(15)
استكشاف الصحراء
بالنسبة لي فإن استكشاف الصحراء هو مشروعي الخاص ، بعيدا عن الحياة والدين والربح والخسارة .لا يستطيع الآخرون أن يفهموا لماذا أسير كل هذه المسافات في الصحراء وعلى ضفتي الأتبراوي . فقد أحببت هذه الأماكن الموحشة بسكانها البؤساء الذين حاولت الانتماء إليهم ولكني رُفِضت . لقد كانت تتملكني روحا قلقة تكاد لا تهدأ وهو ما يعد في أعين والديَ نوعا من الضياع عديم الفائدة .
في أحد الأيام قصدت إحدى المخيمات الواقعة على بعد عدة كيلومترات غربي عطبرة المقرن، و الذي علمت بوجوده من العم ديمتري وهي كما قال إحدى المحميات الطبيعية ولا يعيش فيها غير بدو الكبابيش وحراس الغابات المحمية . لقد سألت العم ديمتري في إحدى المرات : (كيف يمكن للمرء أن يدرس ويصير خبير غابات؟) ،فأجاب : (أن هذا النوع من الدراسة لا يوجد إلا في أوربا .)
لم أجد من أصدقائي من يرافقني في رحلتي إلى المعسكر المذكور .في أحد أيام الآحاد قررت تنفيذ الرحلة بمفردي ، فعبرت إلى الضفة الغربية على متن أحد المراكب ، ثم توجهت صوب الغرب .ما إن بدأت المسير حتى أوقفني عسكري هوساوي ، والذي تعجب من رحلتي غير المعهودة بالنسبة له ، ولكنه سمح لي بالمسير شرط أن أعود إليهم قبل المغيب . عندما توغلت في المسير لمسافة ميلين بدأت الأشجار في التناقص ولم يكن أمامي إلا السراب وبعض شجيرات الدوم .وبدأ يدب في نفسي الضجر والسأم . وكلما تقدمت نحو الصحراء تكاد الحرارة تأكل قدمي والألم يعصف بساقي وقبعتي لا تقيني لفح رياح السموم ، والذباب اتخذ ظهري وسيلة مجانية في رحلة صحراوية .ثم بدأت قدماي تغرزان في الرمضاء وأخيرا وصلت وأنا في غاية الإعياء والتعب
- السلام عليكم.
- و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
وقبل أن يكملوا السلام ودون انتظار أي دعوة تهالكت على برش من سعف الدوم .ومكثت هناك زهاء الساعة دون أن انطق بكلمة ودون أن يكلمني أحد تقديرا لحالتي . بعد ذلك أحضرت أحد النساء إناء من القرع مملوء بلبن النوق وطلب مني أن أشرب منه ببطء . عندما قدر زعيم البدو إنني قد ارتحت ، ابتدر الحوار قائلا :
_ اهلا وسهلا ، حمدا لله على السلامة . هل تجشمت كل هذا التعب لتزورنا ؟
أجبت باقتضاب :
- نعم .
- أهلا وسهلا ، لابد أنك عانيت الكثير في سبيل الوصول إلينا .
وبعد فترة من الصمت أضاف:
- لقد دفعنا ما علينا من الضرائب ، ألست أنت مندوب الحكومة ؟
ثم أضاف بعد أن تمعن في وجهي :
- لكنك تبدو صغير السن.
ودون انتظار لرد مني سأل في حزم :
- ما هي مهمتك ؟
- أنا لست مندوبا حكوميا ولا علاقة لي بالضرائب . جئت لأزوركم . إنني دائما ما ازور المناطق حول المدينة .
ثم سألت في استعطاف :
- ألا تريدني أن أزوركم ؟
- يا سبحان الله !! هذا منطق جديد !!ّ
صمت الشيخ وبعد أن فكر مليا قال :
- إنك لست بلص ولا تبدو شريرا !! ثم ماذا بعد زيارتنا ؟
- سوف أعود إلى بيتي الذي يقع في حي السكة حديد . أبي يعمل تذكرجي بالمحطة وانه لا يعطي تذاكر مجانا
ثم أضفت وأنا ابتسم :
- يعني مافي بقشيش.
- هذا صحيح فان الحكومة لا تترك مليما يخصها.
وهكذا كلما استمر الحوار كلما تلاشت الشكوك حول شخصي ومهمتي . تكلمنا عن شتى المواضيع ، عن قطعان الماشية و الإبل وقوافل الجمال إلى مصر (الدبوكة).
تمعنت في وجه الشيخ كانت تبدو عليه سيماء السلطة والقيادة ، له أنف طويل معقوف قليلا ولحية وشارب رماديين وشعر حليق و أسنان بيضاء وعيون سوداء وبشرة نحاسية وساقين نحيلين