تاكسي الهنتر
مذكرات حمدان ود فضل المولى
(توثيق لمهنة سائق تاكسي)
كنت اسوق تاكسي الهنتر، موديل 77، أصفر فاقع كبقرة القرآن، يسر دخله الطيب حينها، بتول وفاطمة وجدي سعد حين أعود للحلة محمل بالموز والجزال والمسوايك عصرية كل خميس.
في غبشة الفجر، كنت أشغل المكنة قبيل الانطلاق، ، فأنا السائق والميكانكي والبنجري معا، اشتريته بالتقسيط من شركة الخواجة برسيميان، تبدو المدينة هادئة، ولم يخلق الله بعد حي الازهري، والرياض، وكافوري، وزحمة العربي والأفرنجي، كانت الخرطوم صغيرة كقلب فتاة، وحرة تسكر وتعبد وتعربد في آن واحد، فقد كانت خارجة للتو من تربية أنجليزية، حيث توجد قهوة التومة ومشربها بالقرب من الجامع الكبير.. ولا يفصل بين القهوة، والتي تقدم الشاي والمريسة، والجامع سوى خط الترام، والذي يمضي قدما، ل"مدينة الحنين والسراب"، أم در، كما يسميها العبقري الصغير، معاوية نور، وأقول صغير، لأنه رحل مبكرا، وهل يكبر الناس بعد موتهم، لست أدري، قد يصغرون، فمن يعلم ما يدور في القبر، فالاستحالة عادة من عادة القبر، لأنه يتراءى لي مظلم، بحواسي المحدودة، ومع هذا فهو روض.. وكم وكم تأملت الموت وأنا أمر بالمقابر وبالاعراس في مشوار واحد، بل يظل الكرسي الخلفي دافي لرجل ذهبت به لكنيسة، حين يشير ركاب يود الذهاب لأحمد شرفي، أو صديلية سعد الدين، أو ابوحشيش، لحاجة حواء..
أتلصص على الشوارع، بصري كصقر، أرى من خلف الشوارع، يقودني حدسي، أجري لحي الموردة من الخرطوم، وأدخل زقاق مظلم، كأني على قدر مثل موسى، فأجد نسوة في الطريق، وبينهم فتاة تتلوى من ألم المخاض، وفي الرحلة للراهبات، استرق السمع لهن، فأعرف الاب والام والمشاكل والتطلعات، سائق التاكسي عالم اجتماع كبير، وسياسي بارز، على المقاعد الخلفية تناقش الامور الاسرية والسياسية والرياضية، والغزل، وعلى الكرسي الامامي الايمن جلست الداية والحرامي واستاذ الجامعة، مهنة تعني الحياة، بكل شكولها، وغرابتها، وسحرها..
كخلية نحل، أجوب الطرق والازقة، الخرطوم القديمة والحديثة، تبدلت الاسماء، والسحنات، وشاخت الخرطوم واتسعت، بل تورمت، حتى شملت القرى البعيدة وصات احياء منها، عيد حسين، الجريف، سوبا، كانت قرى بعيدة، (المشوار لها بآلاف الجنيهات)، بل تخاف، وتتحس ضراعك، وأنت تسعى لها، في جوف الظلمة، أو واضحة النهار، والتاكسي الاخضر، ابن بطوطة يجوب سان جميس، وشارع محمد نجيب، ويمر من تمثال كتشنر باشا، وغردون، وتبدلت الطرق، وتبدلت الاحوال والأقوال، مظاهرات رضى، ومظاهرات غضب، حكومات تلوح بالدين، وأخرى بالعقل، وثالثة بخليط ومزيج، والتاكسي هو هو، أصفر، يقف في المحطة الاوسطى، أو شارع المستشفى، أو محطة القطار، أو بار سان جميس، أو موقف الهلتون، أو العمارات تقاطع 41، منتظرا مصيره، وهو يصل الرحم، ويسعف المريض، ويقضي وطر الشره والمدمن، بلا تكلف، بل يغمض عينه، وكأنه لم يرى شئ كعين المسيح، حين رأى السارق، ونكر السرقة فقال (كذبت عيني وصدقتك)..
عملي مفتوح على الغيب، على باب الله، لا نعرف ما يخبئه القدر، أهو خواجة يدفع بالدولار، أم محتال يزوق، أو مريض يحتاج لدعم، وتوصيل معا، نومن بقدرنا، برضى عجيب، والخير فما اختار الله..
نرى العجب العجاب، فهذا الكرسي، الامامي، لا زال دافئا من صلب خواجه ذهب للكنسية، حتى ركبت عليه الحاجة بتول، خريطة الطريق في اليوم الواحد تشمل المتحف والكنسية والمطار والبار والسفارة والمدرسة والمحكمة والصيدلية، والبيت، والاستاد، بل أقول لكم اختصارا، تشمل كل اهتمامات وحاجات الانسان، السلبية والايجابية، المعلنة والمستترة.. فاليها من مهنة،
مهنتي عجيبة، تعلم الصبر، والمغامرة، فأنت تلفح وجهك برودة شارع النيل في مشوار، وغبار البطانة في مشوار أخر، وتخجك مطبات الفتيحاب وجنوب ام درمان في مشاور ثالث، واحيانا تعطى أكثر مما تستحق، وحينا تحرم مما تستحق..
ولكنها مهنة اشبه بالهواية، فأنت جواب افاق، ورحالة، قلبك كابن بطوطة ترى احوال الاحياء، ووجدانها، تمسع اذنك في اليوم الواحد الاغاني والنحيب والبكاء، تنقل طفل للمقابر، وعروس للكوفير، ومريض للمستشفى، ومسافر للمطار، تسمع بكاء والدته، وشهيق خطيبته، وفي المرآة ترى الأسى على والدته، وهي تجلس خلفك...مشاهد، مشاهد، ورؤى وعجايب..
احوال وحكاوي.. قد لا تصدقها، ولكنها جرت، فالواقع أغرب من الخيال..
قد تركب معك عجوز نسيت الوصف، وتظل تلف كحجر الرحى، وأنت المساهر والمرهق، وقد تفهم الوصف غلط، وحين تصل لزقاق ضيق، تحمل معها قفتها على رأسك حتى البيت، على بعد كيلو، يالها من مهنة، بل يالها من رسالة..
وهي تعني الأمانة، فقد ينسى احدهم جوازه، شطنته، رصيد عمره، حكاوي يجب ان تقص، وتحكى عبرة للناس، وموعظة حسنى، ومزجة للزهجان، ونكته للحزين..
حكاوي الهنتر الاصفر، وهو يجوب الخرطوم كراعي، يتفقد رعيته، لا يفرق بين المسيحي والمسلم، الاسود والاسمر والاصفر، فالكرسي الايمن مفتوح للجميع، للجميع...
تفضل أخي.. إلى وين؟
ماشي امبده..
وآخر، ماشي سوق الجمعة..
وثالث، ماشي المحكمة..
وهكذا...
------------
هذه مقدمة، بأسم وهمي، لحمدان ودفضل المولى، كي نوثق، ونرصد وتسجيل مهنة سائق التاكس، ولو مد الله في العمر، سألتقي في إجازتي بعدد من الاخوة لتدوين ذاكرة مهنة مهمة من خلالها يمكن استقراء تاريخ الخرطوم، جمعت مادة لا بأس منها، ولكن المشروع طويل، وكل من يهمه الامر، أرجو تزويد بما يراها على الإيميل:
ganikaram@hotmai.ocm
أكون شاكرا، ..
أعمق المحبة..