اناشيد الحب والغزل وموقف الإسلام منها
نجدت طه
إن الذي دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع خلو حياة المسلم المتديّن
المعاصر من شعر الحب والغزل، وهو ينفر منه باعتباره عيباً أو رذيلة أو
حراماً أو شيئاً لا يليق بحياة التديَن. وهو ينفر نفوراً أشد من عاطفة
الحب التي تعلق بالنفوس حين يعجب بامرأة، ويعتبر هذه العاطفة حراماً قطعاً.
وأدى نفور المتدين من شعر الحب والغزل إلى ابتعاد الشعراء المتدينين عنه،
وبالتالي ابتعد المنشدون عن هذا النوع من الشعر. وخلت الصحف والمجلات
الإسلامية من قصائد الحب الغزل إلى درجة أن مجلة (الأدب الإسلامي) ترفض
نشر قصيدة غزلية على صفحاتها, والمتتبع لها يجد صحة ذلك.
فما موقف الإسلام من شعر الحب والغزل ؟ وهل خلت حياة الرسول صلى الله عليه
وسلم وصحابته منه ؟ وهل ابتعد شعراء الصحابة وعلى رأسهم حسان بن ثابت عن
الكتابة فيه ؟ وقبل الإجابة على هذه الأسئلة أتحدث عن الحب وموقف الإسلام
منه كمدخل إلى موضوعنا.
يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (من الفكر والقلب) ـ فصل
الدين والحب ـ: (الحب هو من جملة الانفعالات القسرية التي لا سلطان عليها)
. أي أن الحب يدخل إلى قلب الإنسان دون إرادة صاحبه ، فلا يملك أن يمنعه
من الدخول إلى قلبه, أو أن يجلبه إليه متى شاء. ومن هنا جاء دعاء الرسول
صلى الله عليه وسلم : (اللهم لا تؤاخذني فيما لا أملك)، وكان يعني ميل
قلبه صلى الله عليه وسلم إلى عائشة رضي الله عنها أكثر من بقية نسائه.
بمعنى أنه حين يعلق قلب الإنسان بامرأة لا يأتي الإسلام ويقول له : يجب
عليك أن تُخرج هذا الحب من قلبك. وإنما يضع الإسلام أمامه المنهي عنه في
قضايا التعامل مع المرأة مثل النهي عن النظر والمصافحة والخلوة وما هو
أكثر من ذلك.. وفي المقابل يفسح المجال له في الزواج ممن أحب .
وبما أن الزواج هو الثمرة الطبيعية للحب فإن المسلم الذي يقع في حب امرأة
يسعى للزواج منها، وإذا كان لا يستطيع ذلك لسبب من الأسباب فعليه بالصبر.
أما ما يفعله المتفلتون من تعاليم الإسلام من إقامة علاقات غرامية ولقاءات
وخلوات واللعب على بنات الناس بدعوى الحب فهذا مما حرّمه الشرع.
فالحب لا يدخل في دائرتي الحلال والحرام، فلا نستطيع أن نقول أن الحب حلال
أو أن الحب حرام. ولكن إن وقع المسلم في الحب فعليه الالتزام بتعاليم
الإسلام الخاصة بتعامل الرجل مع المرأة .
والحب عاطفة من العواطف الإنسانية الموجودة في الإنسان كالحزن والفرح
والغضب وغيرها.. وعلى المسلم أن يهذّب هذه العاطفة ويوجّهها الوجهة
الصحيحة التي تتفق مع الشرع.
والمسلمون في العصور السابقة لم ينظروا إلى عاطفة الحب كما ينظر إليها
المسلم المتديّن اليوم، فعلى سبيل المثال ألّف ابن حزم ـ وهو من الأئمة
المجتهدين ـ كتاباً عن الحب وسماه (طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاف)،
وألّف ابن القيم الجوزية كتاباً آخر عن الحب واسمه (روضة المحبين ونزهة
المشتاقين) وهذان الكتابان يتناولان الحب ودواعيه والشوق والوصال والهجران
وكل مفردات الحب ومعانيه.
وفي العصر الحديث كتب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ـ وهو فقيه ومفكر
إسلامي مشهور ـ قصة اسمها (ممّو زين) وهي عبارة عن قصة حب، المحب اسمه
(ممّو) والحبيبة اسمها (زين) وتُعدّ هذه القصة من روائع الأدب الإسلامي
المعاصر .
ومما يُروى في زمن التابعين أن العابد عبد الرحمن بن عبد الله المكي ـ وهو
من رجال الإمام مسلم ـ الذي اشتهر بلقب (القس) لشدة عبادته، أنه أحب
الجارية المغنية (سلامة). لكن هذا الحب لم يُوقعه في المحرمات، بل حدث
العكس من ذلك فقد قدّم أُنموذجاً رائعاً للمؤمن الذي يقع في الحب دون أن
يقع في المحرمات. وهو لم يستطع الزواج منها، وإنما صبر واحتسب وأرجأ
وصالها إلى يوم القيامة، مستدلاً بقول الله تعالى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) الزخرف آية 67. وقد قال أحد الشعراء على لسانه :
قالوا أحب القسُّ سلاّمة وهو التقي الناسك الطاهرُ
كأنما لم يدر قلبي الهوى إلا الغوي الفاتك الفاجرُ
يا قومُ إني بشر مثلكم وفاطري ربكم الفاطرُ
لي كبد تهفوا كأكبادكم ولي فؤاد مثلكم شاعرُ
وتبعاً لما ذكرته عن الحب فإن شعر الحب والغزل لا شيء فيه إن وُجّه الوجهة
الصحيحة التي تتفق مع مفاهيم الشرع. وقد وضع العلماء شرطين لشعر الحب
والغزل :
الأول ـ أن لا يكون غزلاً فاحشاً .
الثاني ـ أن لا يكون في امرأة معينة ، حفظاً لأعراض الناس .
ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن شعر الغزل، وسيرته تحكي
عنه أن كان يسمع شعر الغزل كأي غرض من أغراض الشعر. بل لقد ثبت ـ في
أحاديث متواترة ـ أن كعب بن زهير أنشد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم
قصيدته المشهورة (بانت سعاد) وقد افتتحها بمقدمة غزلية يقول فيها:
بانت سـعاد فقلبي اليوم متبولُ متيّمٌ إثرها لـم يُفدَ مكبولُ وما سـعاد
غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحولُ
تجلوا عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت كأنـه منهلٌ بالـراح معلولُ
هيفـاء مقبلـةً عجزاء مدبرةً لا يُشتكى منها قصر ولا طولُ
فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن أعجب بالقصيدة ـ إلا أن
أعطاه جبته كمكافأة له. و(سعاد) هنا ليس اسماً لامرأة معينة وإنما هو اسم
مشاع عند الشعراء يستخدمونه كناية عن الحبيبة بحيث يكون الشاعر في حال فرح
وسعادة ووصال، ويستخدمون اسم (فاطمة) عن هجران الحبيبة كما في قول امرىء
القيس في معلقته:
أفاطم مهلاً بعض هـذا التدلل وإن كنتِ أزمعت صرمي فأجملي
ومن المشهور أيضاً أن بعض قصائد حسان بن ثابت رضي الله عنه التي قالها في
زمن الإسلام كان يبدأها بمقدمة غزلية، وكان ينشد هذه القصائد أمام الرسول
صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قصيدته التي مطلعها:
تبلت فؤادك فـي المنام خريدة تسـقي الضجيع ببارد بسّـامِ
وورد أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم كان يحث على الغزل في الأعراس، فقد روى
الطبراني وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أنها زوّجت يتيمة من الأنصار،
وكانت عائشة فيمن أهداها إلى زوجها، قالت: فلما رجعنا قال لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ما قلتم يا عائشة ؟ فقالت سلّمنا ودعونا بالبركة ثم
انصرفنا. فقال لنا عليه الصلاة والسلام: إن الأنصار قوم فيهم غزل، ألا
قلتم يا عائشة:
أتيناكـم أتيناكـم فحيونا نحييكـم
ولولا الحبة السمراء ما حللنا بواديكم
ولولا الذهب الأحمر ما سمنت عذاريكم
ومعنى البيت الثاني : ولولا عروستكم الجميلة ما جئنا إليكم وخطبنا منكم .
وأنا أعجب من حال المسلم اليوم الذي يرفض سماع شعر الحب والغزل، فإذا كان
الأنصار رضوان الله عليهم فيهم الغزل، فما المانع أن يكون فينا الغزل أو
أن نسمع شعر الغزل؟
ويزداد الطين بلةً أن الواحد منا يحضر عرساً لأحد المتديّنين فلا يسمع في
هذا العرس أنشودة غزلية ! وإنما يسمع أناشيد جهادية وروحية وأناشيد وعظ
وإرشاد. وأنا لا أدري كيف سيدخل العريس على عروسه بعدما سمع كماً هائلاً
من هذا النوع من الأناشيد؟ هل سيدخل عليها مجاهداً أم باكياً أم حزيناً ؟
وقد حضرت مرةً عرساً من هذا النوع، وبعد انتهاء العرس قلت لفرقة الإنشاد:
شكراً على هذا المولد الذي حضرناه . فتعجبوا مني مستنكرين، فقلت لهم: لأني
لم أسمع إلا أناشيد روحية ووعظية وجهادية، وهذه الأناشيد تُنشد في الموالد
والمناسبات الدينية كذكرى المولد النبوي الشريف وذكرى الهجرة وعندما تدق
طبول الحرب.
والمشكلة التي هي أدهى من هذا أن بعض المتديّنين يرفض شعر الغزل حتى وإن
ثبت له أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسمعه ويبيحه، فهو يشعر بصعوبة
الاقتناع بذلك بعد أن عاش ردحاً من الزمن رافضاً له. فلماذا لا نكون
وقّافين عند حدود الله ؟
والبعض الآخر يحتج بأن المسلمين اليوم في حالة صراع مع اليهود، لذا فلا
مكان إلا للشعر الجهادي والوعظي الذي يوقظ الأمة من غفلتها. فأقول إن
المسلمين منذ العهد النبوي إلى يومنا الحاضر وهم في حالة صراع مع الكفر،
وسيبقى هذا الصراع إلى يوم القيامة، فإذا كانت الدولة العباسية وهي في قمة
ازدهارها واستقرارها كان خليفتها هارون الرشيد يحج عاماً ويغزو عاماً.
وهل يُعقل أن ينشغل مليار مسلم بقضية فلسطين بحيث لا يُسمح للواحد منهم أن
يسمع شعراً غزلياً أو أن يترنم بأنشودة عاطفية؟ ألم تكن حياة الرسول صلى
الله عليه وسلم وحياة الصحابة كلها غزوات وفتوحات؟ ومع ذلك كانوا يسمعون
الشعر الغزلي وغير الغزلي، ويترنمون بأناشيد عاطفية وغير العاطفية. وفي
غير ذلك تجدهم رهبان الليل وفرسان النهار، فحياتهم متكاملة لا تجد فيها
نقصاً ولا عوجاً ولا غلواً ، ويُروحون عن أنفسهم ويعطون كل ذي حق حقه دون
إفراط ولا تفريط في كل مناحي الحياة .
أليست هذه المفاهيم هي مفاهيم الإسلام ؟ فما المانع من أن نكون كذلك؟ وما
المانع من أن يكتب شعراؤنا المتديّنون شعراً غزلياً بجانب الشعر الجهادي
والوعظي؟ ثم يترنم بشعرهم الغزلي المنشدون كما يترنمون بشعرهم الجهادي
والوعظي.
وإن حذف شعر الحب والغزل والأناشيد الغزلية من حياة المتديّن في هذا العصر
جعل غير المتديّنين ينظرون إلى عالَم التديّن على أنه عالَم قاسٍ ليس فيه
مجال للعاطفة أن تترنم ولا للأذن أن تطرب. فحدث عند هؤلاء نفور من
التديّن، مما أضعف العمل الدعوي الذي يقوم به الدعاة .
نجدت طه
إن الذي دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع خلو حياة المسلم المتديّن
المعاصر من شعر الحب والغزل، وهو ينفر منه باعتباره عيباً أو رذيلة أو
حراماً أو شيئاً لا يليق بحياة التديَن. وهو ينفر نفوراً أشد من عاطفة
الحب التي تعلق بالنفوس حين يعجب بامرأة، ويعتبر هذه العاطفة حراماً قطعاً.
وأدى نفور المتدين من شعر الحب والغزل إلى ابتعاد الشعراء المتدينين عنه،
وبالتالي ابتعد المنشدون عن هذا النوع من الشعر. وخلت الصحف والمجلات
الإسلامية من قصائد الحب الغزل إلى درجة أن مجلة (الأدب الإسلامي) ترفض
نشر قصيدة غزلية على صفحاتها, والمتتبع لها يجد صحة ذلك.
فما موقف الإسلام من شعر الحب والغزل ؟ وهل خلت حياة الرسول صلى الله عليه
وسلم وصحابته منه ؟ وهل ابتعد شعراء الصحابة وعلى رأسهم حسان بن ثابت عن
الكتابة فيه ؟ وقبل الإجابة على هذه الأسئلة أتحدث عن الحب وموقف الإسلام
منه كمدخل إلى موضوعنا.
يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (من الفكر والقلب) ـ فصل
الدين والحب ـ: (الحب هو من جملة الانفعالات القسرية التي لا سلطان عليها)
. أي أن الحب يدخل إلى قلب الإنسان دون إرادة صاحبه ، فلا يملك أن يمنعه
من الدخول إلى قلبه, أو أن يجلبه إليه متى شاء. ومن هنا جاء دعاء الرسول
صلى الله عليه وسلم : (اللهم لا تؤاخذني فيما لا أملك)، وكان يعني ميل
قلبه صلى الله عليه وسلم إلى عائشة رضي الله عنها أكثر من بقية نسائه.
بمعنى أنه حين يعلق قلب الإنسان بامرأة لا يأتي الإسلام ويقول له : يجب
عليك أن تُخرج هذا الحب من قلبك. وإنما يضع الإسلام أمامه المنهي عنه في
قضايا التعامل مع المرأة مثل النهي عن النظر والمصافحة والخلوة وما هو
أكثر من ذلك.. وفي المقابل يفسح المجال له في الزواج ممن أحب .
وبما أن الزواج هو الثمرة الطبيعية للحب فإن المسلم الذي يقع في حب امرأة
يسعى للزواج منها، وإذا كان لا يستطيع ذلك لسبب من الأسباب فعليه بالصبر.
أما ما يفعله المتفلتون من تعاليم الإسلام من إقامة علاقات غرامية ولقاءات
وخلوات واللعب على بنات الناس بدعوى الحب فهذا مما حرّمه الشرع.
فالحب لا يدخل في دائرتي الحلال والحرام، فلا نستطيع أن نقول أن الحب حلال
أو أن الحب حرام. ولكن إن وقع المسلم في الحب فعليه الالتزام بتعاليم
الإسلام الخاصة بتعامل الرجل مع المرأة .
والحب عاطفة من العواطف الإنسانية الموجودة في الإنسان كالحزن والفرح
والغضب وغيرها.. وعلى المسلم أن يهذّب هذه العاطفة ويوجّهها الوجهة
الصحيحة التي تتفق مع الشرع.
والمسلمون في العصور السابقة لم ينظروا إلى عاطفة الحب كما ينظر إليها
المسلم المتديّن اليوم، فعلى سبيل المثال ألّف ابن حزم ـ وهو من الأئمة
المجتهدين ـ كتاباً عن الحب وسماه (طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاف)،
وألّف ابن القيم الجوزية كتاباً آخر عن الحب واسمه (روضة المحبين ونزهة
المشتاقين) وهذان الكتابان يتناولان الحب ودواعيه والشوق والوصال والهجران
وكل مفردات الحب ومعانيه.
وفي العصر الحديث كتب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ـ وهو فقيه ومفكر
إسلامي مشهور ـ قصة اسمها (ممّو زين) وهي عبارة عن قصة حب، المحب اسمه
(ممّو) والحبيبة اسمها (زين) وتُعدّ هذه القصة من روائع الأدب الإسلامي
المعاصر .
ومما يُروى في زمن التابعين أن العابد عبد الرحمن بن عبد الله المكي ـ وهو
من رجال الإمام مسلم ـ الذي اشتهر بلقب (القس) لشدة عبادته، أنه أحب
الجارية المغنية (سلامة). لكن هذا الحب لم يُوقعه في المحرمات، بل حدث
العكس من ذلك فقد قدّم أُنموذجاً رائعاً للمؤمن الذي يقع في الحب دون أن
يقع في المحرمات. وهو لم يستطع الزواج منها، وإنما صبر واحتسب وأرجأ
وصالها إلى يوم القيامة، مستدلاً بقول الله تعالى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) الزخرف آية 67. وقد قال أحد الشعراء على لسانه :
قالوا أحب القسُّ سلاّمة وهو التقي الناسك الطاهرُ
كأنما لم يدر قلبي الهوى إلا الغوي الفاتك الفاجرُ
يا قومُ إني بشر مثلكم وفاطري ربكم الفاطرُ
لي كبد تهفوا كأكبادكم ولي فؤاد مثلكم شاعرُ
وتبعاً لما ذكرته عن الحب فإن شعر الحب والغزل لا شيء فيه إن وُجّه الوجهة
الصحيحة التي تتفق مع مفاهيم الشرع. وقد وضع العلماء شرطين لشعر الحب
والغزل :
الأول ـ أن لا يكون غزلاً فاحشاً .
الثاني ـ أن لا يكون في امرأة معينة ، حفظاً لأعراض الناس .
ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن شعر الغزل، وسيرته تحكي
عنه أن كان يسمع شعر الغزل كأي غرض من أغراض الشعر. بل لقد ثبت ـ في
أحاديث متواترة ـ أن كعب بن زهير أنشد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم
قصيدته المشهورة (بانت سعاد) وقد افتتحها بمقدمة غزلية يقول فيها:
بانت سـعاد فقلبي اليوم متبولُ متيّمٌ إثرها لـم يُفدَ مكبولُ وما سـعاد
غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحولُ
تجلوا عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت كأنـه منهلٌ بالـراح معلولُ
هيفـاء مقبلـةً عجزاء مدبرةً لا يُشتكى منها قصر ولا طولُ
فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن أعجب بالقصيدة ـ إلا أن
أعطاه جبته كمكافأة له. و(سعاد) هنا ليس اسماً لامرأة معينة وإنما هو اسم
مشاع عند الشعراء يستخدمونه كناية عن الحبيبة بحيث يكون الشاعر في حال فرح
وسعادة ووصال، ويستخدمون اسم (فاطمة) عن هجران الحبيبة كما في قول امرىء
القيس في معلقته:
أفاطم مهلاً بعض هـذا التدلل وإن كنتِ أزمعت صرمي فأجملي
ومن المشهور أيضاً أن بعض قصائد حسان بن ثابت رضي الله عنه التي قالها في
زمن الإسلام كان يبدأها بمقدمة غزلية، وكان ينشد هذه القصائد أمام الرسول
صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قصيدته التي مطلعها:
تبلت فؤادك فـي المنام خريدة تسـقي الضجيع ببارد بسّـامِ
وورد أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم كان يحث على الغزل في الأعراس، فقد روى
الطبراني وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أنها زوّجت يتيمة من الأنصار،
وكانت عائشة فيمن أهداها إلى زوجها، قالت: فلما رجعنا قال لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ما قلتم يا عائشة ؟ فقالت سلّمنا ودعونا بالبركة ثم
انصرفنا. فقال لنا عليه الصلاة والسلام: إن الأنصار قوم فيهم غزل، ألا
قلتم يا عائشة:
أتيناكـم أتيناكـم فحيونا نحييكـم
ولولا الحبة السمراء ما حللنا بواديكم
ولولا الذهب الأحمر ما سمنت عذاريكم
ومعنى البيت الثاني : ولولا عروستكم الجميلة ما جئنا إليكم وخطبنا منكم .
وأنا أعجب من حال المسلم اليوم الذي يرفض سماع شعر الحب والغزل، فإذا كان
الأنصار رضوان الله عليهم فيهم الغزل، فما المانع أن يكون فينا الغزل أو
أن نسمع شعر الغزل؟
ويزداد الطين بلةً أن الواحد منا يحضر عرساً لأحد المتديّنين فلا يسمع في
هذا العرس أنشودة غزلية ! وإنما يسمع أناشيد جهادية وروحية وأناشيد وعظ
وإرشاد. وأنا لا أدري كيف سيدخل العريس على عروسه بعدما سمع كماً هائلاً
من هذا النوع من الأناشيد؟ هل سيدخل عليها مجاهداً أم باكياً أم حزيناً ؟
وقد حضرت مرةً عرساً من هذا النوع، وبعد انتهاء العرس قلت لفرقة الإنشاد:
شكراً على هذا المولد الذي حضرناه . فتعجبوا مني مستنكرين، فقلت لهم: لأني
لم أسمع إلا أناشيد روحية ووعظية وجهادية، وهذه الأناشيد تُنشد في الموالد
والمناسبات الدينية كذكرى المولد النبوي الشريف وذكرى الهجرة وعندما تدق
طبول الحرب.
والمشكلة التي هي أدهى من هذا أن بعض المتديّنين يرفض شعر الغزل حتى وإن
ثبت له أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسمعه ويبيحه، فهو يشعر بصعوبة
الاقتناع بذلك بعد أن عاش ردحاً من الزمن رافضاً له. فلماذا لا نكون
وقّافين عند حدود الله ؟
والبعض الآخر يحتج بأن المسلمين اليوم في حالة صراع مع اليهود، لذا فلا
مكان إلا للشعر الجهادي والوعظي الذي يوقظ الأمة من غفلتها. فأقول إن
المسلمين منذ العهد النبوي إلى يومنا الحاضر وهم في حالة صراع مع الكفر،
وسيبقى هذا الصراع إلى يوم القيامة، فإذا كانت الدولة العباسية وهي في قمة
ازدهارها واستقرارها كان خليفتها هارون الرشيد يحج عاماً ويغزو عاماً.
وهل يُعقل أن ينشغل مليار مسلم بقضية فلسطين بحيث لا يُسمح للواحد منهم أن
يسمع شعراً غزلياً أو أن يترنم بأنشودة عاطفية؟ ألم تكن حياة الرسول صلى
الله عليه وسلم وحياة الصحابة كلها غزوات وفتوحات؟ ومع ذلك كانوا يسمعون
الشعر الغزلي وغير الغزلي، ويترنمون بأناشيد عاطفية وغير العاطفية. وفي
غير ذلك تجدهم رهبان الليل وفرسان النهار، فحياتهم متكاملة لا تجد فيها
نقصاً ولا عوجاً ولا غلواً ، ويُروحون عن أنفسهم ويعطون كل ذي حق حقه دون
إفراط ولا تفريط في كل مناحي الحياة .
أليست هذه المفاهيم هي مفاهيم الإسلام ؟ فما المانع من أن نكون كذلك؟ وما
المانع من أن يكتب شعراؤنا المتديّنون شعراً غزلياً بجانب الشعر الجهادي
والوعظي؟ ثم يترنم بشعرهم الغزلي المنشدون كما يترنمون بشعرهم الجهادي
والوعظي.
وإن حذف شعر الحب والغزل والأناشيد الغزلية من حياة المتديّن في هذا العصر
جعل غير المتديّنين ينظرون إلى عالَم التديّن على أنه عالَم قاسٍ ليس فيه
مجال للعاطفة أن تترنم ولا للأذن أن تطرب. فحدث عند هؤلاء نفور من
التديّن، مما أضعف العمل الدعوي الذي يقوم به الدعاة .