في الطريق إلى المدرسة
بقلم: عبدالغني كرم الله
(مجلة أوراق جديدة)
خرجت حزيناً، كعادتي، عصفورْ رُبِطَت أجنحته، ومنقاره، ونسي التحليق، نفَّست عن كبتي العظيم في علبة صلصة مطفقة، ركلتها برجلي، بين حجرين شبه متلاصقين، سجلت هدفْ بارعْ، أحسست بزهو ما، لا شيء بسيط في هذه الدنيا، القنبلة الذرية تخرج من رحم ذرة اليورانيوم الحقيرة، غرقت في هذه النشوة العظمى، كما تغرق صورة بيتنا مقلوبة على بركة صغيرة، وعكرة بفعل أرجلي!.
إنه قلبي الصغير، جنة بلا حدود، ولكن الزمن لا ينام ولا يجلس ولا يتعب، يمضي دوماً، يسافر للشباب والرجولة والكهولة، يبعد الجميع، رغم أنفهم، عن موطئ حيرتهم،... يجري، بلا أرجل، أو لون، مخفياً نفسه، كخاطئ ذكي، حتى الأُسُود القوية تموت؛ كالفراشات!.. بسكِّينه، اللامرئية، الحادة!.
مررت بحوش خالي الصديق، قفزت بالسور، الباب يبعد عني 6 أمتار، قد يؤخرني كثيراً، صوت ارتطامي أزعج نعجتهم، وثلاث معزات، كل الحيوانات تحب نفسها، وتدافع عنها بالأنياب والقرون والمخالب (الحياة حلوة حلوة حلوة، لدى العقرب والذباب والسلحفاة) نظرت لأثار وضوء خالي الصديق؛ خَلَقَ خريطة تشبه قارة أستراليا، كما تبدو لي في كتاب الجغرافيا، حتى الخليج الذي تقع عليه مدينة «سيدني» رَسَمَهُ الوضوء بدقة واتقان، وهناك نملات سعيدات يشربن من قارة أستراليا، كم كريمة صلاة خالي؛ تمتد بَرَكَاتُها لأفاقٍ يجهلها خالي!.
انحرفت عن طريقي، كي أدوس علبة سجائر برنجي، ثم مضيت، ورجعت مرة أخرى لعلبة البرنجي، أخرجت القصديرة منها، كل الاشياء ثمينة، أدخلتها في شنطتي المصنوعة من الدمورية، والمزخرفة بنقط من الحبر (فرحة البعد عن استعمال قلم الرصاص والاستيكة)، وعفصت علبة البرنجي بيدي، وكوَّرْتُها، ثم ركلتها برجلي فوق حيطة الزريبة القصير، سمعت صوت دجاجات مرعوبة من دوي قنبلة علبة البرنجي. التراب حَنُون، ليس كالزلط؛ يترك الآثار كما هي، آثار لستك البص، مخالب دجاجات خالي ، مركوب خالي، كلها منحوتة على وجهه كما هي، حتى الحركة الدائبة للدكان، تركَتْ مجرىً، كخور صغير. التراب أقرب للرخاوة؛ للروح، لقلب أمي، ويديها، وعرقها!.
مررت بشجرةٍ كُبْرَى، جدي سعد غير قادر على رؤيتها، وبالأمس كان قادراً على تسلقها كالقرد. والآن حتى صوت العصافير الصباحي لا يصل لأذنيه وهو نائم تحتها؛ لا يسمع جدي حالياً، سوى صدى الأيام السالفة، دوما يحكي عنها؛ حين كان يسمع، ويرى، ويتسلق الشجرة، ويرنو بعيداً، في جنة الغروب!.
تذكرتُ صوت علبة الصلصة، فرَّت عدة صراصير، وطار عصفور من الشجرة، فسقطت عدة أوراق من الشجرة، سقطت بصورة حلزونية، وورقة سقطت وكأنها تُقَلِّد يد أمي وهي تعوس الكسرة، كل الأوراق سقطت بصورة تختلف عن الأخرى، رغم أن الهواء هو الهواء، والأوراق هي الأوراق، وورقة بَدَت وكأنها قارب، وهي تسبح في بحر الهواء، وكأنها نسيت السقوط، ثم تهوي مرة أخرى، وهي تترنح يميناً، وشمالاً. ياترى كيف سمعت الصراصير صوت العلبة؟، كالرعد، وكذا الحمير؟، وضعت يداي حول أذني كي أقلد أذن الحمير، وكيف تسمع الصوت، سمعت وشوشة غريبة، إنها صوت النسيم، حتى النسيم له صوت في أذن الحمير، وجرى خيالي للملائكة والتي تجلس على كتفي، كيف كان صوت الصلصة بأذنها؟، وأي تعبير ارتسم على وجهها الجميل؟!.
نظرتُ لكتفي الأيمن، حيث تجلس الملائكة، ورأيت عظام التركوة، وبدأت أهز كتفي، سمعت ضحكات خالي الصديق، وهو يجهز حماره للذهاب للنهر، (بترقص يا الملعون بكتفك)، توقف كتفي برهة، ثم عاد لحركته وعيني تحاول تصوُّر حال الملاك الجالس عليه، وكيف يكتب في هذا الوضع المهتز (حسناتي وسيئاتي)!.
تخيَّلْتُ شكله، حين كنت أتدحرج بالبرميل، وأكاد أسقط على وجهي، أو ظهري، ضحكتُ من أعماق قلبي، كم للخواطر من حكايات، وشغب، تحكيها النفس للنفس، وفي العراء،!!.. وبصمت لا يسمعه سواك.
سوف أهزُّ كتفي كي لا تكتب الملائكة خواطري عن الناظر، وابنته (متناقضة جداً؛ خاطري عن الناظر، وخاطري عن ابنته)، العشق يبدأ مبكراً جداً، فرويد لا يتصوَّره، إنه قبل الميلاد، وليس في الطفولة. ما يقوله جدي أفلاطون حق؛ «عالم الـمُثُل»، نومض فرحاً، وأعرف أنها هي، بمجرد نظرة أولى، إنها هي، التي قابلتها هناك، قبل مملكة الليل والنهار، والجاذبية الارضية، وألم الجوع.. وفراق أمي، وأخواتي!.
(ما أروع الخواطر!. لا يسمعها أحد سواك، كيف خُلِقَت؟ صوتٌ مِنْ لا صوت، وصورة واضحة في ظلمة الذهن!).
خرجت من الباب الآخر لحوش خالي، والمواجِهْ لفسحة كبيرة؛ ميدان الكورة، يخلو من اللعيبة، والكرة. ليت الإله اكتفى بخلق اللعب واللهو فقط، وترك الباقي. دخلت بين العارضتين، وأنا أحدق في الحفرة التي خلقتها أرجل حارس المرمى، ( مدثر مسكين يلعب بيديه، ويقع على الأرض، بلا نجيلة، ولا جوينتي يحفظ يديه)، ومع هذا لم أره ويده مسوَّرة بالجبس، «الله يحفظه»، هكذا تقول له أمه، الحِجَاب يتراقص على صدره، وهو وحيد أمه، كثير الحلوى والنبق، لا يخلو جيبه منها أبداً، وقد اختارت له والدته هذه الوظيفة، «حارس مرمى» كي يكون قريباً من البيت؛ فالقوائم لصق دارهم، وتخاف عليه أيضاً من ضربات الجزاء، (أصلها قون قون، خليها تخش)، وهي المرأة الوحيدة التي تراقب المباراة، وتدخل الميدان أكثر من رجل الراية، كي ترى ابنها، وتزجر أي محاولة خشنة معه، وخاصة من العملاق (هارون)؛ فتى الطابونة!. وصلت لنصف الملعب، دائرة محفورة، وفي قلبها حفرة، يوضع عليها الكَفَر، نظرت للجناح اليمين؛ وظيفتي المحببة، (اليوم السبت، طافت هالةٌ من حزن حولي، تذكَّرت الطابور، وجولة الناظر الصباحية، نظرت لأظافري، (كيف يطول الشعر والأظافر، كل يوم أرى أظافري وقد طالت، وللحق لم أسمع صوت الظفر وهو يخرج من اصبعي، ولم أحس بألم، غريبة!، مجرد شوكة صغيرة تؤذيني، وظفر كبير يخرج بهدوء وصمت، يسير ببط، كالظل ، حقاً، التغيير البطيء لا يؤذي) تجاوزتُ خط 18، في طريقي للمدرسة، وليس لهدف يتهلَّل له جمهور غفير من البسطاء والخيلان والأعمام، وحين وصلت للمرمى، قفزت، ومعي شنطتي، وقصديرة علبة البرنجي، كي ألامس العارضة، ولم أوفق، أحسست بهوان (مدثر أقصر مني)، لا نفع لي في حراسة المرمى، الجناح اليمين يكفي.
نظرت خلفي، كم تبدو القوائم والعارضة كبيرة، سوف أرسل الكرة عالية، ومن بعيد، هذه العصرية، (حين نلتقي مع حي العرب)، عرجت يمينا، فقد واجهني منزل حاج علي السالم، لا أدري كيف تختار هذه القرية خريطتها، فهي تحب التعرج والانحناء، وكأنها تقلد جنون الموج، بل تقلد رسومات السحب، والتي تبدو منبعجة، وأسيرة لتهور الرياح.
مررت بزقاق ضيق، مليء بالطوب والأكياس والبعر والفحم، سرت بحذر، فخلف هذا الجدار المبني من الطوب ينام (فوجي)؛ كلب مسعور. مررت بالحفير، تسلقت هضبتها جارياً، لا أدري لم؟، صدري يعلو ويهبط، رأيت يميني، شيء يلمع، وحين حفرت برجلي اليمنى وأنا واقف، وجدتها قعر كباية شاي مكسورة، تحطم حلمي بامتلاك حلق ذهب وشراء ميكي ماوس ومصباح علاء الدين السحري، وبلح، وحلوى ونبق!. مررت بالبَيَّارة، آه، لو لا جرس الطابور لتسلقت السلم للأعلى، إلى الصهريج المنقط كحمار الوحش، في غياب آدم؛ صاحب البَيَّارة، ومن هناك رأيت النيل شرق القرية، ورأيت بيت (آمنة ...)، وأذَّنت الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، في وقت لا علاقة له بالصلاة، ولكن لم أسمع صوتْ يأتي من هذا الارتفاع سوى الأذَان، والرعد يأتي من مكان أبعد من ذلك. مجموعة أكياس معلقة على السلك الشائك لسور البَيَّارة، خضراء وزرقاء وبيضاء، ومنتفخة بهواء الصباح، وتصنع صوتْ لا يقلد، عشرة مرات حاولت تقليده، حتى امتلأت شفتاي باللعاب من انتفاخ جضومي بالهواء ومحاولة اخراجه كصوت الأكياس!.
مررت ببابور البيارة، (محمد سعد، محمد سعد، محمد سعد)، هكذا كان يقول صوت البَيَّارة،(تعال تعالْ تعالْ، نمشي الشمالْ، بَدِّيكْ ريالْ)، وكان يردد معي هذا الكلام أيضاً، واجهني نهر من تسلل مياة البَيَّارة، وجدت جسرْ من طوبات أربع، وببطء وحنكة كنت أضع أرجلي عليها، كيف يرقص الناس على الحبل؟، كدت أقع وأصبح موضع تنكيت من (الشلة الموقرة) جماع وهاشم والطيب وعادل!.
وجدت كلبة نائمة على بعد 100 متر، قذفتها بحجر، قامت مَخْلُوعَة وهي تجري، وتنظر خلفها، إليّ. واصلت ركلي لمجموعة من الأحجار وعلب الصلصة، مسجلاً رقما قياسياً في الأهداف، أكثر من إيتو، ورونالدينو معاً؛ فالفرح هو الفرح، سواء كان في قلب رونالدينو، أو قلب طفل يسعى لمدرسته، والهدف هو الهدف.
تذكرت اليوم مباراتنا مع (حي العرب)، امتعضت لبطء الزمن (متين تجي الحصة السابعة)، كي يدق جرس الخلاص، لمن تقرع الأجراس، للحرية والانطلاق نحو البيوت. دخلت حوش مصطفى، شربت من زيرهم، ورشيت باقي الكوز على غنماية نائمة، نظرت لي بحزن، خرجت من بابهم الخلفي، وقبله تمرجحت براكوبتهم، ومعي شنطتني، وقصديرة علبة البرنجي.
دخلت المسيد، سور ضخم، له باب جنوبي وآخر شمالي، وثالث شرقي ورابع غربي، جريت بشدة فوق السور، شنطتي في الخلف تضربني، وكأنها تحثني على لحاق الطابور، كدت أسقط خمس مرات، وفي السادسة، انزلقت بي طوبة، مسحت الجرح بلعابي، ومسحت الخط الذي خلقته الطوبة على مدى رجلي اليسار، عدة خلاوي على شمالي، ينام فيها الدروايش، غرف بلا نور أو فراش او طربيزة، مجرد رملة حمراء ناعمة... وباردة. (وِلْدُوكَ عَارِي وحَافِي وبَاكِي)، لا يردد حمدان الدرويش سوى هذه الكلمة! لكل من يقابلهم، ولنفسه أكثر!.
مررت بناس سعاد؛ بت خالي، لاتزال تولع في الكانون (الحَلَبِي.. تعال اشرب شاي)، تأخيري اليومي حرمني من شراب شاي سعاد، ومن الصعود بالسلم لرأس البَيَّارة، لم أشكر سعاد، ولم أتكلم معها، (لا أرضى كلمة حَلَبِي)، مضيت في طريقي، وهذا هو تصرفي ا ليومي معها، أنظر لها بطرف عيني ثم أمضي في طريقي، إلى حتفي، فقد لاحت من البعد سقوف الزنزانات، سقوف الفصول البغيضة.
ثم واجهتني الفسحة الأخيرة، فسحة لا تملك أي شكل، تشبه البيضة، كقطعة كسرة. راقبتُ السحب وهي ترسم فيلاً أبيض برجل أمامية واحدة، ثم تحول الفيل من تلقاء نفسه إلى ثعبان طويل، يا له من حاوي، وها هو يتقطع إلى كرات قدم بيضاء. تعثرتُ في إطار سيارة مدفون في ركن دكان سعيد، (أنعل ابوك)، ثم ركلت الإطار ركلتين، ومضيت وصدري يعلو ويهبط، ونَفَسي متقطع، وأنا أنظر خلفي للإطار المدفون، كما نظر الكلب إليّ!.
(دكان يخلو من كل شيء، فلا بلح أو حلوى في رفوفه المغبرة)!.
التقيت بسعد، وجماع، وعلي، والحاج، والطيب، ومدثر، وحسن، ونحن في طريقنا للمدرسة، (والله الله الليلة نديكم عشرة صفر)، (والله لو لعبنا بدون حارس مرمى ما تغلبونا). وصلنا لباب المدرسة، صراخ وهرج كبير، لم ينقطع بغتة إلا مع رنة الجرس الأولى، فسكن الهم عشرات القلوب، الموعودة بحصص طويلة، وبتسميع قصائد، وجداول ضرب، وحل مسائل، وكتابة كل ما يكتب في السبورة، السوداء...
ثم رن جرس الحصة الأخيرة!. قد يكون الصمت بحجم القرية، أو المدرسة، ومجرد صياح ديك، أو رنة جرس تبدده كله، لا حول ولا قوة للصمت، رن الجرس، منتصرا على السجن اليومي. والآن الوقت، بيدي لا بيدي عمرو. هنا الوقت لي، كقطعة طين، أخلق منها نعجة، أو لوري، أو نعامة، إن شئت، «لمن تقرع الأجراس»، كي تطلق المساجين من الفصول إلى جنون خيالهم ورغباتهم، (وقت العمل يمتلكك، ووقت الفراغ تمتلكه)... وقت الفراغ تمتلكه، يالها من ثروة!.
وقت الفراغ الآن بجيبي، كحلوى كبيرة، أغلى ثروة بيدي، لو لا هذه الثروة غير المرئية، لما كتب الشعراء، ورسم الناس، وتجلوا على ضفاف النيل. الفراغ هو اللوحة البيضاء أمامك، التي ترسم فيها ما تريد، حتى الاستحالة يمكنك أن ترسمها بريشتك، لو لا الفراغ لما كان غار حراء، و15 عاماً، من التأمل، والتحنث، والدهشة، والجمال!. خرجنا من المدرسة، وأيدينا وقلوبنا وجيوبنا مليئة بالفراغ.
ما أحلى الفراغ. كي أحلق، وأطير، وأجري، وأعكر البركة الصغيرة أمام البَيَّارة بأرجلي!، كي أكون نفسي!!.
ما أروع الفراغ!. أخرجت قصديرة علبة البرنجي، وبدت أناملي في صياغة أشكال عديدة، حلق، ثم ساعة، وقميص، وبنطلون، أشكال لا تنتهي أبداً، كروعة الشعر!.
http://awragjadida.khartoummag.com/view.asp?release=31&action=article&id=449
ملحوظة:
هذا خط سير للمدرسة وفق تضاريس قريتي الحبيبة الحسناب...
عدل سابقا من قبل عبدالغني كرم الله في الأحد يونيو 01, 2008 12:41 pm عدل 1 مرات