الفصل الأول
قرية طيبة إحدى قرى شمال السودان الصغيرة .. كأي قرية من قرى دول العالم الثالث، الحياة فيها أشبه المستنقع تنحدر من سيء إلى أسوا وتبرز فيها متناقضات المجتمع الثالث الطيب والشرير والقبيح …
مع خيوط الفجر الأولى يتعالى صياح الديوك بين أكواخ القرية المتناثرة، التي تختبئ تحت غابة من أشجار النخيل والدوم. وهي من أشهر نباتات المناطق شبه الصحراوية..
منازل القرية مبنية بالطين ما عدا منشآت الحكومة وبيوت التجار، مبنية بالطوب المحروق ومطلية بالجير الأبيض جعلها ذلك تشكل نغمة نشاذ في هذه المنظومة التي حاكها الفقر.. حاج إبراهيم تاجر كبير من أكبر رجالات القرية.. ويلقب أيضاً بود المهتدي لأن أسلافه كانوا من اليهود القدامى في المنطقة وأعتنق جلهم الإسلام بينما هاجر البعض الآخر..
يقف منزله شامخ في قلب القرية.. كانت الانتهازية تحتل مساحة واسعة من شخصية هذا الرجل ويجسد ما يسمى برجل الدين ورجل الدنيا، يأوم المصلين يوم الجمعة في جامع القرية ويقوم بتخزين الدقيق والسكر والجازولين في متجره الأشبه بجحر الضب الخرب بالإضافة إلى أنه عضو بارز في مجلس المنطقة ويعتبر زراع للحكومة في القرية متزوج من امرأتين، ابنة ود البشير وهي عقيم لا تلد والثانية شقيقة عبدالباسط، التاجر بالإقليم الجنوبي، تدعى مريم، أنجب منها ولديه كمال وإيمان.
كان للثروة التي هبطت على شيخ عبد الباسط أسطورة، ظلت تحكيها زوجته الطيبة آمنة للغادي والرائح، في ذلك اليوم ذو الحر القائظ، من أيام رمضان، حضر زوجها من مزرعته المتواضعة في معية رجل غامض يرفل في أسمال بالية ويحمل حبلاً ملفوفاً على عاتقه بعناية، كعادة أهل السودان، كانت قمة الأصالة تتجسد في رمضان عندما تدعو عابر سبيل ليتناول معك طعام الإفطار.. تناول الرجل الغامض الطعام معهم ودعا لهم بالبركة وبات ليلته معهم وفي الصباح ناول عبد الباسط الحبل وأخبره أنه سيعود ليأخذه يوماً وأندفع في طرقات القرية واختفى كأنما ابتلعته الأرض.. مضت السنين وانفتحت كنوز الحكمة على حاج عبد الباسط المزارع الفقير وبدأ يخطو خطوات واسعة نحو الثراء.. نجح محصول البصل الذي زرعه في ذلك الموسم واشترى شاحنة ثم أسطول شاحنات ينقل البضائع من الخرطوم إلى الأقاليم الجنوبية للبلاد، لم يغر الثراء المفاجئ حاج عبد الباسط بل كان سباقاً للخير، بنا المدرسة والعيادة بحر ماله، وفي كل المناسبات السعيدة التي تمر على القرية كانت له اليد الطولى، ظل لسانه دائماً يلهج بالشكر والعرفان لله الذي يرزق من يشأ بغير حساب، ومنذ ذلك الحين تمنى أهل البلدة لو كان ذلك الرجل الغامض صاحب الحبل ضيفهم فقد عرفوه، إنه العبد الصالح، الخضر. تمنوا لو كانوا صادفوه فهو يأتي مرة واحدة جالباً معه السعادة والثراء وسعيد الحظ الذي يعرفه، لأنه يأتي دائماً في ملابس الفقراء والمتسولين ومظهره الخارجي لا يدعو إلى الاحترام في هذا الزمن الذي يهتم الناس بالمظهر دون الجوهر.. كان هذا حديث حاجة آمنة الطيبة زوجة عبدالباسط.
عن كثب من متجر حاج إبراهيم يلوح سور المدرسة الأبيض. المدرسة الأولية الوحيدة في البلدة، ملحق بها منزل حكومي واحد للناظر، كان في تلك الفترة الرجل الأسطورة ود الزين وزوجته زينب وطفلهما معاوية، منذ أن حضرت هذه الأسرة الصغيرة إلى القرية كانت محل احترام وتقدير الأهالي.. ود الزين رجل ثائر لا يرضيه الحال المائل، عرف عنه المشاركة في ثورات عديدة ضد الإنجليز ومن مؤسسي مؤتمر الخرجين الذي كان له القدح المعلى في اجلاء الاستعمار البريطاني من البلاد.
عند نهاية الطريق الذي يفصل بين المدرسة ومنزل ود البشير الجزار، كان يقيم محمد أحمد وأولاده، محمد أحمد يعمل كاتباً في المحكمة الشرعية في البلدة وهذه المحكمة يأتيها قضاة موسميون من المدينة المجاورة، كعادة الفقراء وذوي الدخل المحدود، كانت أسرة محمد أحمد كبيرة توفى نصفهم بالأمراض المستوطنة، وبقيت زوجته ملكة، المرأة العنيدة التي كانت من أجمل حسان القرية أيام شبابها، تصارع في طلب ودها شباب القرية غنيهم وفقيرهم ولكنها اختارت محمد أحمد لشيء في فؤاد أم موسى رغم بساطته ولا مبالاته التي اشتهر بها في شبابه، أولادهم .. محاسن كبرى البنات ثم صابر وشريف وزينب ومسك الختام وليد الرضيع ..
بقي أن نصف المعلم الأخير وهو قبة شيخ صالح التي تقع عند طرف المقابر، جوار شجرة الدوم العتيقة. أما المزارع فقد كانت تحتل الشريط الضيق بين منازل البلدة ونهر النيل.