يتمتع السودان بكل مقومات الانتاج السينمائي الجاذب ، ومنذ بدايات عهد
السينما الصامتة كان السودانيون يعشقون هذا الفن ويتذوقونه ولذا كان من
الممكن ان نتفاءل بميلاد سينما سودانية عربية ذات معالجات متميزة تلقي
الضوء على الجانب الأفريقي الثري والغني والمبهر شكلاً وموضوعاً . ولكن
بدلا من تغير هذا الواقع الى إنتاج سينما سودانية تراجع الحال الى أن وصلت
السينما السودانية الضئيلة الانتاج نفسها الى نفق مظلم. والتي ساهم التوجه
الحكومي فيها الى عدم الاهتمام بتطوير صناعة السينما . حيث يرجع كثير من المهتمين مشكلة غياب الإنتاج السينمائي في السودان
الى القصور في سياسات الحكومة المتمثلة في أجهزتها ذات العلاقة بالإنتاج
السينمائي ، وإحجام القطاع الخاص عن الدخول في مجل تمويل إنتاج الأفلام ،
وغياب الأستوديوهات والمعدات الفنية وغياب الرؤية المتكاملة التي تنعكس في
وجود تخطيط علمي منهجي ، إضافة إلى غياب الرأي المتعاطف أحد المقترحات
التي وضعت هو تجميع شتات الأجهزة السينمائية ، ولكن هذا وحده لا يكفي فلا
بد من أن يرافق أصدار القرار حل مسألة التمويل ، وتدريب الكوادار
والإعفاءات الضريبية .
إن التعامل مع المسألة السينمائية كواحدة من
المسائل الثقافية مثل الكتاب لا يتم الا وفق سياسة ثقافية متكاملة ،
ومثلما أثيرت مسألة حماية مشاهد التليفزيون من التأثيرات السلبية
للمسلسلات الأجنبية فلا بد أيضا من سن قوانين تساعد في تغيير نوعية
الأفلام المستوردة لايجاد قاعدة واسعة من المتلقين تدعم الفيلم السوداني
اذا
عدنا الى الوراء سنوات , نجد انه قد تم انشاء أول وحدة لإنتاج الأفلام في
السودان عام 1949، وهي مكتب الاتصالات العام للتصوير السينمائى الذي اقتصر
انتاجه على الأفلام الدعائية وجريدة نصف شهرية وكان خاضعاً لسلطة
الاستعمار البريطاني. وكانت المكتب يملك كاميرا سينمائية واحدة من ماركة
«بيل اند هاول» مقاس 16 مم، ويقوم بتغطية الحوادث الخبرية المهمة، ويبدو
ان افلام تلك الفترة لم يتم رصدها وكانت تخدم فيما يبدو الادارة
البريطانية في ادارة شؤون البلاد، والغالب ان عمل الوحدة في تلك الفترة
انحصر في انشاء قوافل للسينما المتجولة تم اعدادها بمصلحة النقل
الميكانيكي وتقوم بجولات مكثفة لعرض افلام خبرية عن التاج البريطاني
والتعريف بالنشاطات الانجليزية وما شابه.
وفي عام 1951م تم تغذية
الوحدة ببعض العناصر السودانية بعد ان تم تدريبها لتسهم في انتاج افلام
وثائقية ارشادية تلفت انظار الجماهير الى انجازات الحكومة وفي الوقت نفسه
تم جلب المزيد من الكاميرات السينمائية مقاس 16 مم «بولكس وكوداك» التي
كانت تستعمل للمؤثرات الخاصة وكاميرا اريفلكس مقاس 35 مم للتصوير الخارجي،
وقامت الوحدة في تلك الفترة بتحقيق افلام عن الزراعة والري والصناعة
والصحة وفي الوقت نفسه كانت الوحدة تسهم في عملية التوعية الارشادية وتقوم
باصدار جريدة خبرية مرتين في الشهر، فقدمت افلام «العطش» في غرب السودان
و«التعاون» و«ذبابة التسي تسي» وفيلم «ذهب السودان الابيض» عن «مشروع
الجزيرة» لزراعة القطن وفيلم «الزراعة الآلية» وتطور عمل الوحدة بعد ان
قام كمال محمد ابراهيم الذي كان قد تم تدريبه في بعثة في قبرص لمدة 18
شهراً مع جاد الله جبارة، بكتابة سيناريوهات الافلام التي تم تحقيقها في
نهاية عام 1951م مثل فيلم الذهب الأبيض والمنكوب وأغنية الخرطوم
وعندما
استقل السودان عام 1956، كان عدد دور العرض 30 داراً، وطرح السينمائيون
السودانيون بعد عام 1967 شعار إحلال الفكر محل الإثارة، وتم تأسيس نادي
السينما وتشجع عدد من الشبان السودانيين للسفر الى الخارج لدراسة السينما،
منهم إبراهيم شداد وسامي الصاوي وسليمان محمد إبراهيم ومنار الحلو. وهنا
بدأت تظهر سينما جديدة، أو بالأحرى بداية جادة لسينما تسجيلية، ولكن ما
جعل هذه المحاولة ناقصة هو الروتين بالإضافة الى تعدد الجهات التي تتحدث
عن السينما. وبعد ثورة 25 ايار 1970، آلت عملية الاستيراد والتوزيع الى
الدولة وأنشئت مؤسسة الدولة للسينما كجزء من وزارة الإعلام والثقافة.
وجرى
التركيز على السينما التسجيلية دون الروائية، ومن المحاولات التسجيلية
فيلم «الطفولة المشردة» الذي يعالج مشكلة الأطفال النازحين من الريف الى
المدينة. ولكن أكثر الأفلام التسجيلية كانت عن النشاط الحكومي الرسمي
وإنجازاته دون أن تحمل أية معالجة سينمائية فنية. ولكن كأي مشروع في دول
العالم الثالث ضاع هذا الهدف بين ثنايا البيروقراطية وشح التمويل وعدم
الإهتمام وأصبحت المؤسسة مجرد مستورد لأفلام الكاوبوي والأفلام الهندية
والعربية وذلك على الرغم من أن وفودا أوروبية كثيرة أبدت رغبتها في إعانة
السودان على إنتاج الأفلام السينمائية.
أما القطاع الخاص فهو بعيد
تماما عن هذا الهم وذلك بسبب الخوف من المنافسة الخارجية المتمثلة في
الأفلام المستوردة ويتخوف المستثمرون من عدم رجوع أموالهم إليهم كما أن
القطاع الخاص يلهث دائما وراء العائد المادي المضمون والسريع ، والمحاولات
الإنتاجية المحدودة التي قام بها القطاع الخاص لا تستحق حتى جهد النقد.
وسنجد
ان السبعينيات شهدت محاولات سينمائية سودانية ناجحة في مجال الأفلام
القصيرة، حظيت بتقدير العديد من المهرجانات الدولية والاقليمية، فقد فاز
فيلم «الضريح» للطيب المهدي بذهبية القاهرة للافلام القصيرة عام 1970،
ونال فيلم «ولكن الأرض تدور» لسليمان محمد ابراهيم ذهبية مهرجان موسكو عام
1979، وحصل فيلم «الجمل» للمخرج ابراهيم شداد، على جائزة النقاد في مهرجان
كان عام 1986.
وشهدت السبعينيات ايضاً بدء انتاج الافلام الروائية
السودانية، ونرى البون الشاسع يفصل بين مجموعة الافلام الروائية التي تم
تحقيقها في السودان منذ ان انجز الرشيد مهدي فيلمه الروائي الطويل «آمال
واحلام» عام 1970م والذي يؤرخ له كاول فيلم سينمائي تتم صناعته في السودان
وبين القضايا الشائكة والمشكلات المصيرية والاحلام التي تم اجهاضها تباعاً
والتي كانت تضطرم في وجدان الجماهير السودانية منذ الاستقلال، كان واضحاً
ان محققي هذه الافلام لم يقاربوا طبيعة المشكلات التي واجهت الانسان
السوداني في طريق تحولاته الجذرية المستمرة والمعقدة، واذا تجاوزنا تجربة
الرشيد مهدي في فيلم «آمال واحلام» والذي تطرق في جعله فيلماً
ابداعياخالصاً منطلقا من بيئته الخاصة، «عاد الى مدينة عطبرة التي عمل بها
وعاش فيها المخرج» ليحقق به سبقاً سينمائياً . وقام بالمحاولة الثانية
أنور هاشم الذي تخرج من المعهد العالي للسينما بالقاهرة عام 1971 عندما
انتج واخرج فيلم " شروق " عام 1974 . فان جاد الله جبارة والذي كانت تؤرقه
تجربة الرشيد الذي اخذ منه زمام المبادرة حقق شريطه الاول «تاجوج» الذي
نال جوائز في تسعة مهرجانات دولية واقليمية في عام 1980 حاول ان يتعمق في
روح الاسطورة الشهيرة ليستنبط منها بناء سينمائياً جديداً يتواءم مع ظروف
وقضايا الحاضر، فعلى مدي الساعتين وهي عمر الفيلم عايشنا اجواء وسلوك
القرن السادس أو السابع عشر ..وتدور أحداثه في قبيلة الحمات , تاجوج أجمل
بنات القبيلة الواقعة في شرق السودان تتبادل الحب مع ابن عمها الشاعر
المحلق , ويتقدم للزواج منها , تعارض القبيلة زواجهما , لأنه أنشد فيها
شعرا , يحاول العزول أوهاج ان يفرق بين الزوجين عن طريق السحر , حيث يدفع
عرافة الى أن تفصل بينهما ,وينجح مفعول السحر ويتم الانفصال .ويهيم الزوج
على وجهه في الصحراء حزينا ويشرف على الموت ثم تتجلى الحقيقة عندما تعترف
العرافة , لكن الزوج حين يعود يلفظ الروح بين يدي امرأته . ان اولي شروط
السينمائي في العالم الثالث هي ان يعي ويتفهم مشاكل عصره والقضايا التي
تلاحق ابناء بلده، واذا كانت تجربة الرشيد التي تمت بنفس اجتهادات «المسرح
المدرسي» وايضاً لقلة احتكاكه بالمجال السينمائي فان لجاد الله جبارة
رصيداً ضخماً من المعرفة بالحقل السينمائي تعود بجذورها الى نشأة وحدة
افلام السودان في الاربعينات فقد كان احد روادها.
وفي العام 1984م
انجز الفنان صلاح بن البادية فيلم «رحلة عيون» وجاء الفيلم عبارة عن
ميلودراما غنائية يتناول واقعاً مصطنعاً ويكتظ بكمية من نجوم السينما
المصرية، وبعض اغاني صلاح بن البادية، وحركات الفاضل سعيد، وهو نوع من
السينما تجاوزه العالم منذ العشرينات عندما كان يفصل السيناريو بناء على
اساس النجم السينمائي وقدراته، الخ، انها سينما تفضح نفسها، ولا يراود
الشك أي متفرج في ان هذه السينما لا تقدم له شيئاً، ولهذا سقط الفيلم
جماهيرياً رغم شوق الجماهير لتري نفسها في سينما تملكها، وفي منتصف
التسعينات دخل المخرج عبد الرحمن محمد عبد الرحمن «وهو مصري سوداني» في
تجربة انجاز شريطين أولهما كان فيلم «العدل قبل القانون» من سيناريو
للنعمان حسن قام بتعديله لينتصر فيه للمشروع الحضاري، وجاء فيلمه الثاني
«ويبقي الامل» يستمد طبيعته الساذجة من ميلودرامات السينما الهندية في
الخمسينات، وقبل ان تتطور تقنياً بالتوليفة المحفوظة نفسها، اختيار مثالى
للاماكن فتيات جميلات اغان لا علاقة لها بمضمون الفيلم، وشخصيات منزوعة من
أية خلفية اجتماعية، واخيراً المصادفة هي التي تجمع بين الشخصيات وتقود
الاحداث. ثم تم انتاج فيلم «عرس الزين» عن قصة الأديب السوداني الطيب صالح
والذي اقتصر العنصر السوداني فيه على التمثيل في حين كان كويتياً انتاجاً
وإخراجاً.
وفي الفترة الاخيرة قدمت لنا السينما في السودان فيلم «بركة
الشيخ» من رواية لمصطفى ابراهيم محمد ومن اخراج جاد الله جبارة، ملصق
الفيلم ينبهنا في احدي فقراته لعوامل الجهل ببعض ثوابت الدين والاستغفال
بسبب طيبة الانسان ومخاطر الانزلاق الى مساوئ الخروج عن الايمان، ويبدو ان
الفيلم مأخوذ عن حكاية تداولها الناس في الستينات عندما ابتز رجل دجال
الاهالى البسطاء لمعرفته باستعمال طريقة مورس في ارسال الشفرات.
ونجد
ان ملامح الفيلم تتطابق مع الدراما التلفزيونية السودانية بدءاً من الاداء
المسرحي الطاغي على جو الفيلم وانتهاء بالحوار البارد ، والواضح ان مشكلة
السيناريو مشتركة في كل تلك الافلام، وتتضح بشكل تام في فيلم «بركة الشيخ»
الذي اهتم بالتفاصيل ونجوم المسرح السوداني وتناسي جوهر الصراع عندما يقوم
الدجال بقتل الصبي، وطرد امام الجامع، رغم انهما لم يقفا في طريقه بتاتاً،
مرة اخرى نقول اذا تجاوزنا ضعف الافلام الاولي التي تم صنعها بمنطلق
الانبهار بالسينما، أو لمنطلقات شخصية اخرى لا تغيب عن فطنة المشاهد
السينمائي في السودان، فماذا يمكن ان نقول عن افلام التسعينات في صناعة
السينما؟ لقد جاءت ضحلة ولم يول محققوها أي اهتمام بالسينما كثقافة وكفكر
ومرآة تعكس المشكلات المزمنة للشعب السوداني.
ومنذ أواخر
الثمانينيات، خفت حدة الزخم، وتفرق أغلب السينمائيين السودانيين الكبار في
المهجر، تدفعهم في ذلك مشروعات وطموحات التعبير السينمائي بينما تدمي
قلوبهم وذاكرتهم المقارنات الموجعة بين ما كان وما صار، وبين أولئك
ابراهيم شداد رائد الاتجاه الذي برز في افلام الخريجين في السبعينيات
وحسين شريف مخرج انتزاع الكهرمان والمخرج الطيب المهدي صاحب الضريح وأربع
مرات للاطفال والمحطة‚ ويرى كثير من المهتمين بالسينما أن تعثر النهضة
السينمائية بالسودان يعود لعدم اهتمام الدولة‚ فالانتاج السينمائي ظل وثيق
الصلة بالسياسة الثقافية للدولة حيث كانت الافلام الوثائقية وافلام
الخريجين التي وجدت قبولا اقليميا ودوليا وليدة الدعم الحكومي عبر الاقسام
الادارية المخصصة للسينما في الوزارات الحكومية‚ ويقول هؤلاء ان حل مؤسسة
السينما في اوائل التسعينيات كان له دور كبير في احتضار السينما السودانية
وبالتالي خسارة السينما العربية لظاهرة كان من الممكن ان تشكل علامة فارقة
في تاريخ الفن السينمائي.
السينما الصامتة كان السودانيون يعشقون هذا الفن ويتذوقونه ولذا كان من
الممكن ان نتفاءل بميلاد سينما سودانية عربية ذات معالجات متميزة تلقي
الضوء على الجانب الأفريقي الثري والغني والمبهر شكلاً وموضوعاً . ولكن
بدلا من تغير هذا الواقع الى إنتاج سينما سودانية تراجع الحال الى أن وصلت
السينما السودانية الضئيلة الانتاج نفسها الى نفق مظلم. والتي ساهم التوجه
الحكومي فيها الى عدم الاهتمام بتطوير صناعة السينما . حيث يرجع كثير من المهتمين مشكلة غياب الإنتاج السينمائي في السودان
الى القصور في سياسات الحكومة المتمثلة في أجهزتها ذات العلاقة بالإنتاج
السينمائي ، وإحجام القطاع الخاص عن الدخول في مجل تمويل إنتاج الأفلام ،
وغياب الأستوديوهات والمعدات الفنية وغياب الرؤية المتكاملة التي تنعكس في
وجود تخطيط علمي منهجي ، إضافة إلى غياب الرأي المتعاطف أحد المقترحات
التي وضعت هو تجميع شتات الأجهزة السينمائية ، ولكن هذا وحده لا يكفي فلا
بد من أن يرافق أصدار القرار حل مسألة التمويل ، وتدريب الكوادار
والإعفاءات الضريبية .
إن التعامل مع المسألة السينمائية كواحدة من
المسائل الثقافية مثل الكتاب لا يتم الا وفق سياسة ثقافية متكاملة ،
ومثلما أثيرت مسألة حماية مشاهد التليفزيون من التأثيرات السلبية
للمسلسلات الأجنبية فلا بد أيضا من سن قوانين تساعد في تغيير نوعية
الأفلام المستوردة لايجاد قاعدة واسعة من المتلقين تدعم الفيلم السوداني
اذا
عدنا الى الوراء سنوات , نجد انه قد تم انشاء أول وحدة لإنتاج الأفلام في
السودان عام 1949، وهي مكتب الاتصالات العام للتصوير السينمائى الذي اقتصر
انتاجه على الأفلام الدعائية وجريدة نصف شهرية وكان خاضعاً لسلطة
الاستعمار البريطاني. وكانت المكتب يملك كاميرا سينمائية واحدة من ماركة
«بيل اند هاول» مقاس 16 مم، ويقوم بتغطية الحوادث الخبرية المهمة، ويبدو
ان افلام تلك الفترة لم يتم رصدها وكانت تخدم فيما يبدو الادارة
البريطانية في ادارة شؤون البلاد، والغالب ان عمل الوحدة في تلك الفترة
انحصر في انشاء قوافل للسينما المتجولة تم اعدادها بمصلحة النقل
الميكانيكي وتقوم بجولات مكثفة لعرض افلام خبرية عن التاج البريطاني
والتعريف بالنشاطات الانجليزية وما شابه.
وفي عام 1951م تم تغذية
الوحدة ببعض العناصر السودانية بعد ان تم تدريبها لتسهم في انتاج افلام
وثائقية ارشادية تلفت انظار الجماهير الى انجازات الحكومة وفي الوقت نفسه
تم جلب المزيد من الكاميرات السينمائية مقاس 16 مم «بولكس وكوداك» التي
كانت تستعمل للمؤثرات الخاصة وكاميرا اريفلكس مقاس 35 مم للتصوير الخارجي،
وقامت الوحدة في تلك الفترة بتحقيق افلام عن الزراعة والري والصناعة
والصحة وفي الوقت نفسه كانت الوحدة تسهم في عملية التوعية الارشادية وتقوم
باصدار جريدة خبرية مرتين في الشهر، فقدمت افلام «العطش» في غرب السودان
و«التعاون» و«ذبابة التسي تسي» وفيلم «ذهب السودان الابيض» عن «مشروع
الجزيرة» لزراعة القطن وفيلم «الزراعة الآلية» وتطور عمل الوحدة بعد ان
قام كمال محمد ابراهيم الذي كان قد تم تدريبه في بعثة في قبرص لمدة 18
شهراً مع جاد الله جبارة، بكتابة سيناريوهات الافلام التي تم تحقيقها في
نهاية عام 1951م مثل فيلم الذهب الأبيض والمنكوب وأغنية الخرطوم
وعندما
استقل السودان عام 1956، كان عدد دور العرض 30 داراً، وطرح السينمائيون
السودانيون بعد عام 1967 شعار إحلال الفكر محل الإثارة، وتم تأسيس نادي
السينما وتشجع عدد من الشبان السودانيين للسفر الى الخارج لدراسة السينما،
منهم إبراهيم شداد وسامي الصاوي وسليمان محمد إبراهيم ومنار الحلو. وهنا
بدأت تظهر سينما جديدة، أو بالأحرى بداية جادة لسينما تسجيلية، ولكن ما
جعل هذه المحاولة ناقصة هو الروتين بالإضافة الى تعدد الجهات التي تتحدث
عن السينما. وبعد ثورة 25 ايار 1970، آلت عملية الاستيراد والتوزيع الى
الدولة وأنشئت مؤسسة الدولة للسينما كجزء من وزارة الإعلام والثقافة.
وجرى
التركيز على السينما التسجيلية دون الروائية، ومن المحاولات التسجيلية
فيلم «الطفولة المشردة» الذي يعالج مشكلة الأطفال النازحين من الريف الى
المدينة. ولكن أكثر الأفلام التسجيلية كانت عن النشاط الحكومي الرسمي
وإنجازاته دون أن تحمل أية معالجة سينمائية فنية. ولكن كأي مشروع في دول
العالم الثالث ضاع هذا الهدف بين ثنايا البيروقراطية وشح التمويل وعدم
الإهتمام وأصبحت المؤسسة مجرد مستورد لأفلام الكاوبوي والأفلام الهندية
والعربية وذلك على الرغم من أن وفودا أوروبية كثيرة أبدت رغبتها في إعانة
السودان على إنتاج الأفلام السينمائية.
أما القطاع الخاص فهو بعيد
تماما عن هذا الهم وذلك بسبب الخوف من المنافسة الخارجية المتمثلة في
الأفلام المستوردة ويتخوف المستثمرون من عدم رجوع أموالهم إليهم كما أن
القطاع الخاص يلهث دائما وراء العائد المادي المضمون والسريع ، والمحاولات
الإنتاجية المحدودة التي قام بها القطاع الخاص لا تستحق حتى جهد النقد.
وسنجد
ان السبعينيات شهدت محاولات سينمائية سودانية ناجحة في مجال الأفلام
القصيرة، حظيت بتقدير العديد من المهرجانات الدولية والاقليمية، فقد فاز
فيلم «الضريح» للطيب المهدي بذهبية القاهرة للافلام القصيرة عام 1970،
ونال فيلم «ولكن الأرض تدور» لسليمان محمد ابراهيم ذهبية مهرجان موسكو عام
1979، وحصل فيلم «الجمل» للمخرج ابراهيم شداد، على جائزة النقاد في مهرجان
كان عام 1986.
وشهدت السبعينيات ايضاً بدء انتاج الافلام الروائية
السودانية، ونرى البون الشاسع يفصل بين مجموعة الافلام الروائية التي تم
تحقيقها في السودان منذ ان انجز الرشيد مهدي فيلمه الروائي الطويل «آمال
واحلام» عام 1970م والذي يؤرخ له كاول فيلم سينمائي تتم صناعته في السودان
وبين القضايا الشائكة والمشكلات المصيرية والاحلام التي تم اجهاضها تباعاً
والتي كانت تضطرم في وجدان الجماهير السودانية منذ الاستقلال، كان واضحاً
ان محققي هذه الافلام لم يقاربوا طبيعة المشكلات التي واجهت الانسان
السوداني في طريق تحولاته الجذرية المستمرة والمعقدة، واذا تجاوزنا تجربة
الرشيد مهدي في فيلم «آمال واحلام» والذي تطرق في جعله فيلماً
ابداعياخالصاً منطلقا من بيئته الخاصة، «عاد الى مدينة عطبرة التي عمل بها
وعاش فيها المخرج» ليحقق به سبقاً سينمائياً . وقام بالمحاولة الثانية
أنور هاشم الذي تخرج من المعهد العالي للسينما بالقاهرة عام 1971 عندما
انتج واخرج فيلم " شروق " عام 1974 . فان جاد الله جبارة والذي كانت تؤرقه
تجربة الرشيد الذي اخذ منه زمام المبادرة حقق شريطه الاول «تاجوج» الذي
نال جوائز في تسعة مهرجانات دولية واقليمية في عام 1980 حاول ان يتعمق في
روح الاسطورة الشهيرة ليستنبط منها بناء سينمائياً جديداً يتواءم مع ظروف
وقضايا الحاضر، فعلى مدي الساعتين وهي عمر الفيلم عايشنا اجواء وسلوك
القرن السادس أو السابع عشر ..وتدور أحداثه في قبيلة الحمات , تاجوج أجمل
بنات القبيلة الواقعة في شرق السودان تتبادل الحب مع ابن عمها الشاعر
المحلق , ويتقدم للزواج منها , تعارض القبيلة زواجهما , لأنه أنشد فيها
شعرا , يحاول العزول أوهاج ان يفرق بين الزوجين عن طريق السحر , حيث يدفع
عرافة الى أن تفصل بينهما ,وينجح مفعول السحر ويتم الانفصال .ويهيم الزوج
على وجهه في الصحراء حزينا ويشرف على الموت ثم تتجلى الحقيقة عندما تعترف
العرافة , لكن الزوج حين يعود يلفظ الروح بين يدي امرأته . ان اولي شروط
السينمائي في العالم الثالث هي ان يعي ويتفهم مشاكل عصره والقضايا التي
تلاحق ابناء بلده، واذا كانت تجربة الرشيد التي تمت بنفس اجتهادات «المسرح
المدرسي» وايضاً لقلة احتكاكه بالمجال السينمائي فان لجاد الله جبارة
رصيداً ضخماً من المعرفة بالحقل السينمائي تعود بجذورها الى نشأة وحدة
افلام السودان في الاربعينات فقد كان احد روادها.
وفي العام 1984م
انجز الفنان صلاح بن البادية فيلم «رحلة عيون» وجاء الفيلم عبارة عن
ميلودراما غنائية يتناول واقعاً مصطنعاً ويكتظ بكمية من نجوم السينما
المصرية، وبعض اغاني صلاح بن البادية، وحركات الفاضل سعيد، وهو نوع من
السينما تجاوزه العالم منذ العشرينات عندما كان يفصل السيناريو بناء على
اساس النجم السينمائي وقدراته، الخ، انها سينما تفضح نفسها، ولا يراود
الشك أي متفرج في ان هذه السينما لا تقدم له شيئاً، ولهذا سقط الفيلم
جماهيرياً رغم شوق الجماهير لتري نفسها في سينما تملكها، وفي منتصف
التسعينات دخل المخرج عبد الرحمن محمد عبد الرحمن «وهو مصري سوداني» في
تجربة انجاز شريطين أولهما كان فيلم «العدل قبل القانون» من سيناريو
للنعمان حسن قام بتعديله لينتصر فيه للمشروع الحضاري، وجاء فيلمه الثاني
«ويبقي الامل» يستمد طبيعته الساذجة من ميلودرامات السينما الهندية في
الخمسينات، وقبل ان تتطور تقنياً بالتوليفة المحفوظة نفسها، اختيار مثالى
للاماكن فتيات جميلات اغان لا علاقة لها بمضمون الفيلم، وشخصيات منزوعة من
أية خلفية اجتماعية، واخيراً المصادفة هي التي تجمع بين الشخصيات وتقود
الاحداث. ثم تم انتاج فيلم «عرس الزين» عن قصة الأديب السوداني الطيب صالح
والذي اقتصر العنصر السوداني فيه على التمثيل في حين كان كويتياً انتاجاً
وإخراجاً.
وفي الفترة الاخيرة قدمت لنا السينما في السودان فيلم «بركة
الشيخ» من رواية لمصطفى ابراهيم محمد ومن اخراج جاد الله جبارة، ملصق
الفيلم ينبهنا في احدي فقراته لعوامل الجهل ببعض ثوابت الدين والاستغفال
بسبب طيبة الانسان ومخاطر الانزلاق الى مساوئ الخروج عن الايمان، ويبدو ان
الفيلم مأخوذ عن حكاية تداولها الناس في الستينات عندما ابتز رجل دجال
الاهالى البسطاء لمعرفته باستعمال طريقة مورس في ارسال الشفرات.
ونجد
ان ملامح الفيلم تتطابق مع الدراما التلفزيونية السودانية بدءاً من الاداء
المسرحي الطاغي على جو الفيلم وانتهاء بالحوار البارد ، والواضح ان مشكلة
السيناريو مشتركة في كل تلك الافلام، وتتضح بشكل تام في فيلم «بركة الشيخ»
الذي اهتم بالتفاصيل ونجوم المسرح السوداني وتناسي جوهر الصراع عندما يقوم
الدجال بقتل الصبي، وطرد امام الجامع، رغم انهما لم يقفا في طريقه بتاتاً،
مرة اخرى نقول اذا تجاوزنا ضعف الافلام الاولي التي تم صنعها بمنطلق
الانبهار بالسينما، أو لمنطلقات شخصية اخرى لا تغيب عن فطنة المشاهد
السينمائي في السودان، فماذا يمكن ان نقول عن افلام التسعينات في صناعة
السينما؟ لقد جاءت ضحلة ولم يول محققوها أي اهتمام بالسينما كثقافة وكفكر
ومرآة تعكس المشكلات المزمنة للشعب السوداني.
ومنذ أواخر
الثمانينيات، خفت حدة الزخم، وتفرق أغلب السينمائيين السودانيين الكبار في
المهجر، تدفعهم في ذلك مشروعات وطموحات التعبير السينمائي بينما تدمي
قلوبهم وذاكرتهم المقارنات الموجعة بين ما كان وما صار، وبين أولئك
ابراهيم شداد رائد الاتجاه الذي برز في افلام الخريجين في السبعينيات
وحسين شريف مخرج انتزاع الكهرمان والمخرج الطيب المهدي صاحب الضريح وأربع
مرات للاطفال والمحطة‚ ويرى كثير من المهتمين بالسينما أن تعثر النهضة
السينمائية بالسودان يعود لعدم اهتمام الدولة‚ فالانتاج السينمائي ظل وثيق
الصلة بالسياسة الثقافية للدولة حيث كانت الافلام الوثائقية وافلام
الخريجين التي وجدت قبولا اقليميا ودوليا وليدة الدعم الحكومي عبر الاقسام
الادارية المخصصة للسينما في الوزارات الحكومية‚ ويقول هؤلاء ان حل مؤسسة
السينما في اوائل التسعينيات كان له دور كبير في احتضار السينما السودانية
وبالتالي خسارة السينما العربية لظاهرة كان من الممكن ان تشكل علامة فارقة
في تاريخ الفن السينمائي.