منتديات السديرة
أنت غير مسجل لدينا . للتسجيل اضغط على زر التسجيل


منتديات السديرة
أنت غير مسجل لدينا . للتسجيل اضغط على زر التسجيل

منتديات السديرة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات السديرةدخول

الساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين

power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد
2 مشترك

descriptionالساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين - صفحة 2 Emptyرد: الساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين

more_horiz
الفصل الحادي عشر



في ذلك الصباح المشرق كان الدخان الأبيض يتصاعد من مداخن مصنع أسمنت عطبره وشريف يسير في الطريق الفرعي الذي يقود إلى مساكن الموظفين .. توقف أمام باب المنزل المنشود ضغط على الجرس الذي كانت تعلوه لافتة أنيقة مكتوب فيها اسم صاحب المنزل مهندس عصام عبد الجواد .. سمع شريف وقع أقدام صغيرة خلف الباب وانفتح الباب ، أطلت منه طفلة وابتسمت له ابتسامة حلوة ودعته للدخول ، دخل شريف المنزل الأنيق وواجه عصام أمامه ، عصام الذي طالما حدثته عنه أمه ، كانت تقف عن كثب حنان زوجته ، وهذه الطفلة التي فتحت الباب لابد أنها ملكة الصغيرة ابنتهما ، فقد وعدوا ملكة إذا انجبوا بنت يسموها بأسمها ، دعا عصام شريف للجلوس بعد أن تعرف عليه ، كان الحديث ذو شجون وحافل بالذكريات ، دار الحديث عن الأوضاع المتردية في البلاد ، التي وصلت تحت الصفر .. أعطى شريف عصام المستندات التي جعلت وجه عصام يتهلل فرحاً .. هذا ما كان ينقصهم ، وثائق لإدانة رموز الفساد في النظام الآيل إلى السقوط .. تتطرق الحديث عن أشباح شندى.
- ما هي أخبار الأشباح في شندي ؟!
تنهد عصام في آسى وسرح بخياله بعيداً ، ظل شريف يحملق في وجهه في توجس .
- كانوا أربعة بكور وعمر وعثمان وعلي .
- نعم حدثتني عنهم أمي كثيراً حتى كدت أراهم بخيالي.
غطت الدموع عيني عصام ولا زال في شروده .
- في الأيام العصيبة الأخيرة اعتقل رجال الأمن بكور وعمر أثناء توزيعهم للمنشورات في المدينة وتم نقلهم إلى سجن كوبر بالخرطوم ، مات بكور في السجن لم يتحمل صدره الضعيف رطوبة السجن وليالي يناير الباردة ، كان يعاني من داء الربو اللعين ... تم إطلاق سراح عمر بعد اختلال قواه العقلية .. ستجده الآن في شندى يقيم مع والدته .. ترك عثمان ثروة والده وأنضم للحركة الشعبية .. أما علي فقد آثر الانزواء في قريتهم النائية في غرب السودان معلماً للصبية .. هذا كان حال مجموعة الأشباح يا شريف .
كان شريف يستمع إلى هذه الإجبار المؤسفة فاغراً فاه في دهشة ، لم يصدق ان كل هذا حدث لأصدقاء أمه وتمتم في أسى :-
- يبدو فعلاً ان الحديث ذو شجون .
- لا تخبر ملكة عنهم حتى لاتفجعها فيم، كانت تحبهم كثيراً يا شريف .
- نعم سوف لن اخبرها .
- أما اذا أردت عنوان عمر
تناول عصام ورقة من الدفتر وجلس على إحدى المناضد وسطر عليها العنوان وناوله لشريف ، تناول شريف الورقة ودرسها في جيب سترته.. حضر الغداء اخذ شريف يتناول الطعام في صمت فقد استغرقته المآساة تماماً كثيراً ما كانت أمة تخبره عنهم في كل المناسبات حتى غدا عدد كبير من أهل البلدة يعرفهم .. يعرفون هؤلاء الجنود المجهولين اللذين أرادوا ان يصنعوا لملكه المرأة الأمية الذكية .. سودان جديد..

descriptionالساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين - صفحة 2 Emptyرد: الساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين

more_horiz
في صباح اليوم التالي استأذن شريف الأسرة الصغيرة في السفر ، في محطة القطار اخبره عصام ان يبلغ ملكة تحياته عند عودته ويخبرها بأن المرحومة أم عصام كانت تدعو لها دائماً بالخير حتى انتقلت إلى الرفيق الأعلى قبل عامين ودعت لها في الارض المقدسة أيضاً كما حذره عصام من التعامل مع الغرباء فقد بلغ السيل الزبا .. تحرك القطار من محطة عطبره يئن ويتوجع وقد اكتظ بالمسافرين كالمعتاد توالت المحطات تباعاً حتى وصل القطار مدينة شندى ظهراً ، نزل شريف، استقل عربة أجرة إلى العنوان ، كانت شوارع المدينة مليئة بالمارة المذعورين ودوريات الشرطة في كل مكان أضحى الحال ينحدر بسرعة شديدة أو شك الطوفان ان يثور وتوقفت السيارة ونزل شريف قرع الباب برفق لحظات وفتحت الباب أم عمر ظلت تنظر إليه في توجس، في ذلك الزمن لآياتي الغرباء بخير ولكنه عندما عرف نفسه لها رحبت به ترحيب حار بالزائر الحبيب ، دخل شريف إلى غرفة الضيوف الضخمة وقد غطى الغبار لأثاث ، دخلت أم عمر إلى غرفة داخليه ثم عادت تقود ابنها ذائع النظرات، كث اللحية، ممزق الملابس ، جلس عمر أمام شريف وحاول الابتسام لكنه عجز عن ذلك واخذ يحملق في شريف بعينين شاهدتا الكثير من الأهوال ، أحدها احتضار رفيق عمره بكور بين يديه قال عمر في صوت واهن.
- أنت ابن ألام العظيمة ملكة .. صابر.
- أنا شريف شقيق صابر الأصغر .
- كيف هي فقط انقطعت أخبارها عنا ؟!
- انها بخير واوصتني ان أقريكم السلام والتحايا العطرة .
- لم يعد هناك أحد تقريه السلام يا شريف *
تهدج صوته وبدأت المرارة تجتاج كيانه فخنقته العبارات وانهار باكياً في نشيج مكتوم نهض شريف وجلس جواره مربثاً على كتفه ومواسياً .
- أتحلى بالصبر يا أخي .. إنها سنة الحياة.
- نعم بالله ولكن ذهبت جهودنا أدراج الرياح .. الكابوس لازال جاثماً على البلاد، مات بكور بين يدي بعد أن صب علينا رجال الأمن الماء البارد .. كان يتشهد ويردد ان الثورة الحرية الحمراء شمس لا تغيب .. ولكنها غابت .
- هذا طريق حافل بالتضحيات وانتم مصابيح الطريق، انطفأ يكور وأنت لازلت تضيء .
- أشكرك يا شريف .. ان زيارتك لها ابلغ الأثر في نفسي .
- رحم الله بكور .
- فليرحمنا الله جميعاً . أنا لله وأنا إليه راجعون .
- سأزورك يا عمر في رحله العودة .
- على الرحب والسعة
- تذكر يا صديقي ان توقد شمعه خير من ان تلعن الظلام .. أتمنى عندما أعود أجدك انخرطت في صفوف المناضلين الشرفاء مرة أخرى.
- أعدك بذلك فقد أحزنني فقد أصدقائي جملةً .
- الأيام كفيلة بأن تزيل الأشجان كما يزيل الصابون الأوساخ عن الثوب الأبيض .
قضى شريف يوماً حافلاً مع عمر ووالدته فاطمة التي أسعدتها زيادة هذا الشاب الغريب الذي بعث الحياة في ابنها

descriptionالساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين - صفحة 2 Emptyرد: الساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين

more_horiz
في الصباح نهض عمر واغتسل.. أزال شعثه وتطيب وارتدى ملابس نظيفة وذهب مع شريف إلى محطة القطار.. ركب شريف القطار مرة اخرى وتحرك به يطوي الارض طياً إلى الخرطوم المدينة التي تشبه جلد الفهد ..
في الخرطوم كان إيقاع الزمن الراكد كبندول ساعة حائط قديمة يشعر شريف الانقباض، كان الجو مكهرب ومشحون بالتوتر معظم المرافق متوقفة وبقاياً المظاهرات والإطارات المحترقة تغطي الشوارع المقفرة، لاحظ شريف كل هذا من نافذة السيارة التي استقلاها إلى الضاحية الثرية إلى بيت عمة الضخم الذي لاح على البعد كانت الأنوار تتلألأ وسيارات عديدة تغطي الشارع يبدو ان هناك مناسبة عظيمة لا يعرفها شريف، تقدم شريف بعد ان نزل من سيارة الأجرة التي لفظته واقترب من البوابة دفعه جندي بغلظة.. كان ذلك فعل زواج شقيقة صابر من هند ، وصابر كالفراشة ينتقل بين المدعويين ، لمح شقيقه شريف عند الباب الخارجي المشرع ، اتجه نحوه وحياه ودعاه بالدخول إلا ان شريف اعتذر واثر البقاء في الخارج .
- أبي توفى منذ أسبوع .
نزل الخبر على صابر كالصاعقة وطفرت الدموع من عينيه وخيم عليه حزن عميق ثم نظر إلى شريف .
- سأحضر لاحقاً ان شاء الله
وودع اخوه الذي قفل عائداً ، عاد يستقبل المدعوين.. ابتعد شريف من ذلك الجو الصاخب وهو يلعن كل شيء في سره.. أدهشته المفارقات التي تعج بها هذه البلاد العجيبة يموت الملايين جوعاً والكبار يتناولون الأطعمة الفاخرة ويتناولون الأنخاب غير آبهين لما يحدث في الأصقاع النائية ، هؤلاء هم البرجوازيون كما ينعتهم ود الزين وهذه هي أخلاقهم سحقا لهم جميعاً .. صابر شقيقه الذي تحول إلى مسخ مشوه يرتدي الملابس الغربية الفاخرة التي يوازي ثمنها سعر محراث يكفي لحرث قريتهم كلها .. دمعت عينا شريف وظل سائر في الطريق الإسفلتي المظلم عندما تذكر كلام والده الأخير "هرب الجميع ويقيت أنت معي يا شريف ".
تذكر المشاكل بين أبويه كان يصلح بينهما رغم ان كل منهم عنيد، ظل يسترضيهما معاً حتى ولو على حساب نفسه " لايهم لقد مات والده وهو عنه راض وهذا اقصى بما يكسبه إنسان في هذه الدنيا الفانية ، رضا الله ورضا الوالدين".
طافت بمخيلته ذكرى الليلة التي اختفى فيها شيخ صالح من القرية وحل بها البؤس والشقاء كان أخر من شاهده راحلاً شريف.. حكى لامه ملكة انه في تلك الليلة ذهب إلى قبر والده ليترحم عليه في منتصف الليل.. وجد الشيخ صالح قائما يصلي وعندما فرغ من صلاته وسلم لمح طيف شريف عند باب ألقبه ناداه وأجلسه جواره أحتضنه الشيخ وهمس في اذنه .
- شريف اسم على مسمى .
شعر شريف بالسكينة وانزاح عنه ذلك الإحساس بالحزن العميق الذي مزق وجدانه، ربت شيخ صالح على ظهره.
- كنت باراً بأبويك .. ان والدك كان صاحب مقام.
نظر شريف إلى الرجل في توجس عندما نهض من جواره وجمع حاجياته للرحيل نهض شريف وامسك بيده طرف أثواب الرجل الخضراء الفضفاضة وهو يبكي بشدة .
- ابقي معنا يا شيخ صالح لا ترحل .
نظر إليه شيخ صالح في حنان بالغ وأزاح يده يرفق .
- لا مقام لي هنا بعد رحيل محمد أحمد.
استدار الرجل بقامته الفارعة كشجر النخيل، وانطلق بخطى واسعة تحت ضوء القمر الذي كان يلقي ظلال موحشة داخل القبة. خرج شريف خلف الرجل الذي طفق يخطو مسرعا، ظل شريف يناديه ورجل يقترب من شجرة الدوم التي تقع عند أطراف المقبرة، لم تسعف أقدام شريف الصغيرة المتعثرة اللحاق بالرجل وعند الشجرة التفت الرجل، وغمر الضوء الأزرق المنبعث من عينيه المكان وجاء صوته الساحر من الجهات الأربعة.
- أبقى أنت يا شريف في البلدة وسيكون لك شأناً عظيماً.
واستدار منصرفاً .. اقسم شريف لأمه قسماً مغلظاً أن ذاك انه شاهده بأم عينه صاعداً صواب السماء .

descriptionالساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين - صفحة 2 Emptyرد: الساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين

more_horiz
الفصل الثاني عشر


أشرقت شمس ذلك اليوم المشهود .. تدافعت أسراب الحمام في الفضاء .. كان يوماً تاريخياً خرجت فيه الشمس وهي تبتسم للأرض.. هب الشعب بكل فئاته ودق أخر مسار في نعش النظام العسكري... خرجت جموع المواطنين في الشوارع فرحة ترقص في الشارع وتهتف ان الثورة الحرية الحمراء شمس لا تغيب سقط سجن كوبر... أخرج الشعب جميع أبنائه المعتقلين سنين عددا وكما دائماً على الباغي تدور الدوائر دارت الدائرة على رموز واركان النظام البائد فكان المتغال عبد اللطيف عم صابر وبدأت معاناه صابر مع هند التي ظلت تعيره بأنه وقف عاجزاً أمام المتغال والدها وانه لم يمد له يد العون وكانما نست كل ما درسته في القانون في تلك اللحظة لم تفلح توسلات امها الطيبة فاطمة في أن تردها إلى صوابها "إذا كان عبد اللطيف مذنب سينال جزاءه العادل وإذا كان يرىء فالديمقراطية كفيلة بالإطلاق سراحه" لكن هند التي أصبحت تمقت صابر كل المقت استمرت في غيها أخذت تعيره بأصله الفقير وبفضلها عليه وفي جلسة النطاق بالحكم على والدها بعشر سنوات سجن.. كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، لم يعد صابر يتحمل اهاناتها المتلاحقة صفعها وخرج من المحكمة ، زالت الغشاوة عن عينيه ، استيقظ ليرى حطام الفردوس الزائف الذي كان يعيشه.. خيل له انه كان نائما ويعيش في حلم طويل ممتع ثم أستيقظ ليجده تغير.. أصبح الآن يحتقر هند واباها ويحتقر نفسه واليوم الذي دخل فيه هذا القصر ويأسف على اليوم الذي رفض فيه العودة مع أمه الطيبة ملكة .

* * *

ركب صابر سيارته ذات الدفع الرباعي وانطلق بها في الشارع لا يلوي على شيء عادت فاطمة إلى المنزل ووجدت ابنتها تبكي ، كانت فاطمة مثل زوجة فرعون في هذا القصر التعس ذاقت الأمرين من زوجها الأناني وابنتها المتعجرفة، ولولا وجود صابر لذهب عقلها منذ أمد بعيد.. هاهي الآن تراه يطير من يدها وزوجها سيقضي سنواته في السجن وبقيت وابنتها في القصر المصادر من الحكومة الجديدة يضربان أخماس بأسداس

descriptionالساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين - صفحة 2 Emptyرد: الساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين

more_horiz
الفصل الثالث عشر



لبست القرية حلة زاهية في تلك الليلة .. لقد عادت الديمقراطية للبلاد ونفضت الاحزاب الغبار القديم وبرزت في الساحة .. كانت الشعارات الجميلة المتباينة تزين طرقات البلدة ومكبرات الصوت تعلن عن العديد من المؤتمرات التأسيسية لجهات عديدة تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. كان شريف يقف على منصة "حزب الاستقلال الوطني" الذي ينتمي إليه والشعارات التي تدعو للسودان الجديد تغطي المكان، صور مرشح الحزب عصام عبد الجواد تملأ الساحة وتزين المنصة .
- انتخبوا ابن المنطقة المهندس عصام عبد الجواد من أجل حقوقكم الضائعة نحن لدينا من المستندات ما يزج خصوما في السجون .
ملكة تجلس مع جموع أهل البلدة تستمع إلى ابنها الذي وقف شامخاً وصوته القوي يجلجل في المكان ، شريف عضو اللجنة الدائمة في حزب الاستقلال الوطني ، ظلت ملكة تحلم بهذا اليوم الذي يتبوأ فيه أحد ابناء محمد أحمد هذا المنير الحر.. هاهو شريف يجسد أمالها وأحلامها يقف أمامها الان .. شريف الذي آثر البقاء في البلدة مصدقاً لنبوة شيخ صالح الغرقان .. كان صوت شريف القوى الاسر يرجرج المكان والجميع يستمعون له بحب عميق

* * *

افتريت السيارة الباترول تشق طرقات البلدة يكسوها الغبار ، تطاردها أسراب الكلاب كانت تسير مترنحة عاكسة الاضطرابات النفسية التي يعاني منها سائقها.. أوقف صابر السيارة ونظر من النافذة إلى شقيقه شريف في المنصة يخطب في الجموع الحاشدة.. كانت كلمات شريف تترامى إلى اذنية وتنكأ جروح عميقة في نفسه .. قديماً قالت العرب الجياد الأصلية تظهر عند نهاية السباق .. سباق المسافات الطويلة .. شريف قد ربح الجولة انصهر مع أهل القرية طيلة السنوات العجاف الماضية وهم جالسين يستمعوا إليه في حب حقيقي لم يعرفه صابر.. حب القرية لإبنائها المخلصين .. ملكة أمه تجلس مع المواطنين وشقيقته زينب التي تركها صغيرة غدت ألان كاعب حسناء تجلس جوار أمها "أين محاسن وكمال بل اين صديقه معاوية؟؟" غابت عنه فترة بل حقبة من عمر البلدة التي رفضها في لحظة من لحظات الشيطان.. عندما سيطرت عليه نزعاته الذاتية.. لم يشعر بالعار في حياته كما يشعر الآن.. اندفع بسيارته بعيداً توقف أمام باب بيتهم.. نفس المنزل .. كل شيء في مكانه كأنه غادره بالأمس عدا فراش والده الخالي في أقصى الفناء وليد شقيقه كان مستلقى يطالع صحيفة "السودان الجديد" وليد الذي تركه طفل كبر وانخرط في الحزب أيضاً استوى وليد جالساً يحدق في الزائر الغريب الذي دفع باب البيت دون ان يقرعه وجلس قبالته ..وجه صابر نظره حب طويلة إلى شقيقه جسدت كل التعاسة التي يعانيها .
- أنا صابر يا وليد !!
هب وليد والقى الصحيفة جانباً واحتضن شقيقه في حب جارف.
- أهلاً يا أخي، لم اتعرف عليك لأول وهلة. سأذهب لأنادي أمي.
خرج وليد تاركاً صابر يتأمل المنزل في حزن بالغ، نظر إلى صورة السيد علي الميرغني معلقة في مكانها المعهود، الطمبور القديم في مكانه معلق إلى الجانب الآخر، لم تمضي لحظات وانفتح الباب دخلت ملكة، هب صابر واندفع نحوها ازاحته بعيداً
- ماذا تريد يا صابر لا مكان لك معنا الآن !!
نزل عليه الكلام كالصاعقة.. استدار نحوها في انهيار تام.
- لقد عدت يا أمي!!
حدقت فيه ملكة وقد فاضت عيناها بالدموع
- عودتك كانت متأخرة .. اختفت أختك محاسن ولم تعد، مات والدك ولم تعد، فما الذي جاء بك الآن؟
- ارجوك ارحميني يا أماه.
- عود من حيث أتيت.. الكلب نفسه لا يعض على يد التي اطعمته.
- لكن يا أمي..!!
- عود إلى منزل عمك وصهرك وابق معهم هناك.
كان كلام ملكة الأخير بمثابة النهاية لصابر.. استدار منصرفاً انهارت ملكة تبكي بحرقة.. أنه ابنها ولا يمكن اسقاطه بسهوله.. دخل شريف إلى المنزل ووجد أمه تبكي وبدت عليه الدهشة العميقة كيف تبكي أمه في يوم كهذا.. الم تنتهي أيام الدموع بعد.
- من كان صاحب السيارة يا أمي؟!
- كان أخوك صابر .. دعك من هذا، ماذا فعلت؟!
جلس شريف جوار أمه ساهماً لحظات " صابر !! ما الذي أتى به الآن؟ " طرد شريف هذه الخواطر المزعجة، ليس هناك وقت للعواطف .. الوقت للعمل.
- قمنا ببث تحذير ضمني إلى أعوان حاج إبراهيم ولا بد أنهم أخبروه بالمستندات التي بحوزتنا.
ابتسمت ملكة من خلال دموعها واحتضنت ابنها شريف بقوة لقد عوضها الله فيه، والده محمد أحمد وكل الأشياء الجميلة التي فقدتها في حياتها.. اردف شريف مواصلاً حديثه.
- إذا فزنا في هذه الدائرة ونفذنا مشاريعنا الخدمية، سنضمن دائرة مقفولة مدى الحياة، لقد وافق الاتحاديين على دعم مرشحنا لإسقاط حاج إبراهيم.
- نعم يا عزيزي أتمنى أن يكون ذلك، عادت لنا الحياة مرة أخرى وذكرى الإنجازات القديمة.
- نعم يا أمي ستقوم بإعادة تأهيل كل المشاريع القديمة.
جلست ملكة ساهمة ورددت في أسى.
- كما تمنيت يا ولدي وكم من أمل مر الخداع.. أن أعرف ماذا حدث لابنتي محاسن، لم يطاوعني قلبي، ابداً انها غرقت في النيل..
نظر شريف باسماً إلى أمه وقبل أن يلقي بالسر.. انفتح الباب ليعلن آخر مفاجئة سعيدة في تلك الليلة، دخلت زينب وقد طفح وجهها بالسعادة وخلفها كمال ومحاسن، كانت محاسن تحمل طفل صغير.. هبت ملكة وشريف في دهشة بالغة يسلمون على الضيوف بالأحضان والدموع التي سالت انهاراً.
- محاسن بنتي إنها لحظة كان يحرسها ملك، لقد كنت في سيرتك منذ لحظة انه قلب الأم.. سبحان الله.
اللقاء حاراً حافلاً بالشجن والدموع، كان حزن محاسن شديداً عندما عرفت وفاة والدها.. ظل كمال يقف بعيداً لا يستطيع النظر إلى صديقه الذي جلس كالمشدوه، لم يعد يحتمل كل هذه المفاجئات التي تساقطت تباعاً.. حملت ملكة الطفل بين يديها تتأمله في حب بالغ وهالها أن ترى ضوء أزرق خافت ينبعث من عينيه المكحولتين، الضوء الغامض الذي ذكرها شيخ صالح .. الرجل الذي شاهده شريف يصعد إلى السماء..
- سبحان الله .. ما أجمله .. ما اسمه؟
- اسمه صالح يا أمي.. إننا كنا نقيم مع الإخوان الجمهوريين في أم درمان، أمرني مرشدهم الأستاذ محمود بأن أسميه صالح. ليتك تعرفي يا أمي كيف فجعنا في إعدام هذا المفكر العظيم..
- نعم يا ابنتي.. امتدت آثار الفجيعة إلى هنا.. اخبرنا شيخ صالح أن هناك جريمة بشعة ارتكبت في حق رجل صالح وانذرنا بفواجع شديدة في المستقبل.. لماذا لم تخبريني يا بنتي بمكانك؟ انفطر قلبي عليك..
- سامحيني يا أمي.. لقد عدت.
- نعم يا بنتي والعود أحمد

descriptionالساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين - صفحة 2 Emptyرد: الساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين

more_horiz
نهض شريف وكمال إلى الفناء الآخر للمنزل واستلقيا في الفرشين اللذين اعدتهما لهما زينب وأخذا يتسامران، ردد كمال في نبرة اعتذار.
- أنا جد متأسف يا شريف..
- ابداً لا داعي للأسف ليس كان بالإمكان ابدع مما كان.
- تزوجت شقيقتك فور وصولنا أم درمان.
- أعلم ذلك، دعك من هذا الحديث، شريف اليوم ليس كشريف في الماضي.
كأنما شعر كمال أن شريف كعهده دائماً أراد أن يطيب خاطره، أدار كمال دفه الحديث إلى ناحية أخرى.
- ما أخبار ابي يا شريف
- بخير .. ويرشح نفسه مع حزب الجبهة الوطنية.
- والدي يا شريف يرشح نفسه !! سبحان الله.
- يا كمال بالرغم من الصداقة التي بيننا ويجمعنا اليوم شيء أعظم .. ألا أن والدك بمثل الخط المعادي لنا ونحن لدينا مستندات تكفي لزجه بالسجن.
استوى كمال جالساً كالمسلوع، أخذ يحدق في صديقه.
- السجن!! لا يا شريف امهلني لحظة.
- ليس لدي مانع يمكنك أن تتفاهم معه وتقنعه بالانسحاب أو العدول عن رأيه، نحن يهمنا أن نكسب الانتخابات وليس غرضنا الأضرار بوالدك.
- اشكرك يا شريف، دعني اذهب إليه الآن.
انهض كمال وخرج من الباب الخلفي، يشق طرقات البلدة المظلمة التي كان يلفها الهدوء إلا من الرياح الخفيفة التي كانت تعبث بالشعارات المعلقة في كل مكان.. دخل منزلهم الهادئ بعد غيبة طويلة، لم يتغير شيء، عدا الصمت الرهيب الذي يلف المكان، وغطيط زوجة أبيه النائمة في أقصى الدار، كان والده يصلي عن كثب، انتظره كمال حتى فرغ من صلاته.
- من هناك ؟
- أنا كمال يا أبي.
انبسطت أسارير حاج إبراهيم وهم بالنهوض.. إلا أن كمال اندفع نحوه واحتضنه في شوق جارف وجلس معه على فرشه الصلاة، لم يصدق حاج إبراهيم عودة ابنه كمال الذي طرده في ساعة من ساعات الشيطان.
- ابني كمال، اين ذهبت؟! منذ خروجك من البيت توالت على المصائب رحلت أمك وابنتها وتركتني أعاني الأمرين مع تلك العجوز النائمة التي أذاقتني الهوان.
كان كلمات إبراهيم المؤثرة النابعة من قلبه تسقط على أذن كمال برداً وسلاماً.
- ألا زلت يا أبي تسيطر على المسجد والبترول في البلدة ؟!
- نعم وإني أرشح نفسى في الانتخابات مع الجبهة الوطنية.
- يا أبي ما شأنك بالسياسة، أحمد الله انهم لم يزجو بك في السجن مع رموز النظام المباد.
- نحن نريد تحكيم شرع الله.
- ماذا تعرف انت عن شرع الله يا أبي .. هل نسيت أنك كنت تحتكر أقوات الناس.. يا أبي إن الإسلام سير في الوادي المقدس ليس كل يتناوله على هواه.
- لقد أصبحت عالم يا ابني.
- هل نسيت يا أبي محمد أحمد الذي مت قهراً بعد فرار ابنته بسببك، المزارع الجافة التي سيسألك الله عنها وأنت المسؤل على الجازولين؟!
- رحم الله محمد أحمد المسكين.
- لا بد أنك تشعر بالذنب حياله.. هل تعرف له عيباً سوى تعاطيه الخمر؟
كان لكلام كمال مفعول السحر في أبيه الذي بدأ ينهار تدريجياً..
- يا أبي أن الحق أولى أن يتبع .. استغفر ربك للتكفير عن الماضي.
انفجر حاج إبراهيم باكياً وهو يضم ابنه بقوة، ويعبث في شعره، كانت كلماته تقطر بالندم، ذلك الندم والعار الذي يشعر معه الإنسان كأن هناك خنجر انغرز في خاصرته.
- لم يكن محمد أحمد رديئاً يا ولدي.. أنا كنت ظالم وأناني !!
- في الماضي كنت تظن الدين صلاة وصيام فقط ونسيت أن الدين المعاملة والتعاون على البر والتقوى.. غاب عنك كل هذا وأعماك الجشع وأخذت تجمع الأموال لتكسب الدنيا والآخرة وخسرتهما معاً..
- كفى يا ولدي لم أعد أحتمل كل هذا.. من أين لك هذا الكلام؟‍‌‍‍‍‍‍‍‍
- إذا ستسمع كلامي هذه المرة.
- نعم يا ولدي كنت حكيماً، ولم أعرف قيمتك إلا عندما فقدتك.
- إذا حضر هؤلاء يا أبي أعلن عن انسحاب من الانتخابات كفاك تلوثا يا أبي ..
- لا يا ابني، ليس هكذا تورد الإبل.. سأعلن انسحابي بعد قفل باب الترشيح وأوجه كل من يريد أن يدلي بصوته لي أن يحوله إلى عصام عبد الجواد.
- نعم وبذلك تكون كفرت ماضيك في حق أهل البلدة الطيبة.
- نعم يا ابني آن الأوان لكي أعتكف لألقى ربي بقلب سليم.
- هذا هو عين العقل.
كان حاج إبراهيم يتمتم في أسى.
- ليتني استمعت لنصائحك في الماضي.
- قلت لك يا أبي ( من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) ألم يكن ذلك ضرباً من الدين أيضاً.
- نعم يا ولدي هذا أصل الدين وميزانه الدقيق.
بينما كان كمال يناقش والده تداعى إلى مسامعه نواح زينب وهي في طريقها إلى المقابر في ذلك الليل البهيم، اتسعت عيناه بالدهشة وردد في ذهول.
- ما هذا الصوت يا أبي ؟!
- هذه زينب أم معاوية.. منذ أن اعتقله رجال الأمن وهذا حالها.. اتخذت المقابر مسكناً.
- أخذه رجال الأمن !!
- نعم يا ابني وكل ذلك بسببي أنا !!
استوى كمال جالساً وهو يحدق في والده في دهشه.
- ماذا تعني يا أبي ؟
- أبرقت لرجال الأمن في المدينة وأخبرتهم بنشاط معاوية السياسي في البلدة وإنه هو الذي يكتب على الجدران.
ألجمت المفاجئة لسان كمال وحملق في والده الذي أدلى بهذا الاعتراف الخطير.
- أبي أأنت فعلت هذا . قل لا ؟!!
انهار حاج إبراهيم باكياً وتمتم..
- نعم فعلتها يا ابني.. وما خفي أعظم.. وريا بنت عبد القادر ‍!!
- ريا يا أبي !!
- لا استطيع أن أخبرك بكل شيء .. فاليرحمني الله ‍‍!!
أخذ حاج إبراهيم يبكي بحرقة.
ردد كمال في أسى ونظر إلى والده في إشفاق.
- فعلاً يا أبي أنت تستحق رحمة الله ..
نهض كمال وودع والده بعد أن ألقى عليه قنبلته الأخيرة "إنه تزوج من محاسن بعد أن هربا معاً وتركه فاغر فاه في دهشة‍‍ .." إذا هرباً معاً، الحمد لله على كل حال، كاد يدمر حياة ابنه بيده.. تباً لتلك الأيام القذرة..

descriptionالساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين - صفحة 2 Emptyرد: الساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين

more_horiz
الفصل الرابع عشر


اندفعت عربة صابر في طرقات البلدة في طريقها إلى المقابر.. كانت أضواء مصابيحها القوية تبدد العتمة، أوقف صابر العربة عن كثب ونزل يشق المقابر الموحشة يبحث عن قبر والده سمع نشيج مكتوم ينبعث من قبة شيخ صالح، أوجس خيفة لحظات ثم اندفع نحو باب القبة، وقف صابر يتأمل مدهوشاً المرأة الثاوية عند القبر "من هذه المرأة ؟!" استطاع بعد برهة من نواحها أن يعرفها "انها زينب أم معاوية، صديق الطفولة.. هل مات ولدها ايضاً ؟!" .. سمعت زينب الخطوات عند الباب والتفتت ورأت شبح صابر على ضوء القمر، تملكها رعب شديد واندفعت نحوه كالنمرة الشرسة فحاد عنها بصعوبة وخرجت لا تلوى على شيء وتلعنه وتنعته بأنه أحد رجال الأمن اللذين أخذوا ابنها وغاب صوتها بعيداً، اقترب صابر من قبر والده، جلس يسكب العبرات وقد اعتصره الألم، كان يشعر بالضياع وأن لا أحد يريده.
- أبي الحنون كم افتقدتك، لم يعد لي أحد في الدنيا، تخلى عني جميع الناس، بما فيهم أمي، أرجوك أن تغفر لي يا أبي كنت ابناً عاقاً، لم أفهم حقيقتك، كنت يا أبي في القرية كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسك. ليتك لم تمت يا والدي، كنت غفرت لي بنفسك المتسامحة .
ظل صابر يندب حظه العاثر عند قبر أبيه في المقابر الموحشة ونعيب البوم يملأ المكان، ويزيد من كآبة صابر، نهض وخرج من القبة يشق المقابر في طريقه إلى السيارة. ركب السيارة واستدار بها نحو الصحراء وانطلق، توقف تفكيره تماماً، "لم يعد يعرف من هو !! وإلى اين يذهب، لم تكن هناك جدوى لبداية جديدة.." مع ازدياد اضطراباته الداخلية.. كانت سرعة العربة تزداد ومؤشر السرعة يقترب نحو المائة واربعون.. ظلت مصابيح السيارات القادمة في الاتجاه المقابل في هذا الطريق الوعر تلقي ظلالاً موحشة على وجه صابر المتكدر.. انتهت كل المعادلات التي تحفزه على البقاء على قيد الحياة و لم يعد يذق طعماً لها، فقط المرارة والسيارة منطلقة كالسهم. كان لا بد من حل واحد.. ضغط على دواسة الفرامل وأدار المقود بحدة، طارت السيارة في الهواء وهوت في الوادي السحيق.

* * *

كانت هذه الليلة من أطول ليالي القرية، بعد انصراف صابر، جاءت محاسن تحمل وليدها إلى قبر والدها، جلست تبكي داخل القبة وتطلب الغفران.
- اغفر لي يا أبي لو كنت أعرف أنك سترحل ما هربت، وبقيت معك لأودعك الوداع الأخير.
ظلت محاسن ثاوية عند القبر، اقترب رجل ممطياً حماراً من باب القبة، كان حاج إبراهيم .. نهضت محاسن وقد تمكلها الفزع الشديد، تنظر إلى القادم الجديد.
- أنا ابراهيم يا بنتي، لا تخافي !! سامحيني لقد اخطأت في حقك وفي حق المرحوم والدك !!
وجهت له نظرة احتقار وهرولت عائدة إلى القرية تحمل وليدها الذي أخذ يبكي بشدة.. نزل حاج إبراهيم من الحمار، دخل إلى القبة، ركع جوار القبر يندب حظه العاثر ويتمسح بشاهد القبر وقد خنقته العبرات.
- أعفو عني يا محمد أحمد ، كنت أنت الغني بنفسك العالية وكنت أنا الفقير بمالي القذر، إن لم تعفو عني فعلي لعنة الله والناس أجمعين!! يرحمك الله يا محمد أحمد لقد انتصرت علي مرة أخرى !!
نهض حاج إبراهيم ومسح الدموع التي فاضت من عينيه مدراراً وخرج من القبة إلى الظلام الشاحب الذي يلف المكان بعد أن مال القمر إلى الأفول مؤذناً بالساعات الأولى للفجر .. كانت الرياح تعبث بأوراق أشجار النخيل المتيبسة مصدرةً صوتاً كالفحيح، مضى الرجل يشق القبور على ظهر حماره وعند طرف المقابر خيل له انه سمع صوتاً مألوفاً يتردد في اذنيه " عفوت عنك .. عفوت عنك " اطلق الرجل زفرة حارة وتمتم "اللهم أعشنا في سلام وامتنا في سلام وادخلنا دارك دار السلام"، دلف بحماره إلى القرية التي كان يخيم عليها الصمت إلا من نباح الكلاب الذي كان يتداعى من بع

descriptionالساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين - صفحة 2 Emptyرد: الساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين

more_horiz
الفصل الخامس عشر



كان الماء ينسلب عذباً رقراقاً.. يتلامع كالمرآة السحرية مع اشعة الشمس الذهبية الغاربة في القناة، في ذلك الأصيل المشهود من أيام القرية التي بدت تدب الحياة في أوصلها تدريجياً.. كانت زينب تجلس عند حافة القناة عند مشرع المعدية تعب الماء عباً، وصلت المعدية إلى الشاطئ وبدأ القرويون يتدافعون للنزول إلى البر دافعين الدواب أمامهم.. نزل شاب طويل القامة نحيف تبدو عليه آثار السفر والعناء، نظرت زينب من خلف الشجيرات إلى ذلك القادم الغريب، لم تكن تعرف انه معاوية فلذة كبدها الذي فجعها فيه رجال الأمن، عاد معاوية كأنه كبر ألف عام، دلف معاوية يشق طرقات القرية المتربة.. مر جوار منزل ود البشير الجزار، كان يعمل معه صبي جزار أحياناً في الماضي، هرعت الكلاب الشرسة لاستقبال صديقها القديم معاوية، تعرفت الكلاب الوفية على اليد التي كانت تطعمها في الماضي، الكلاب التي لفظت عثمان ود البشير وجعلته يترك البلدة نهائياً، استقبلت معاوية استقبال الأبطال.
كان شريف وكمال يقفان أمام منزلهم، لمحا معاوية قادم عند نهاية الزقاق..
- من القادم الجديد يا كمال؟!
نظر كمال إلى الرجل القادم من بعيد تتراقص حوله الكلاب.
- يا إلهي.. انه معاوية!!
كان اللقاء بين الأصدقاء الثلاثة حافل بالشجن، الزمن الذي فرقهم الأمس عاد يجمعهم الآن، تعالى صوت ملكة من داخل البيت، كانت تستفسر عن القادم الجديد، لم تسعها الفرحة عندما خرجت وواجهت معاوية القادم من المجهول، كانت حرارة اللقاء شديدة، حتى انهم لم يفطنوا إلى زينب التي اقبلت تشق الطريق المترب في طريقها إلى المقابر غير آبهة بهم، التفت معاوية إلى أمه في استغراب، اصبح شكلها مفزع، تمزقت ملابسها واسود لونها وتساقط جل شعرها الطويل الجميل، تعرف معاوية على أمه، القى حقيبته الصغيرة واندفع خلفها يناديها.
- أماه .. أنا معاوية !!
وقفت زينب بغتة وقد رن صوت ابنها في أذنها كالجرس عله أوقظ ذاكرتها النائمة، والتفتت تحدق فيه ملياً وهو يوسع الخطى نحوها، ثم انصرفت عنه تنوح "ولدي معاوية أخذه رجال الأمن… ولدي لن يعود".. شعر معاوية كأنما هناك خنجر انغرز في صدره، عرفته الكلاب الوفية ولم تعرفه أمه.. انهار معاوية باكياً " ما الذي حدث في هذه الدنيا ؟! " اقترب منه كمال وشريف يطيبا خاطره وعادا به إلى البيت.
- لا عليك يا معاوية، كانت الصدمة فوق احتمالها، ملكة ستتكفل بها فهي لا تثق بأحد غيرها منذ وفاة أبي.
- هل مات محمد أحمد ايضاً ؟!
- نعم يا معاوية مات أبي والحديث ذو شجون هيا بنا الآن .
- إنا لله وإنا إليه راجعون.
دخلوا إلى المنزل، وتهالك معاوية على عنقريب دافناً رأسه بين يديه. جلس الصديقان قبالته يحدقان فيه في أسى عميق..

* * *

اندفعت ملكة خلف زينب التي ولت مبتعدة في طريقها إلى مكانها المعهود، المقابر.. وقد بدأ الظلام يلف المكان بعبائته السوداء المرصعة بالنجوم.. عند قبر محمد أحمد جلست المرأتان تندبان وتنوحان.. كان نواحهما يشق صمت المقابر الموحشة ممزوجاً بنعيب البوم وحفيف الأشجار، أشجار النخيل والدوم المتيبسة.. وأنين الساقية البعيدة.. كانت هذه سيموفنية الخراب الذي خيم على هذا البلد الذي خبث..

descriptionالساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين - صفحة 2 Emptyرد: الساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين

more_horiz
انتهت

descriptionالساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين - صفحة 2 Emptyرد: الساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين

more_horiz
مشكوور على الرواية الرائعة يارائع

descriptionالساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين - صفحة 2 Emptyرد: الساقية ..رواية سودانية لعادل الأمين

more_horiz
انتي الرائعه
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد