علق رمسيس قائلا : ( إن أخي لن يذبح نملة ، ألا تعرفون تقتيره ) . كان سعر الخروف في ذلك الوقت حوالي الثلاثة جنيهات . خضوعا لإلحاح أمي وافقت على مضض بدفع هذه الرشوة للقديس ، دون أي ضمانات أن يتحقق الهدف الذي دفعت من أجله .
**
أخذت الترام بصحبة والديَ إلى الخرطوم بحري لزيارة الكنيسة ، وإعلان نذرنا.تبعت والدي داخل الكنيسة وأنا صامت ساكن .حيينا القسيس العجوز وقبلنا يده .مسح القسيس على رأسي وقال مخاطبا أبي : (أنا أقدر حالته .. ما أعظم رحمة الرب .. دعونا نصلي راكعين .) بعد الصلاة عانقني بحنان وقبل وجنتي . انحنيت وقبلت ظاهر يده .ثم وضع كلتي يديه على رأسي قائلا : ( أنا متابع لأخبارك ودائما أصلي من أجلك . هناك حكمة مما يحدث .. وإن الله سيأتي بالفرج في الوقت الذي يختاره هو .إنني أحس أن أزماتك على وشك الانفراج . أذهب في سلام ابني العزيز . أوحي لي القديس جورجيوس ألا تقدم نسكا .الأجدى أن تقدم نفسك كلها لله بدلا من بعض مالك. أذهب في رعاية الله) .



**


في السوق قابلت رمضانة – التي لم أرها منذ زواجي _ ، نظرت في وجهي وقالت بعطف : ( ما بك ..؟ تبدو متعبا ) فقلت لها في إعياء : ( إنني لم أنم منذ ليلتين ..أنا محتاج لثمانية ساعات من النوم المتواصل) . اقترحت علي رمضانة أن أذهب لأرتاح في منزلها ، وسوف تلحق بي بعد الانتهاء من التسوق . في طريقي لبيت رمضانة اشتريت بعض القهوة والشاي والسكر . بعد عودتها أعدت رمضانة إفطارا ، وأكلنا سويا . كانت في غاية اللطف والحنان معي ..بعد الإفطار استغرقت في نوم أنا في شد الحاجة إليه .بعد أن استيقظت أعدت رمضانة مكان الجبنة .عند إعداد الجبنة قالت مواسية : ( هذه إرادة الله .. ما عسى أن يفعل العبد معها ) ثم بعد صمت قليل ، قالت : ( الآن أحكِ لي ما حدث ) قلت بصوت مخنوق : ( كل شيء جرى سريعا … كان حملها في الشهر الثامن وهو ليس بشهر ولادة … تركتها في صحة جيدة .. داهمها المخاض وأنا على أعتاب مدينة شندي ..تدهورت حالتها بسرعة ولم ينفع حضور الدكتور ) .


**



بعد أسبوعين من زيارتي الكنيسة ، أبلغت بأنه قد تم قبولي بأحد مدارس اللاهوت بفرنسا .كانت مصاريف السفر على حسابي ،ولكن المصاريف الدراسية والإعاشة فستغطي من الأعمال التي سوف أقوم بها في المعهد مثل : النظافة والزراعة وتنسيق الحديقة . وسوف أمنح خمسة شلنات أسبوعيا لشراء الصابون وطوابع البريد. وكان علي أن أوقع على التعهد بأنني إذا سلكت سلوكا يتناقض مع رسالة المعهد الدينية ، سوف أعاد إلى بلدي .
أصاب القلق والدي ، كأنهم قد فوجئوا بنية سفري ، يبدو أنهما لم يكونان يحملاني محمل الجد خلال الستة عشر شهرا الأخيرة .
جميع أخواني الآن يعملون . الآن يمكنني السفر وأنا مرتاح البال من ناحية حياة أسرتي ، التي لم يبرح موضوع رفاهيتها ذهني للحظة طوال حياتي .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(47)


الرحلة إلى أوربا


كان ذلك في أول أكتوبر من عام 1949م . كان فؤاد في صحبتي طيلة الأسبوع الأخير السابق لسفري .إنه مازال أعزبا، كما أنني لم أتزوج ثانية .بصحبة عزيز قمت بزيارة ما كان يعرف ببيتنا أنا وعزيزة . تعاطف معي المالك الجديد ، وقال لي أن البيت بيتك وإذا رغبت في غرفة فإنه على استعداد . شكرته وأخبرته بأنني سوف أغادر البلاد نهائيا . من هناك ذهبت إلى المقابر لألقي نظرة أخيرة على مثوى حبيبتي ..
عدت إلى منزلنا في الخرطوم ثلاثة لأنام ليلتي الأخيرة على سريري وسط الحوش . ما أصعب الشعور بالمفارقة والخوف من حياة جديدة لا أعرف كنهها ، لكنني لن أنكص من السفر .. ماذا أفعل ببلد رحلت عنه عزيزة .


**


الآن حان وقت السفر . وردة كادت أن تموت من البكاء ، وكذلك فعلن أخواتي وبعض نساء الجيران . وضعت حقيبتي الوحيدة على ظهر حمار ،وتبعناها راجلين متوجهين نحو محطة السكة حديد ، تغوص أرجلنا في الرمال الفاصلة بين حينا والحي السكني لموظفي السكة حديد . كان معي أبي وأخواني وفؤاد وعزيز . كنا نتبع الحمار في صمت كأننا نتبع نعشا . عند محطة الخرطوم كان في انتظاري لفيف من الأصدقاء جاءوا لوداعي . أخذني عزيز جانبا وقال لي وهو لا يكاد يسيطر على مشاعره : (سوف افتقدك كثيرا .. الله معك ..كن رجلا كما عهدناك .. قاتل بشراسة حتى تحقق هدفك .. اجعل هدفك المؤهل الجامعي في الإحصاء أو الاقتصاد … هل تذكر عندما كنت معي على رصيف محطة عطبرة … لم يخطر على بالي بأنني سوف أفعلها يوما من الأيام ولكنك شجعتني وشددت من أزري … هذه البلاد سوف تؤول للأسوأ بعد الاستقلال … لا تعد إلا بعد تحقيق هدفك وإذا فشلت فلا تعد ، أبقَ هناك ).
عندما تبقت ثلاثة دقائق من موعد القطار،وجدت نفسي أنتقل من حضن لحضن في وداع حار من الأصدقاء. عندما جاء دور والدي لاحظت أنه يرتجف من الانفعال ، قال لي والعبرة تخنقه : ( شد حيلك .. ستترك فراغا كبيرا وسطنا .. لا أريدك أن تكون قسيسا .. يمكنك أن تخدم الله بوسائل أخرى.)
عند سلم القطار سلمني فؤاد مظروفا مكتوب عليه ( لا يفتح إلا في أوربا ) .قفزت إلى سلم القطار عندما بدأ يتحرك ورفع الجميع أيديهم مودعين وقد رأيت الدموع تغطي مآقي بعضهم ،ولكنني لم أبك .ظللت واقفا على الشباك وأنا أكاد التهم عاصمتنا بعيني في نظرة وداع . هل يا ترى سأعود لوطني ؟ كان يبدو علي القلق والعصبية والخوف ، وأحيانا يطغى علي الشعور بالفرح ، لأنني أفلت من السجن .
بعد منتصف الليل وصل القطار إلى محطة عطبرة .انتهزت هذه السانحة وهرولت لأزور منزلنا السابق .. منزل الذكريات .. إنني أحب هذا المنزل الذي شهد طفولتي ، مراهقتي وجزء من شبابي .في عطبرة ترامت الذكريات إلى وعيي كالإعصار :- المدرسة الكاثوليكية ، مدرسة الأقباط ، بيت القزاز ، نورا ، أمينة ، ممارسة الحب في الغابة الجديدة ،عشش فلاتة ،فاطمة والدرس الأول عن حقائق الحياة ، التمساح ، إبراهيم الكناري ،الجراد ، علي والأجاويد ، عملي في المخبز الإفرنجي،الافتتان بكرة القدم، الأب تومازينو وحيواناته ، الحي الإنجليزي ، عصابة الخنازير ، السرير المسروق ، مستر كومنز ، مستر جولدبيرج وأمشي برة ،جون ووكر ، الشيخ غيث ، نجيب أفندي و … و… و.
عدت راجعا ألى المحطة وطليت على مكتب الحجز الذي كان يعمل به والدي أيوب أفندي لمدة ثمانية عشرة ساعة في اليوم . عدت إلى عربة القطار واستلقيت على مقعدي ، ولم استيقظ إلا بعد الظهر في محطة نمرة ستة ، وهي محطة خلوية في صحراء العتمور ، بين أبو حمد ووادي حلفا .نزلت من القطار وسرت على الرمل الصحراوي الملتهب . قصدت امرأة تبيع الشاي .اشتريت كوبا من الشاي وجلست قربها لأشربه .نظرت للعجوز لأتبادل معها الحديث ، يا إلهي !! إنها تشبه حبوبة الشول .. لا بل حبوبة خالدة .
في الوقت المحدد وصلنا إلى ميناء وادي حلفا . انتقلنا من القطار إلى الباخرة النيلية الأنيقة . في الباخرة كنت وحدي في مقصورة الدرجة الثانية ، لأن عدد الركاب كان قليلا ، كما أن الكمساري كان زميلا لوالدي و قد تعمد أن يجعلني في غرفة لوحدي إكراما لصداقة الوالد .بعد وصولنا الشلال ، أخذنا القطار المصري المتوجه للقاهرة .



descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
في الشلال ،قطع حبل تفكيري صوت صراخ واستغاثة .لقد هشم أحد الشباب زجاجة في رأس زميله فاندفع الدم من رأسه كالنافورة ، وما لبث أن فارق الحياة . تعاركت أم الضحية مع الجاني قليلا ، وعندما أحست بعجزها وضعفها ، صرخت مستغيثة .تملكني الأسى والعجب عندما علمت أن العراك كان بسبب الخلاف حول قرش واحد !
توقف القطار قليلا في مدينة أسوان ثم واصل مسيره وسط مئات من القرى . الأزقة مزدحمة بأطفال حفاة نصف عراة ، حالة الفقر والمسغبة يمكن أن تلاحظها من شباك القطار .
توقف القطار وقفة اهتزت لها القلوب والحقائب .. ماذا حدث ؟ هرس القطار طفلا وحماره تحت عجلاته !! الأطفال هنا معرضون للموت بكل الوسائل :- الملاريا ، التيفويد وأضف لها عجلات القطار .الذي يتبعونه لتسول الخبز .
إن مصر ليست القاهرة أو الإسكندرية ولا عواصم المحافظات . كما إنها ليست الأهرامات ، أبو الهول ووادي الملوك .إن مصر الحقيقية هي مجموع الأربعة آلاف قرية التي يسكنها ثلثي المصريون وكانت ترفد باقي القطر بـ 50% من احتياجاته من الغذاء وانخفضت هذه النسبة إلى 30% في عام 1986م . على طول ضفتي النيل ترى الفلاحين مع حيواناتهم الضعيفة كأنهم من العهد التوراتي .يرفدون باقي مصر بالطعام ويجدون صعوبة في الحصول عليه لأنفسهم . تجد الفلاح وزوجته ،مع أحد أبنائه وحمارهم ،يعملون في حقول أصحاب الأرض لمدة أثني عشر ساعة ،تحت الشمس مقابل جنيها واحدا .بحساب بسيط نجد أن أجرة العامل الزراعي في المملكة المصرية لا تتجاوز الستة شلنات في اليوم ، مستبعدين في ذلك تكلفة الحمار الذي يركبونه من مناطقهم النائية للوصول للحقل .أليس في هذا ما يحير الشيطان ؟

**



قررت النزول في محطة إسنا لزيارة الأهل .كانت زيارتي الأولي قد مضى عليها حوالي عشرون عاما .نفس إسناء القديمة . لا جديد يستحق الذكر .فوجئ الأهل بزيارتي الغير متوقعة . كان استقبالهم حميميا . بالرغم من فقرهم ، فقد اجتهدوا وأعدوا لي إفطارا سريعا .وبعد ساعة من وصولي أعطيت لكل فرد منهم مبلغ خمسة جنيهات.
تبدأ الحياة في إسناء مع أذان الفجر ، لذلك لا مجال للمتعطل أو المتكاسل أن يواصل نومه إلى شروق الشمس. صحوت من نومي عندما صحت البلدة .بعد ساعة من استيقاظي أخذت أتجول في شوارع وأزقة البلدة .وبينما أنا في سيري وتجوالي ، سمعت صوت شيخا عجوزا يحييني :
- صباح الخير يا ابني … أرجو أن تصلي من أجلي ، لأجد رزقا في هذا اليوم … ما يفعله الرب فينا هو فوق طاقتنا .
- الله المعين
- هل تشتري مني دمورا ؟ فقط شلنا واحدا للقطعة … لم أستطع أن أبيع شيئا منذ أسبوعا ‍‍!!
استجبت لدعوته ودخلت معه منزله ، أو بالأحرى غرفته ، لأنه يسكن مع أسرته في منزل مكون من غرفة واحدة .في أحد أركانها ترقد زوجته المريضة ، في الركن الآخر أطفاله الأربعة .أكبرهم بنتا ذات عشرة سنوات ، غير قادرة على الحركة ، بسبب الضرب الذي تعرضت له من أحد أصحاب الحوانيت ، لأن الجوع والطفولة حرضاها أن تسرق طعاما من حانوته . في وسط الغرفة وضع نوله الذي ينسج عليه الدمور . وضع العجوز يده على النول وقال كأنه يعاتبه : ( أثني عشر ساعة عمل في اليوم ، مقابل قرشا في الساعة ، فأين تكلفة القطن .إلى أين تقودنا هذه الحياة ؟ ) صمت برهة ثم قال وهو يغالب دموعه : ( أي حرية هذه التي يتكلمون عنها.ليت زمن العبودية والرق يعود . إن صاحب الرقيق يعتني برقيقه ، فمن يعتني بنا نحن ؟)
لم أستطع أن أتحمل أكثر من ذلك .دفعت له خمسة شلنات وتركت له القماش في مكانه . هرولت نحو منزل أهلي وخطواتي تتعثر في القهر والأسى الذين ملآ نفسي .


**



بعد قضاء ثلاثة أيام في إسنا ، أخذني القطار إلى محطة باب الحديد بالقاهرة .لقد غمرتني الفرحة عندما رأيت صديقي أحمد بيه في استقبالي على رصيف المحطة .طلب مني أحمد أن أبقى معهم ليومين ليذهب معي إلى الإسكندرية. ثم قال لي معزيا : ( حزنت كثيرا لأخبارك ،ولكن هذه إرادة الله . سوف آخذ أخبارك وأخبار فؤاد فيما بعد . الآن دعنا نذهب لنعود عمك ديمتري المصاب بالأنفلونزا .)
في عام 1949م كانت القاهرة مدينة جميلة ،هادئة ،سبل المواصلات متوفرة وحركة المرور منسابة .أخذت حقيبتي الوحيدة ، ومعها صندوقا مليئا بالبسكويت الصلب من صنع أمي وردة . بعد ساعة من وصولي كنا في العباسية مع عمي ديمتري .أحاطني عمي بحنانه الذي عهد به وقال مواسيا : ( أنا حزين يا أبني لكل ما حدث لك ، والآن زدتني حزنا برغبتك أن تكون قسيسا . يا أبني نحن محتاجون للعلماء والفنيين .رجائي أن تجتهد لتحصل على تخصص آخر مع دراستك اللاهوت ، إن كثيرا من القسيسين في أوربا يحملون مؤهلات عليا إضافة لمؤهلهم الديني )
حكيت لهم عن تجربتي في الشلال و إسنا . كعادته فتح أستاذي أحمد بيه مداخلة بليغة : ( لقد عُلّمنا أن حياتنا لا تتوقف على الكسب المادي فحسب ،بل الجدير بالتقدير هو السمو الروحي.وأن وجودنا الدنيوي لا يعدو المرحلة الانتقالية لخطوة أهم .قانون المادة لوحده لا يستطيع تفسير وجودنا وتوجيهه . قانون الطبيعة وعلم وظائف الأعضاء وغيرها من العلوم التجريبية لا تظهران الطريقة التي يتدخل بها الخالق لتوجيه حياة كل فرد منا بصورة مستمرة ليمنحنا أسباب الحياة ،وتخليه عند ذلك يعني الموت )
كنت أنصت له باهتمام ، لقد عادت أيام زمان الرائعة ، التي كان يأسرني فيها صديقي وأستاذي أحمد بعلمه الغزير وأفكاره المرتبة .لاحظ عم ديمتري اهتمامي فقال لمزيد من الشرح : ( ما يعنيه هو أن فكرة الخير والشر تعرضت لمهازل عبر عدة قرون ، فقد استبدلت بالسياسة أو الوضع الطبقي ذو القيمة المؤقتة .ليس من السهل أن نقول أن الشر قد سكن قلب الإنسان قبل أن يسكن النظام السياسي . لذلك لا يعتبر التنازل اليومي المتعايش مع الشر أمرا معيبا )


**


في اليوم التالي اصطحبني أحمد لزيارة الأهرامات .لأنني سوف أدرس اللاهوت فقد قصد أحمد أن يكلمني عن الفراعنة وإيمانهم بخلود الروح . من أجل الروح الخالدة والبعث فقد بنيت هذه الصروح البديعة .

**


كان ذلك في منتصف أكتوبر من عام 1949م ، عندما سحبت السفينة حبالها من الساحل الإفريقي ، مثلما يُسحَب الحبل السري للجنين ليبدأ حياة جديدة خارج رحم أمه .الآن لا مجال للنكوص . كنت قد قررت سلفا أن أذهب الشوط لآخره . مازالت نصيحة عزيز ترن في أذني ( إذا لم تحقق هدفك ، فلا تعد ، أبقَ هناك ) . استطاع البحر والسفينة الضخمة أن يشغلاني قليلا عن أفكاري . هذه أول مرة أرى فيها البحر وأركب سفينة بهذا الحجم . اختفي الساحل الإفريقي من الأنظار ولكنه بقي في قلبي وعقلي وشراييني وروحي . أختفي وتركنا نعوم في زرقة من الألوان عندما تعانق زرقة البحر زرقة السماء عند خط الأفق الذي تخاله يبعد أمتارا قليلة عنك .

**

جلست في حالة يبدو أنها تثير الشفقة ، لأن شخصا ما تقدم نحوي وقدم لي كأسا من البراندي ، قائلا بابتسامة مشجعة : ( هذا سوف يفيدك ) . نظرت إليه باستغراب قائلا لنفسي : كيف لأوربي غريب أن يكون بهذا العطف ؟ قلت له بعد صمت قصير :
- أشكرك … ولكنني لا أستطيع رده .
- أنت في حلٍ من أن ترد هذا الكرم … إنك تستحق الصدقة .
- أشكرك وأسأل رب البحر أن يبقيك زخرا للمساكين .
قلت لنفسي : ( يبدو أن بؤسي قد بلغ مدى ،جعلني أستحق الصدقة مثل أي شحاذ تكروني ) .
بث هذا الشراب الدفء إلى عروقي ونفسي .قمت بعملية حسابية سريعة ، لأنني محتاج لكأسين على الأقل من هذا المشروب المنعش طوال أيام الرحلة الثمانية .إنني في حالة مادية بائسة .لأنني أملك نفسا جبلت على التضحية ، فقد تركت معظم ما أملك من مال لأهلي .يبدو أن حالتي تبدو بائسة من البرد ودوار البحر ، فقد نصحني أحد البحارة الإغريق بأن آكل الزيتون والفلفل الحار المخلل حتى أشعر بالدفء
.

**


كان خط سير السفينة يمر بميناء بيريوس في اليونان ثم جنوه في إيطاليا وتنتهي في مرسيليا . كنت عندما أنزل البر في هذه الموانئ ، تتحسن حالتي وأستطيع أن آكل .أكثر المواضع التي أثارت اهتمامي في هذه الموانئ هي مقابر جنوه الفخمة وقد علمت أن الأغنياء والشخصيات الإيطالية المهمة تدفن هنا .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(48)


صوص في المعهد اللاهوتي


في مرسيليا كانت تجربتي الأولى مع ضابط الجوازات والهجرة . نظر إليَ مليا ثم قال ( أنت إفريقي ؟ ) ثم أضاف في تذاكي : ( إن أباك ضابطاً إنجليزيأ وأمك سوداء . ) هززت رأسي في بلاهة وواصل هو حديثه ( تود أن تكون قسيسا ؟ ) أجبت بنعم . ختم جوازي وأعاده لي .
استغليت الأربعة ساعات المتبقية من موعد القطار المغادر إلى باريس لأتجول في مدينة مرسيليا . اشتريت خبزا وجبنا و طماطما مغربية ، تناولتها في أحد الحدائق قرب المحطة ،وأنا أراقب القطار من مكاني .كان القطار يشبه القطار المصري ولكنه أكثر منه لمعانا.
شيئان لفتا انتباهي في يومي الأول في فرنسا :
أولهما امرأة تبيع النقانق أو ما يسمونه (HOT DOG ) ، اشمأزت نفسي ، وتذكرت كلبنا جون ووكر وكتبت لأهلي أن الفرنسيين يأكلون نقانق الكلاب .ومما لفت نظري ثانيا تبادل النساء والرجال الفرنسيين القبلات و العناق علانية أمام الملأ ، بالرغم من أنهم بالعموم يهتمون بالآداب العامة . لم أستوعب حينها أن هذا العناق ليس بالضرورة أن يكون ذو دلالات جنسية .
أخذت القطار إلى باريس على الدرجة الثانية لأنه لا توجد درجة ثالثة أو رابعة .كنت شغوفا أن أملأ عيني بكل المناظر الفرنسية التي يمر بها القطار :- المزارع ، المنازل ، الحيوانات والمحطات التي تقابلنا . كنت أحاول أن أطابق الصورة التي في الخيال مع الواقع . كنت أكلم نفسي : ( لقد تحقق حلمك .. أنظر صوص أنت في أوربا … بعد ساعة سوف تكون في باريس مدينة النور … هل تصدق صوص )


**


تتألف محطة لازاري في باريس من أكثر من عشرين رصيفا ، لذلك هناك عدة قطارات تروح وتجئ ، لا يفصل بين القطار والآخر إلا زمن وجيز .شدة الزحام كان شيئا مرعبا لشخص مثلي آتٍ من الصحراء ، ومن مدن شبه خالية.كانت التاسعة مساء ، وقفت على الرصيف ، واضعا حقيبتي بين قدمي حفظا لها من الفقدان . الآلاف تهبط وتصعد .تخرج وتدخل . الميكرفون يهدر بقول لا أفهمه ولا أكاد أتبينه . وقفت منتصبا وأنا أحس بالضياع وسط هذا الزحام الذي لم يكن في الخيال . بعد منتصف الليل وصل الأخ إمانيويل مندوبا عن المعهد لاستقبالي وإيصالي مكان دراستي وسكني في جاتويت . كان شابا مرحا لا يتكلم غير الفرنسية .بعد الساعة الثانية ، أي بعد خمسة ساعات من وصول القطار ، كنت على سريري في غرفة كبيرة يشاركني السكن ثلاثة آخرين .

**


كان النظام في المعهد كالآتي : الاستيقاظ الساعة السادسة صباحا .ندخل في صلاة صامتة من السادسة والنصف حتى السابعة والنصف .ثم نتناول وجبة الإفطار وبعد ذلك تبدأ الدراسة .جميع الأنوار تطفأ عند الحادية عشر مساء ،ليكون الجميع على أسرتهم تهيئا للنوم .
كنت الإفريقي الوحيد بين الطلاب البالغ عددهم سبعة عشر طالبا .كنت أعامل كحالة خاصة ،لأن بقية الطلاب قد أكملوا دراساتهم العليا .كان عليَ أن أبدأ من الصفر في تعلم اللغتين الفرنسية واللاتينية وتحسين لغتي الإنجليزية .إضافة لهذه اللغات كنا ندرس : العهدين القديم والجديد ، تاريخ الكنيسة ، عقيدة الخلق ، عظمة المسيح ، والفلسفة .وثلاث مواد أخرى تختار من قائمة طويلة .
كان على كل طالب أن يقضي ساعتين على الأقل في الأعمال اليدوية وخاصة في الحقل .كنت أحيانا أساعد في الطبخ ، وأحيانا أخرى أقوم بتنظيف المواقد ، وجمع حطب الوقود من الغابة.في كل الأحوال كنت استمتع بهذه الأعمال في أي موقعٍ كان .الشتاء الفرنسي يحتاج إلى المزيد من هذه الأعمال . وعلى ذكر الشتاء لقد أدهشني منظر تساقط الجليد في هذا الفصل .كنت دائما ما أقف أمام الغرفة لأشاهد هذا المنظر ، الذي فشلت في وصفه لأهلي في كتاباتي إليهم .كان خضار المزرعة ذات الثلاثة أفدنة يزيد عن حاجتنا ، ونعطي الفائض لمدرسة الراهبات ولدار الأيتام . في رُكنَي المزرعة توجد أقفاص لتربية الدواجن . هناك حوالي مائة دجاجة بياضة ، مع خمسة ديوك. القارئ الكريم يعرف حبي وشغفي بتربية الطيور .لقد أوليت هذا الدجاج عنايتي الفائقة . قمت بإعادة توزيعه على الأقفاص .وضعت الدجاجات ذات الكتاكيت في مكان منفصل حرصا على حياة الصغار .فصلت الديوك في المبيت ووزعت بينهم الزوجات . كنت آخذ الديك وأمرره على أقفاص زوجاته كل صباح .فقد كنت منذ صغري ملما بالسلوك الجنسي عند الطيور .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
في أحد الأيام رأيت قطة كبيرة داخل الحظيرة . قد تكون قد دخلت من خلال إحدى فتحات السقف . قمت بقتل هذه القطة المتسللة كما نفعل عادة في السودان – قد يذكر القارئ مصير القطة التي تسلقت حبل اللحم - وبينما كنت أحفر لها قبرا في المزرعة ، لم أشعر إلا ومجموعة من رجال الشرطة بصحبة صاحبة القطة ومصور . تم تصويري متلبسا بحفر القبر والقطة الميتة ملقاة بجانبي .
عند التحري معي في مركز الشرطة ، لم أنفِ الواقعة .أطلق سراحي بكفالة مدير المعهد . بعد سبعة أيام مثلت أمام القاضي . كان دفاعي كما يلي : ( إن صاحبة القطة قد جوعتها حتى اضطرتها أن تصطاد الدواجن .لقد خسرت مزرعة المعهد أربعة دجاجات بسبب هذه القطة وصاحبتها .إنني أعجب من مطالبة صاحبة القطة بالتعويض دون أي اكتراث بالخسارة التي سببتها للمزرعة .هذه ليست أول مرة أقتل فيها قطة .إننا في السودان نقتل القطط وبعضنا يأكل لحمها ، و لكنني لم أسمع بأن الإنجليز قد عقدوا محاكمة لقاتل قطة .في رأيي أن الدجاج أفيد للإنسان من القطط .ماذا يجري لو قتلنا قطة في مقابل الحفاظ على حياة أكثر من مائة دجاجة مع كتاكيتها .)
كان القاضي ينصت إلى باهتمام ولم يرفع عينيه عني طيلة قيامي بمرافعتي . بعد أقوال صاحبة القطة ومدير المعهد، رفعت الجلسة لمدة ربع ساعة . خلال هذه المدة تملكني خوف شديد من أن أتعرض لعقوبة في هذه الغربة ومن أجل قطة لا تسوي شيئا .
بعد استئناف الجلسة قال القاضي موجها حديثه إليَ : ( أنا أتفهم كل ما قلت . لقد كنت قاضيا في مدينة فورت لامي ) ثم خاطبني بعربية ممزوجة بلغة الهوسا .التي ألِمٌُ بطرف منها . رددت عليه والحضور يتابع باستغراب . سألني أيهما أُفَضّل لحم القطط أم لحم الكلاب .قلت له إنني لا آكلها ولكنني تذوقتها هي ولحم التمساح في عشش فلاتة . ثم عاد للحديث بالفرنسية ( إنك حديث عهد بفرنسا .إن ردة فعلك نتج عن الخسارة المستفزة التي أحدثتها القطة .لذلك أخذت المحكمة في الاعتبار دفاعك وخلفيتك الثقافية وبهذا نعلن براءتك و إطلاق سراحك في الحال . دون تعويض أي طرف للآخر . رفعت الجلسة )
تصرفي تجاه القطة كان تصرفا عفويا . بعد زمن شعرت أن شعوري الديني العميق كانت تقف وراءه العفوية : العفوية في بناء الصداقات ، العواطف ، حب العائلة والأقارب . الآن عرفت أن هذه العفوية والفعل التلقائي قد يؤدي للمهالك . ماذا كان سيحدث لو لم أصادف قاضيا ملما بالثقافة الإفريقية ؟ لقد مضى علي شهرا كاملا حتى استطعت التخلص من ذيول هذه المحاكمة ، بالرغم من ذلك فقد أوقعني حظي في أربع مشاكل أخرى .
أولها :إنني كنت أفتح مواضيعا" للنقاش لا تتماشى ونظم المعهد مثل تعريف التدين والرهبنة .الخلاف الثاني مع نظم المعهد :كانت سياسة المعهد تتطلب منا العيش في تقشف لنشعر بآلام الفقراء . ولكنني سخرت من هذا وقلت لهم أنا الفقر بعينه ، ولا حاجة لي أن أمثل ذلك .كذلك لم أستطع التخلص من طبيعتي التي جبلت على الميل إلى الضحك والمرح وقد لُفت نظري عدة مرات ولكن الطبع غلب التطبع .طلب مني ضابط النظام أن أزيد من زمن صلواتي اليومية بمقدار نصف ساعة يوميا .أطعت هذا الأمر ، كنت أذهب للكنيسة مبكرا قبل نصف ساعة من مواعيد الطلاب الآخرين . وصارت هذه النصف ساعة الصباحية من أحب الأوقات إلى نفسي .وقد داومت عليها طيلة الشهور التي قضيتها في المعهد . المشكلة الثالثة مروري بلحظات نفسية كئيبة عندما تلقيت نبأ اغتيال أمي نعيمة - كما يحلو لها أن أناديها – بواسطة يهودي أوربي في حيفا بفلسطين. عاودتني نوبات الصداع وصرت لا استسيغ الطعام .تحت تأثير هذه الحالة التي خلقها موت نعيمة ، كنت أناقش مع زملائي موضوع الخير والشر ، وإن الشر هو المنتصر دائما عكس ما يقال .قال لي الأخ امانويل أن هؤلاء قد قتلوا المسيح فليس من المستغرب أن يقتلوا غيره .كما أن المشرف على دراستي قد قادني في صلوات طويلة وتلاوة وشروحات من الكتاب المقدس عسى أن تهدأ نفسي القلقة .
الإشكال الرابع -وهو بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير – كان علاقتي البريئة مع شابة تسمى فرانكويز . كانت طالبة دراسات عليا في المدرسة الكاثوليكية التي بها قسم لدراسة اللاهوت . المدرسة تبعد حوالي ميلا من معهدنا . كانت فرانكويز تشبه عزيزة ، من ناحية التكوين الجسماني ،ولكنها كانت قليلة الكلام ، قد يكون بسبب اللغة ، لأن مستوى إنجليزيتها مثل مستوى فرنسيتي .لقد أعطى أساتذتي لهذه اللقاءات القصيرة وزنا أكثر مما تستحقه . قلت للأستاذ المشرف عندما فاتحني في هذا الموضوع بمكتبه : (إنك تفتعل معركة في غير معترك .) فرد عليَ : (إنه من السعادة أن تحب وتعيش الحب .إن الزواج من الطقوس الرائعة .لذلك يمكنك أن تخدم الرب بالحياة الزوجية كما أخدمه أنا بالعزوبية .أنت حر أن تذهب بعيدا لتمارس حياتك .) ثم صمتنا معا لمدة دقيقة. كسر أستاذي الصمت بتلاوته من العهد الجديد. ثم دخلنا في صلاة صامتة لمدة خمسة دقائق ، ثم نهض ومد لي يده مصافحا .
خرجت من مكتبه وتوجهت للحقل وأنا مشتت الذهن .ماذا أفعل يا رب ؟ هل أذهب إلى بريطانيا العظمى أم هل أستمر في هذه المنحة والتزم بالنظام الذي تتطلبه نوعية الدراسة ؟ ثم قلت أوبخ نفسي : ( لقد صبرت علي إدارة المعهد كثيرا ، ولكنني شخص لا يرجى منه نفعاً .يا رب ألهمني الصواب .. ماذا أفعل ؟ قل لي أي شئٍ ولكن لا تقل لي أرجع لأهلك .) جاءني صوت عزيز وهو يودعني : ( إذا لم تحقق هدفك ، لا تعد .. أبقَ هناك)
بعد شهر أبريل (1950م) وفي هذا الشهر يكون الجو لطيفا والشمس ساطعة ولكن أشعتها لطيفة .في هذا الشهر قمت بزيارة معالم باريس التاريخية والفنية بصحبة فرانكويز .زرت متحف اللوفر ،قصر الكونكورد ، برج بيزاء المائل وغيرها .في الأربعة شهور الأولى من وصولي،كنت نادرا ما أذهب بعيدا عن منطقة المعهد. ولكن بعد شهر أبريل ، بدأت أخرج مع فرانكويز لزيارة معالم فرنسا .كان ما زال معي مبلغ عشرة جنيهات ، صرفتها كلها في هذه الزيارات .كانت فرانكويز تحضر السندوتشات وتدفع تكاليف تذاكرها .
في أحد أيام السبت دعتني فرانكويز لزيارة مزرعة عائلتها وقضاء يوم ممتع معهم .كانوا سعيدين بمشاركتي في الأعمال الزراعية .فقد انضممت للعمل معهم بعد وصولي بخمس دقائق . كنت أقود الجرار وأشارك في الأعمال اليدوية .أخبرني والدي فرانكويز بأنهما قرأ موضوع محاكمتي في الصحف ، وهذا أول مرة أعرف أن الصحف قد غطت أخبار المحاكمة . وقد علمت منهما أن كثيرا من القراء تجاوبوا مع هذه التغطية ، وأرسلوا وجهة نظرهم للصحف .
في الأسبوع التالي ذهبت إلى المزرعة بمفردي ، بالتنسيق مع فرانكويز التي قابلتني في إحدى المحطات الريفية وهي تركب عربة يجرها حصان.لقد صعقتني فرانكويز عندما قبلتني على وجنتي على رصيف المحطة .كانت هذه أول مرة تقبلني فيها . بعد قبلتها اضطربت للحظات لا أدري ماذا أفعل ،لأن هذه أول تجربة شخصية لي أن يقبلني أحد علانية أمام الجمع .صاح بي كمساري القطار من مكانه : ( المرأة الجميلة ، تحضن وتقبل على شفتيها يا غبي ، أم تريدني أن آتي لأعلمك .) عملت بنصيحة الكمساري وردت لي فرانكويز القبلة .
أخذت الرسن وقدت العربة و فرانكويز جالسة قربي .في المزرعة قدمني والدي فرانكويز إلى رجل إنجليزي وزوجته الفرنسية .هما مستر ومدام جونسون ، كانا يملكان مزرعة صغيرة بجوار مزرعة عائلة فرانكويز .قال لي لي مستر جونسون وهو فرح بلقائي ( أنت على الأقل لديك الفرصة لتتكلم الإنجليزي في المعهد ، أما أنا فلم أتكلمها منذ عامين .)


**


في الأسبوع الأخير من شهر يوليو من عام 1950م استدعاني أستاذي المشرف إلى مكتبه قائلا : (إذا كنت تود الاستمرار ، يجب عليك إتباع أنظمة المعهد .ليس لنا ملاحظة عن أخلاقك فأنت شخص شريف ومخلص . فأنت حسن السلوك والتصرف ، ولكن بطريقتك وليس بطريقتنا ولا الطريقة التي ترمي إليها رسالة المعهد .لقد فكرت في إرجاعك للسودان .. التكاليف سوف تكون على حسابنا ) ثم بعد صمت قصير قال : ( إن الطريقة الفظيعة التي قتلت بها خالتك ، قد هزت إيمانك بالمسيح ورسالته .) صمت قليلا انتظارا منه أن أجيب بكلمة . وعندما لذت بصمتي ، واصل حديثه قائلا : ( أن اليهود يطلبون سعرا غاليا مقابل المذابح المزعومة ، وقد فعلوا مثلها وسيفعلون ضعفها عشرات المرات مستقبلا ) ثم أضاف : ( أنا متأكد أن الرب يدخر لك حظا حسنا . يمكنك أن تكون قسيسا غير متفرغ ، إن الكنيسة تطور هذا النوع من الرهبنة .واصل دراستك في السودان . أدرس السياسة والاقتصاد .إن الإنسانية في حاجة للعلماء الشرفاء .لا بد أن تكون ناجحا ليقبلك والدي فرانكويز ) انتظرت فرصة توقفه ليبتلع ريقه وقلت له :
- لن أذهب للسودان .. سوف أذهب لبريطانيا .
- ماذا تفعل هناك ؟.. هل يحتاجون لعمالة ؟
- ليس لدي فكرة .
- حسنا قد يكون الرب مدخرا لك خيرا هناك … ليس لديك مشكلة دخول ، فأنت من مستعمرة بريطانيا .
قال ذلك وفتح أحد أدراج طاولته ومد عشرة جنيهات إسترلينية قائلا :
- ثمن تذكرة السفر والعودة باريس – لندن ومصاريف الطريق . إذا طاب لك المقام هناك ، يمكنك استرداد تذكرة العودة والاستفادة من المبلغ .ولكن ضع في بالك ، لسنا نحن الذين ألزمناك بالسفر إلى بريطانيا .


**


في صباح اليوم التالي من ذلك اللقاء ،ودعت زملائي وأساتذتي الذين اندهشوا لتعجلي. قال لي الأستاذ المشرف : ( أنت في عجلة من أمرك .. كنت أعتقد إنك قد تغير رأيك ،أو تأتي لتكلمني ، أو على الأقل تبقى معنا بعض الأيام .. حتى وجبة الإفطار لا تود انتظارها !. كأنك تود أن تفر بجلدك.. مثل طائر لم يصدق أن وجد القفص مفتوحا . كان وجودك معنا جد مبارك وتلقى المعهد في هذا العام كثيرا من دعم المحسنين .لقد تركت انطباعا جميلا لدى جميع أسرة المعهد .هذه خمسة جنيهات أخرى خذها قد تحتاج إليها .أذهب في سلام ، فليباركك الرب)
كانت هذه من أصعب تجاربي.في الطريق إلى المحطة الريفية كانت تتملكني الحيرة والمشاعر المتضاربة التي طغت على إحساسي بالحرية

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(49)


مقتل نعيمة ووالديها


الآن جاءت ذكريات عزيزة إلى مقدمة ذاكرتي بقوة ، بعد أن توارت إلى الخلف إلى حين .فقد نجحت في إشغال نفسي طوال اليوم هربا من هذه الذكريات .كانت عزيزة تشاركني الرغبة في زيارة أوربا .وبدأت مشروعا للتوفير من أجل تحقيق ذلك .قد ساعدها في ذلك طبيعتي المائلة للتقتير والاقتصاد .كان لها أسلوبها الفلسفي في الاقتصاد . كانت تقول لي : ( تخيل أن دخلك أقل بعشرة جنيهات من دخلك الحقيقي ، ووفر هذه العشرة .) قادتني ذكرى عزيزة أن أتذكر فؤاد ومظروفه الذي سلمني إياه عند وداعه لي بمحطة السكة حديد.أخرجت المظروف وفتحته بحرص .وجدت داخله مبلغ عشرين جنيها ، ووريقة من فؤاد مكتوبا عليها : (هذا ما وفرته محبوبتنا بغرض السفر إلى أوربا ، فاصرفه أنت لتسعد روحها )
في أثناء جلوسي على رصيف المحطة ، خطر لي أن أزور إحدى العائلات التي تعرفت عليهما في زياراتي لعائلة فرانكويز - مسيو ومدام هورست -. بالفعل قمت بالزيارة ، ووجدت منهما كل الترحيب .عرفت منهما أنهما بصدد زيارة ابنتهما في ليبزج وطلبا مني أن أرافقهما .مسيو هورست يهودي ألماني ، أما مدام هورست فهي فرنسية .حكيا لي عن تجاربهما أثناء الحرب العالمية الثانية .كنت أستمع باهتمام . عندما سألته عن اليهود الأوربيين وما عانوه في هذه الحرب ، رد بحدة : ( اليهود … اليهود .. لماذا دائما السؤال عن اليهود ؟ الكل عانى في هذه الحرب .هل الآخرين أقل شأنا من اليهود ؟ أنا يهودي ولكن لن ألوث نفسي بهذه الدعايات الباطلة )
وجبة الغذاء كانت عبارة عن سندوتشات .فقد كان هذان الزوجين يعيشان حياة مقتصدة .كانا عضويين في الحركة الوجودية الفرنسية . أخذاني إلى الحي اللاتيني قرب جامعة السوربون ،لأرى وأسمع لأول مرة بأن هناك يهودا مناصرين للحق الفلسطيني ، ويعارضون قيام دولة الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية .كانوا يعتقدون أن قيام هذا الكيان قد جلب الكراهية لليهود في أنحاء العالم .ويعتقد بعضهم أن قيام هذا الكيان حعل الفلسطينيين مثل الهنود الحمر في أمريكا وسكان أستراليا الأصليين .
ما يثبت صحة هذه التقارير أن والدي نعيمة قد قتلا عام 1949م ،بيد مهاجر يهودي من بولندا . كانت هذه العصابة بقيادة إسحاق شامير ، الذي أصبح رئيسا لوزراء هذا الكيان عام 1985م .
في مارس عام 1950م وقبل أن أفيق من هذه الصدمة ، وصلتني أخبار ،بأن نعيمة قد تلقت نفس المصير في حيفا .كانت قد ذهبت هناك لتتقصى عن مقتل والديها وتحصر تركتهما .فكان القدر والعصابة متربصين لها هناك . كدت أجن من الصدمة والحزن.هذا الحزن أسلمني لسلسلة من الجدل والنقاش داخل مجتمع المعهد اللاهوتي . حتى عدني بعضهم من المنكرين .تسبب هذا مع أشياء أخرى بقطع منحتي الدراسية .
استمر مسيو هورست في سرده لظروف الحرب التي عاشها . شجعه على ذلك الاهتمام والإنصات اللذان وجدهما مني .سألته :هل أعيد بناء فرنسا بعد الحرب ؟ كانت إجابته بأن فرنسا وإيطاليا لم تدمرا فقد سلمهما الرخ سالمتين .


**


كان هذان الزوجين المقتصدين كريمين معي لأبعد الحدود .اشتريت تذكرة طلاب مخفضة كلفتني اثني عشر جنيها .في القطار حدثني هورست عن الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت أوربا بين عامي 1920 و 1939م وتكلم عن احتمال قيام الوحدة الأوربية الاقتصادية والشركات المتعددة الجنسيات .
عند الحدود الفرنسية الألمانية سألني ضابط الجوازات الألماني بدهشة : ( زودان !! أين يقع زودان ؟ ) – يقصد سودان – أجبته : ( مستعمرة بريطانيا في إفريقيا … بالقرب من مصر ) هز رأسه وختم على جوازي ختم الدخول _ كارلسيه 1-أغسطس 1950 – وبذلك دخلت ألمانيا بسهولة ، كما يدخل مهاجر غرب إفريقيا السودان ومصر . كان السبب كما شرح لي مسيو هورست فيما بعد : ( إنهم في حاجة للعمالة الأجنبية . إذا رغبت ، يمكنك البقاء هنا طوال حياتك ) .
غادرنا القطار في هذه النقطة الحدودية .نزلنا في فندق بمقابل ستة شلنات للفرد الواحد لليلة الواحدة مع الإفطار.في اليوم التالي أخذنا القطار إلى هيدبيرج وفي اليوم السادس أخذنا قطارا آخر إلى كاسل .مكنني القطار الأخير من من التفرج على كل المدن والقرى الألمانية التي مررنا بها ، لأن القطار كان يتوقف في كل المحطات . في اليوم التالي من وصولنا كاسل ، أخذنا القطار إلى ألمانيا الشرقية .كان هذا القطار يتكون من عربتين فقط وعدد ركابه يتجاوز العشرة بقليل ، منهم ستة من المجندات السوفيتيات . كنت كلما أبرز جواز سفري لمسئولي الهجرة يندهشون من هويتي ، يبدو أنني أول سوداني يمر بهذه الأماكن . كنت فرحا ومتعجبا من الطريقة السهلة التي أدخل بها كل الأقطار الأوربية .في ألمانيا الشرقية رأيت المجندين والمجندات السوفيت يعملون في إعادة البناء .كانت آثار الحرب تفصح عن نفسها في كل ألمانيا .وخاصة ألمانيا الشرقية .كما لاحظت أيضا النشاط في إعادة البناء في كل من ألمانيا الغربية ، هولندا وبلجيكا . مستغلين في ذلك العمالة التركية والشمال إفريقية .كان كل هذا النشاط يندرج تحت مشروع مارشال لإعادة البناء ومحو آثار الحرب في أوربا الغربية . لقد رفض استالين هذا المشروع ، حتى لا يكون مدعاة لتدخل الرأسمالية الأمريكية في شئون بلاده ، كما أخبرني هورست بذلك .في ليبزج أخذني الزوجان إلى الكاتدرائية .هناك أخبرني القسيس بأن هجوم الحلفاء قد دمر كل المدينة وبقي هذا المبنى قائما ليحكي عن معجزة إلهية. ثم أضاف : ( هنا كتب باخ أروع أعماله.) سألته : ( من باخ هذا ؟) ولكنني لم أحصل على إجابة لصعوبة أن يتحدث المرء عن باخ وتأثيره في الثقافة الأوربية ، في وقفة واحدة .لجأ القسيس لأقصر الطرق ليعرفني على باخ : طلب من عازف الأرغن أن بعزف لي أحد مقطوعاته . من يومها فقد اهتممت بباخ وآثاره الموسيقية
.

**


الآن أصبحت وحيدا .فقد أنهى مرافقي رحلتهما في ليبزج كما هو مخطط من قبل . صدق من قال أن الصديق الحق من تجده وقت الضيق .لا يستطيع أحد أن يقدر رفقة السفر إلا بعد أن يفتقدها .أعطاني مسيو هورست خطابات تعريف لبعض معارفه وأصدقائه في كل من برلين ، درسدن ، هامبرج وأوستند .شكرتهم ووعدتهم بالمراسلة .
تقع درسدن على بعد مائة ميل جنوبي برلين.كانت قد دمرت تدميرا كاملا بواسطة القاذفات الأمريكية البريطانية ، طوال الأربعة وعشرون ساعة خلال يومي الثالث والرابع عشر من شهر فبراير من عام 1945م . أختيرت من قبل القوات المعادية لتكون نموذجا للتدمير الكامل للمدن الألمانية حتى يروع الألمان بنقل الحرب إلى مدنهم .وقد كان الدمار بدرجة أصبح يطلق عليها هيروشيما الأوربية.تقول تقارير بعض المؤرخين أن القوات الأنجلو-أمريكية قد تعمدت تدمير المدن بالرغم من أن هتلر قد نادى بالتسليم منذ عام 1944م ، ولكن مناداته وقعت على آذان صماء . تم قبول هذا التسليم غير المشروط في السابع من مايو عام 1945م بعد الانتهاء من خطة التدمير

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(50)


قسمـة



من اوستند قطعت الباخرة القنال الإنجليزي الهادئ . وقفت على الحاجز ، أراقب الجرف الأبيض لمدينة دوفر، الذي يقترب رويدا…رويدا . أنظر لبريطانيا العظمى وأقول لنفسي ، أرض صغيرة حكمت معظم العالم بمن فيهم أنا و قومي.أنظر للشعب البريطاني وكأني أراهم لأول مرة .أقارن بين هؤلاء والإداريين المستعمرين في بلادي.
وقفت أمام ضابط الجوازات الإنجليزي. كان شكله مرعبا وخاصة عينيه الصغيرتين وحاجبيه الكثين المتنافرين .
كان له شارب يشبه شارب كتشنر .على العموم فقد كان مظهره فظا .فتح جواز سفري ونظر إلى قائلا : ( اليوم هو عيد ميلادك الثاني وثلاثون.). نظرت إليه بمشاعر فاترة ، ليس من عاداتنا أن نحتفي بيوم الميلاد. قلب في دفتر كبير أمامه ثم ختم (دوفر الثاني من سبتمبر 1950م) ثم أعاد الجواز.
أخذت جوازي وحقيبتي وتبعت الركاب صوب القطار .قبل الوصول للقطار أوقفني أحد ضباط الجمارك متسائلا عما إذا كان قد سبق لي المرور بأوربا الشرقية . عندما أجبت بالإيجاب ، اصطحبني إلى إحدى الغرف ، حيث قام بتفتيشي تفتيشا دقيقا . ابتداء من ملابسي وانتهاء بحقيبتي وأوراقي.لا أدرِ من أين أتتني حبال الصبر التي مددتها طوال ساعة التفتيش وجزء آخر من الساعة لإكمال لبسي وترتيب حقيبتي .لقد غضبت من هذا الفعل كما غضبت من قبل من تصرف جولدبيرج مفتش عطبرة.ولكن في كلتا الحالتين كان غضبي سلبيا .هذا هو الجانب القبيح من بريطانيا .إذا حدث هذا في السودان كان سيكون لي موقفا آخر، لأننا نعتبر هذا من الأمور التي تمس الشرف والكرامة.
وقفت على الرصيف أنظر للقطار الذي يشع نظافة . هناك درجتان للركاب : أولى وثالثة ، ولا توجد درجة ثانية . أخذت مكاني بين ركاب الدرجة الثالثة . صفر القطار صفارة التحرك المعروفة ،تحرك قلبي هلعا من هذه التجربة .( القطارات في أوربا تسير سريعا)قلت سرا وأنا أتذكر نفسي صبيا يافعا ،أنطط بين عربات القطارات في مدينة عطبرة. الشمس هنا تسطع في هذا الشهر ولكنها شمسا لطيفة لا تحس بلسعة أشعتها كما في بلدي. كل الأرض خضراء وعلى مد البصر لا ترَ غير الخضرة .هل كنت أحلم بكل هذا الجمال .الركاب يبدون مثل الصم البكم ، عكسنا تماما .في السودان نعقد الأحاديث الطويلة . الإجابات القصيرة الحاسمة تعتبر سلوكا فظا

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
في تمام الساعة الثالثة ظهرا وصل القطار محطة فكتوريا بلندن نزل الركاب فنزلت معهم .لمحت مقعدا خشبيا، فاتجهت إليه .جلست عليه واضعا حقيبتي بين رجلي .( أنا في إنجلترا … أنا في بريطانيا العظمى … هل هذا خيال) . همست لنفسي وأنا جالسا أتفرج على آلاف الناس ، يصعدون ويهبطون .كان الجميع في عجلة من أمرهم .لا تسمع غير نقرات خطواتهم على البلاط النظيف اللامع . ما أكبر الفرق بين هذه المحطة ومحطتي الخرطوم و عطبرة في السودان ومحطة باب الحديد في مصر .محطاتنا تشهد ركابا أقل وضجيجا أعلى .الكل يصرخ .. الكل ينادي على زميله بصوت عالٍ ، حتى في أحاديثنا الودية فإننا نتكلم بصوت عال كأنك تحادث أصما .في السودان ومصر نسمي الإنجليزي أبا الهول لقلة كلامه .كنا نعد تصرفهم هذا تحقيرا من الحكام للمحكومين .
رأيت رجلا ينظف المكان . من يصدق !! إنجليزي يحمل مكنسة … إنجليزي عامل بسيط !!! نظرت إليه كأنه شخصا آتٍ من كوكب آخر .عندما وصل لمكاني وقفت له تأدبا ، كما اعتدنا أن نقف لحكامنا .( عفوا سيدي ) قالها ووقعت في أذني موقعا غريبا . وقفت في مكاني كالأبله .قام بتنظيف المكان الذي لا يحتاج لتنظيف وأبتعد مواصلا عمله.عيناي تتبعه وأنا أقول في نفسي : ( هل حقا قال لي يا سيد ؟)
ذهبت لأستبدل نقودي . سألني الصراف : ( هل هذا كل ما تود استبداله ؟) . له كل الحق في هذا السؤال ، فقد كان المبلغ المقابل : ثلاثة شلنات وثمانية قروش .بالحق كان هذا كل ما معي ، إضافة للأمل المرتجى من أن أتمكن من استرداد قيمة تذكرة العودة .
زحف علي الزمن وأنا جالس في مكاني . إنها الآن التاسعة مساء . لم آكل أو أشرب شيئا منذ الأمس لكنني لم أشعر بالجوع والعطش . كنت أقول لنفسي : إن إيجاد الأكل والشرب يكون بعد إيجاد السكن .
جلس بقربي رجلان ، يبدو عليهما السكر الشديد ويحمل كلاهما زجاجة خمر في يده . دعواني للشراب ، فاعتذرت . جلسا قليلا ثم غادرا بخطوات متعثرة من أثر السكر. ثم جاءت فتاة وجلست بقربي . إنها امرأة مقبولة الشكل في حوالي الثلاثين من عمرها.همست لي ( لفترة قصيرة مقابل عشرة شلنات ) .لم أفهم مرادها أول الأمر . قلت : قد تكون شحاذة . نظرت في عينيها ، ففهمت وصعقت !! عاهرة إنجليزية تمارس تجارتها على أرصفة المحطات .. من يصدق هذا .أجبتها : ( آسف … إن كل ما معي ثلاثة شلنات فقط ). نظرت إلي غير مصدقة وابتعدت .
بدأت أشعر بالتعب . بينما أنا أفكر أين يمكنني أن أجد مكانا لأرتاح فيه قليلا ، فإذا بي أرى رجلين وامرأتين يلبسون زيا ، قد رأيته من قبل في أحد الأفلام بالخرطوم . إنه فيلم بربارا العظيمة ، لجورج برنارد شو .كنت قد تفرجت عليه في سينما كلزيوم مع بعض الأصدقاء …يا إلهي .. إنها حقيقة .. إن هناك ما يسمى بجيش الخلاص . تقدم إلي رجل وامرأة من جيش الخلاص وسألاني مباشرة : ( هل لديك مكانا تقضي فيه الليل ؟) وقفت ناهضا وأنا لا أجد ريقا لأبلعه . أردفا السؤال : ( هل لديك ما تأكله ) .إننا نشأنا بأن لا نتقبل الدعوة بمجرد عرضها علينا .قلت كاذبا : (نعم – شكرا لكم).تقبلا اعتذاري وغادرا المكان دون مزيد من الكلام . في بلدنا ، المضيف يعزم على الضيف ويلح عليه حتى يقبل الدعوة . إذا لم يفعل ذلك ، تعتبر الدعوة من قبيل المجاملة وتبادل الود . فليس من المقبول عندنا أن يستجيب الشخص من أول كلمة .لذلك اندهشت من مغادرتهم السريعة ، ليتركاني في الندم لضياع الفرصة .. ذهبا صوب متشرد إنجليزي الذي قفز من أول كلمة قابلا الدعوة.
ذهبت بي أفكاري إلى أهلي . بدأت أحس بالضياع . كبريائي الموروث منعني من تقبل الصدقة . أنا الآن مشرد وأحتاج للمساعدة . عندما وصلت المساعدة إلى تحت قدمي رفضتها .
بدأت الأمطار تهطل والرياح الباردة تنفذ إلى مفاصلي ، جسمي المنهك يرتعش. عندما دقت ساعة المحطة معلنة الثانية عشر منتصف الليل ، كنت جالسا على نفس الكنبة ، أسند رأسي بيدي الباردتين .المحطة الآن شبه خالية . كان هناك شرطي يحوم حول المكان ، فتوجست خيفة منه. توقف في أحد المرات أمامي قائلا :
- لقد بقيت هنا منذ مدة طويلة . أليس كذلك ؟
قلت كاذبا:
- لقد تقدم ميعاد وصولي .. سعادتك.
- يمكنك شراء كوبا من الشاي من بوفيه المحطة مقابل قرشا واحدا … هل تحتاج قرشا ؟
تذكرت بوفيهات قطارات سكك حديد السودان ، المخصصة للإنجليز دون غيرهم .هناك كوب الشاي يكلف شلنا كاملا .
أخبرني الشرطي بأنه كان يؤدي واجبه العسكري بفلسطين .كان يتحدث إلي بطريقة ودية . كنت أستمع إليه وأنا غير مصدق أن كل هذه الحميمية تأتي من شرطي إنجليزي . ذهبنا سويا للبوفيه . طلب لي كوبا من الشاي وكعكة . كان هذا أول شئ آكله منذ أول الأمس . استمر معي في الحديث عن مأساة فلسطين ، معتقدا اعتقادا جازما بأنني فلسطيني . لم أرَ من الضروري أن أصححه. عندما شربت حتى منتصف الكوب ، أخبرني أنه بإمكاني أن أطلب من البائعة إتمام الكوب مجانا .عندما شعر بترددي ، طلب منها ذلك .فجاءت وأتمت الكوب بنفس طيبة .بعد الشاي أخذني إلى استراحة المحطة وقال لي : ( يمكنك أن تنام الليلة هنا ).
في اليوم التالي ابتعت كوبا من الشاي ،عملت بنصيحة الشرطي وحصلت على نصف كوب مجاني . قضيت معظم اليوم أتمشى في المنطقة المحيطة بالمحطة حتى موقع كاتدرائية سان باول .هذه هي لندن !! قلب أعظم إمبراطورية سجلها التاريخ .لكنها من أقذر وأقبح المدن الأوربية والأكثر تلوثا بالدخان .
الآن بدأت أتساءل : ثم ماذا بعد يا صوص ؟ عقلي يرفض فكرة العودة لباريس ومنها للسودان.إنني أفضل الموت على الرجوع للسودان مجرجرا أذيال الخيبة .
رجعت إلى مقعد الأمس .الآن المحطة بدأت تمتلئ بالركاب المغادرين والقادمين . أعمدة الدخان المتصاعدة من القطارات ذكرتني بمدينتي الحبيبة عطبرة . جلست أتسلى بالنظر إلى سيقان الإنجليزيات الممتلئة . المرأة عندنا ممتلئة من أعلى الركبتين والسيقان نحيلة كالعصي . أما هنا .. فيا سبحان الله !. الإنجليزيات هنا أنيقات وجذابات على عكس اللائى نراهن في السودان .
رأيت لوحة إعلانية على أحد المكاتب مكتوبا عليها : ( مطلوب عمال لهيئة السكة حديد ) . تقدمت نحو المكتب . قال لي المسئول : ( هناك شواغر لأربعة حمالين ، سوف نستدعيك بعد أسبوعين.. أترك لنا عنوانك ) كبريائي منعني أن أقول بأنني من غير عنوان . قلت : ( سوف أراجعك بنفسي ) قال لي بعد تردد : (رأيتك تجلس ما يقارب الأربعة وعشرون ساعة على ذلك المقعد . إنك شخص غريب . هل أنت أسباني ؟ قلت نعم ثم أمسكت . قال والشفقة بادية على عينيه : ( تعال بعد يومين لألحقك بالنوبة المسائية)
هذا الأمل قد رفع من روحي المعنوية . فتوارت فكرة الرجوع إلى باريس إلى الأبد .سألت عن إجراءات استرداد تذكرة العودة ، فعلمت أنها تحتاج لأسبوعين وسوف يخصم منها مبلغ خمسة شلنات مقابل الرسوم الإدارية . بمرور الزمن أصبحت مذعورا بأمر السكن . في الساعة الثامنة مساء عادت عاهرة الأمس وجلست بجانبي وسألتني : ( إنك لم تراوح مكانك ؟ لابد أنك من غير مأوى ، أليس كذلك؟ إن هناك الكثير من الوظائف لشخص وسيم مثلك … هل أنت إيطالي …هل تتزوجني !؟) في هذا الأثناء وقف أمامي نفس أعضاء جيش الخلاص : ( هل قضيت الثلاثين ساعة الماضية هنا ؟ يبدو أن مأزقك كبيرا .أين ستقضي الليلة ؟ تعال معنا وسوف نتكلم لاحقا ) أخذت حقيبتي وسرت بينهم تجاه الحافلة المليئة بالدهماء والرعاع .الروائح النتنة تنبعث من الرئات المخمورة والأجسام التي لم ترَ الماء منذ زمن .قلت في نفسي : ( تكارين إنجليز !! أنا تكروني في بلاد الإنجليز .) الفكرة بدأت لي مسلية .. ابتسمت إلى نفسي سخرية من الوضع الذي أنا فيه .أنزلنا في فندق ومنحنا إفطارا مكونا من شايٍ وخبزٍ ومربى . دعاني الخلاصي إلى الحمام قائلا : ( الحمام الدافئ متوفر يا مستر … ) قلت مذكرا : ( اسمي صوص أيوب ) .
الزوجان اللذان انتشلاني من المحطة – مستر ومسز بيرنز –بدأ عليهما الفضول تجاهي ، لذا أخذا وقتا طويلا في توجيه الأسئلة إلي.مما جعل نفسي تنقبض . ولكن تبسطهما معي قد نجح في تهدئتي وأجبت على كل أسئلتهم .( إذن أنت سوداني … لم يسبق لنا أن استضفنا سودانيا هنا . هل ممكن أن تتبعنا ؟) تبعتهم إلى أحد الغرف حيث يجلس شيخ سبعيني وقور إلى طاولة صغيرة . رحب بي الشيخ وطلب مني الجلوس وقدم لي مزيدا من الشاي . ابتدر الشيخ حديثه قائلا :
- أنت لست إنجليزيا ولا حتى فرنسيا ! من أين أتيت ؟
- من السودان يا سيدي .
- السودان !! لقد كنت أعمل هناك لعدة سنوات . هل تعرف أم درمان؟
- نعم سيادتك .. لقد أتيت من المسالمة .. لقد عشت معظم عمري في عطبرة ، ولكنني مولود في ود مدني .
نظر الشيخ إلي في دهشة ، ثم طلب من مسز بيرنز أن تأتيه بكوب من الشاي . أخذ يشرب الشاي ولكنه لم يرفع عينيه الزرقاوين عن وجهي .شرب من الشاي حتى نصفه ثم استأنف حواره :
- قلت لي إنك ولدت في ود مدني السني ، على النيل الأزرق … كم شجرة لالوب أمام منزلكم ؟
- كانت ثلاثة والآن بقيت واحدة .. كيف عرفت هذا ؟
- وماذا جاء بك إلى بريطانيا العظمى ؟
- أرغب في أن أكمل دراستي الثانوية ، ثم التحق بالجامعة لأحصل على شهادة في الاقتصاد أو الإحصاء .
- ألم ترغب من قبل أن تكون مهندسا ميكانيكيا ؟
- نعم سيدي ، وما زلت أرغب في ذلك ، ولكن كيف عرفت ذلك ؟
- كم من النقود معك ؟
- ثلاثة شلنات نقدا ، ولكن استرداد قيمة تذكرة العودة قد يجلب لي جنيهان أو ثلاثة .
- ما اسمك ؟
- صوص … صوص أيوب .
- اسم والدك أيوب .. هل كان يعمل بهيئة السكة حديد ؟
- نعم صحيح .
- وأمك وردة بنت خالد مكوجي ..
كان يقودني في أسئلته كأنني منوما مغنطيسيا ، ولم تترك لي أسئلته وقتا لأندهش .ولكن عند وصوله هذا الحد اتسعت الدهشة ، وصرت انظر إليه باستغراب شديد .كان الرجل ينظر إلى وجهي كأنه يقيس كل بوصة فيه . تذكرت بأنني لم أجب على سؤاله الأخير ، فقلت بحلق جاف :
- نعم ..
- هل خالاك لبيب وجاد الرب ما زالا على قيد الحياة ؟
- نعم
أخذ الشيخ يدي بكلتي يديه قائلا :
- أنا القس هورن .. لقد زوجت أمك وردة لأيوب في كنيسة البعثة في أم درمان في عام 1914م … يا لعظمة المسيح إنه اليوم كما كان بالأمس كما يكون دائما … هو الذي جمعنا )
نظرت إليه وذهني يكاد لا يستوعب ما يجري . تبسم في وجهي قائلا : ( كل ثروتك جنيهان وثلاثة شلنات وتريد أن تكون مهندسا ميكانيكيا ) ثم قال بالعربية : ( الله يرشدك …إن قوته المطلقة تعيننا عند الضعف

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
النهاية

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz


السلام عليكم ياناس السديرة

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
صَبِيٌ من النيل الأزرقملحمةالحياة والحب والأسى في السودان المُستَعمَر 1883-1950متأليف : G.balamoan
ترجمة : مصطفى المأمون الشيخ محمدانتظرتكم طويلا لرد الحقوق لأهلها ولكن خاب ظني .. وها أنا أصحح الموضوع بنفسي

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
الاخ ابو المعتصم تم لك ما تريد من مدير المنتدي , ونعتذر عن انشغالنا في الايام السابقة

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 4 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
سلام ياناس السديرة........لعلكم طيبين.....
والله شوق بحر ودموع مطر بس خلوها علي الله مزنووووووووووووق شديد..
الشمالي والله ليك وحشة شديده...اصبر لي قربت اصلكم وجاييكم بالتقيل...علي بالايمان شايل معاي شولات وجركانات وحاجات تاني حامياني...
يلا علي بال مال ارجع سلموا لي علي ناس المنتدي كلهم..
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد