لكل
أمة تراثياتها وثقافتها الخاصة بها وموروثاتها المؤثرة على حاضرها، والتي
تميزها بطابع خاص على غيرها من القوميات والأمم، وذلك يجري حتى على نطاق
القبائل والعشائر وإلى الأسر والعوائل، مثلما ينطبق على أمة أو شعب أو
مجتمع ما.
ولعل أوجه الموروثات وأوجه الثقافة تتعدد وتتنوع وتتشعب، والثقافة أصبحت
بمفهومها الشامل تحتوى على كل جوانب حياة الناس ومفاهيمهم ومعتقداتهم
وتقاليدهم وطريقة فهمهم ونمط تفكيرهم إلى ذوقهم وحسهم الفني والأدبي
والديني وعلاقاتهم الاجتماعية وطقوسهم في أفراحهم وأتراحهم، وقل ما شئت في
هذا السياق وهذا المعنى.
ولعل للسودانيين ثقافتهم المشتركة مع غيرهم من القوميات العربية وغير
العربية، ولكن لهم مع ذلك، مثلهم مثل غيرهم خصوصيتهم. ولعلي جئت اليوم
لأتحدث عن هذه الخصوصية بشكل خاص في مجال الغناء والتطريب.
والغناء في حد ذاته قد لا يعني كما يتبادر للذهن، الغزل والتشبب بالمحبوبة
الجميلة، حلم اليوم والغد وشريكة الحياة التي وقع عليها الاختيار، وقد
يحظى بها العاشق الولهان أو لا يحظى، ولكن الغناء يشمل العديد من الأغراض:
الغزل والبكاء والمناحة والرثاء والفخر والسياسة والذات والمديح، وحتى
الهجاء والجوانب الإنسانية المتعددة المعاني والوجوه.
ولعلي قلت في مقالي السابق أن المطربين السودانيين غنوا لفحول العرب وضربت
مثلاً بقصيدتين للعقاد. ولكني أود التأكيد هنا أن ذلك لم يأتِ من خلو
الساحة السودانية من فحول الشعراء، وإنما جاء في إطار أن الإعجاب بالفن
والجميل الرائع عامل مشترك إنساني لا يقف على جنسية دون أخرى. ومن هذا
المنطلق، فإن قصيدة (ليلة الوداع) للعقاد وما بها من روعة، جعلت المرحوم
الأستاذ محمود الفضلى ينشدها وفي حضرة العقاد عندما جاء إلى السودان خلال
الحرب العالمية الثانية، وأيضاً إعجاب إسماعيل عبد المعين عليه رحمة الله،
ذلك الموسيقار الكبير، قاده إلى أن يلحن (يا نديم الصبوات) للعقاد أيضاً،
مثلما تغنى الأستاذ المثقف المطرب عبد الكريم الكابلى بفريدة العقاد (شذا
زهر ولا زهر).
ولعلي قلت مؤكداً أن ذلك يأتي من خلال تداخل التراث الإنساني، وبالذات
الرائع منه الذي لا تستطيع أن تتخطاه متى وصلك، وذلك شرط مهم للإعلام
الناجح ودوره في نشر وتوصيل الثقافات. وقلت أن ذلك لا يعني خلو الساحة
السودانية من الفحول، ويكفي مثالاً أن كوكب الشرق والغرب والعالم الأدنى
والأقصى أم كلثوم، تغنت لزميلنا الشاعر الأستاذ/ الهادي آدم رائعته (أغداً
ألقاك):
هذه الدنيا كتاب أنت فيها الفِكر
هذه تادنيا عيون أنت فيها البصر
هذه الدنيا سماء أنت فيها القمر
والقصيدة معروفة مشهورة فيها ما فيها من درر المعاني.
ولعل ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع عاملان:
تفاهة الأغنيات التي تغنى وتنال إعجاب الشباب هذه الأيام، وتدر دخلاً
ضخماً لمغنيها من جهلة لا ثقافة لهم ولا تعليم ولا فهم. ولم أكن مازحاً
إطلاقاً عندما قلت إنني استمعت إلى أغنية من مطرب، أو هكذا يزعم، غريب
عجيب تقول كلمات إحدى أغنياته: أنا عندي شقة جاهزة وكمان بمروحة. يا أخي
هناك من جعل من (السلام عليكم) أغنية. فأي ذوق هابط هذا الذي يطرب لما
يقدمه مغني أي كلام يا عبد السلام على رأي الفنان سيد زيان في مسرحية
(الفهلوي)، خصوصاً أنه ساق أمثلة لا تعد ولا تحصى لرديء الغناء من: الطشت
قلي... يا حلوة يالي... إلى بائعي الفواكه و(البوسطجية) الذين اشتكوا من
كثرة مراسلاته...
ضعف ما يسلط على الأغنية السودانية من إعلام يقدمها كما ينبغي للمواطن
العربي في كل شبر من وطننا العربي الحبيب. ولعلي قد سررت كثيراً في الآونة
الأخيرة بالفضائية السودانية وقناة النيل الأزرق وما بدأ يكون معروفاً
للمواطن العربي. ويسرني كثيراً أن يسألني هذا أو ذاك عن مدينة كسلا
الجميلة بشرق السودان مثلاً وما بها من خضرة لافتة للنظر، وعن أغاني شعبية
بدأ المواطن العربي من غير السودانيين يطرب لها ويعرفها ويستفسر أحياناً
عن بعض المعاني التي ربما تكون صعبة الفهم عليه إلى حد ما تفصيلياً وإن
طرب للمعنى العام واستوعبه وهزه اللحن فتراقص.
فالغناء السوداني يكتب بالفصيحة مثلما يكتب أيضاً بالسودانية الدارجة
البحتة التي لا يعرفها إلا السودانيون، وإن ذهب بعض علماء السودان فوضعوا
كتباً عن العامية السودانية وأرجعوا أصولها إلى اللغة العربية، ربما شملها
بعض التحريف أو القلب أو الإمالة، ولكنها في النهاية من العربية الأصيلة
وليست أعجمية ولا عجمية.
قلت مرة أن المطرب الراحل سيد خليفة يعرفه العالم بالمامبو السوداني
وإزيكم كيفنكم، ولكنهم لا يعلمون أنه غنى لفحول الشعراء السودانيين من شعر
سهل ممتنع، غنى لإدريس جماع ما غنى، وقلت يوماً أن إدريس جماع لو لم يقل
غير بيته:
أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا
لكفاه وغناه، فقد تغنى الراحل سيد خليفة بالأغنية التي تضمنت هذا البيت،
وفيها يقول جماع، ذلك الشاعر الرقيق الذي انتهى به الحال في مستشفى
للأمراض النفسية والعقلية:
أعلى الجمال تغار منا ماذا عليك إذا نظرنا
هي نظرة تنسى الوقار وتسعد الروح المعنّى
أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا
وغنى للشاعر الكبير حسن عوض أبو العلا، غنى له أسراب الحسان، وغنى له أمل:
ولى المساء الواله المحزون في جوف الضباب
وأنا أهيئ زينتي وأعد مفتخر الثياب
آملا لقياك الحبيب فيصدني زهو الشباب
تسرى النسائم عذبة وأنا أهيم بلا ملال
وتشدني الأحلام في دنيا المباهج والخيال
وهناك أرقد في الرمال ولا أرى غير الرمال
فقد كان ممتلئاً بالأمل أن لو عادت إليه عافيته وشُفي من إعاقته التي
أصابته بمصر الشقيقة عندما قفز -كما سمعت- إلى حوض سباحة في منطقة ضحلة،
فأصيب في عموده الفقري، مما أدى به إلى إعاقة مستديمة حتى توفي في أوائل
الستينيات مأسوفاً عليه. ولعل عميد الفن السوداني المرحوم أحمد المصطفى قد
غنى لهذا الشاعر الأغنية التي تحكى مأساته:
بطرى اللي آمال وغاية مابتحمى المقدور وقاية
فيك يا مصر أسباب أذايا وفي السودان همى وعزايا
صابر ولم أعلم جزايا والتأويه أصبح غذايا
صرت مسلّم لى رزايا ذي طائر مكسور جناح
ومما يجدر ذكره أن هذه الأغنية هزت ضمير الشعب السوداني، فاضطرت الإذاعة
إلى وقفها عن البث لمدة عام كامل، ريثما يتقبلها الناس بما فيها من ألم
ومأساة. وبالمناسبة، فالكثيرون لا يميزون بين المعاق والمعوق ويستخدمونها
استخدامات خاطئة حتى من قبل مثقفينا، فالمعاق من ولد وبه إعاقة، والمعوق
من ولد صحيحاً معافى ووقعت عليه إصابة أدت إلى تعويقه مثل حادث سير أو
مرض...
وما دمنا في مصر وصلة مصر بالغناء السوداني وتواجدها فيه أو حضورها أذكر
أن أحد شعرائنا الكبار (أطال الله عمره) كان يدرس في صباه أو شبابه بمصر،
والتقى بحسناء فاتنة الجمال، يبدو أنها مسيحية، إذ كانت تلبس الصليب يتدلى
بين نهديها، وترتدي فراء. كانت من طبقة أرستقراطية. أسره جمالها، فلم
يتمالك نفسه، وأرسل لها قبلة عبر الهواء قاذفاً للقبلة بيمينه، فغضبت
وطلبت منه أن يمد رجليه على قدر لحافه كما يقال، وقالت له: يا أسود! انسحب
سريعاً! وكانت تلك الواقعة ميلاد قصيدته الرائعة (ذات الفراء) التي يعرفها
الناس بـ(يا فتاتي)، ويغنيها مطرب سوداني، وفيها يقول:
يا فتاتي ما للهوى بلد كل قلب بالحب يبترد
فلماذا أراك ثائرة وعلام السباب يطّرد
وعلام الصليب ترى بين نهديك راح يرتعد
ألأن السواد يغمرني ليس لي فيه يا فتاة يد
وأنا ما خلقت في وطن في حماه الحب مضطهد
فالوداع الوداع قاتلتي ها أنا عن حماك أبتعد
وسأطوى الجراح في كبدي غائرات مالها عدد
وبالمناسبة، فالشاعر عربي أماً عن أب عن جد، ويكفي أن أباه من أعظم
الشعراء العرب (الشيخ عبد الحميد العباسي)، ويعرف بشعره الغزير في مصر
وبقصيدته:
حياك مليط صوب العارض الغادي وجاد واديك ذا الجنات من وادي
وهو القائل:
لو كنت ذا مال لكنت به للصالحات وفعل الخير سباقا
وما رضيت لكم بالغيث منهمرا مني ولا النيل دفاعاً ودفاقا
وتحدثت مرة كيف وقف هرم العروبة الأكبر (جمال عبد الناصر) لمطرب سوداني
تغنى برائعة الدكتور تاج السر الحسن (آسيا وأفريقيا). وما دمنا قد ذكرنا
هذا الشاعر، كان لابد من وقفة مع قصيدة أخيه المرحوم الحسين الحسن (حبيبة
عمري) التي تغنى بها المطرب الكابلي:
حبيبة عمري تفشى الخبر وذاع وعم القرى والحضر
وكنت أقمت عليه الحصون وخبأته من عيون البشر
فما همسته لأذن النسيم ولا وشوشته لضوء القمر
والقصيدة من عيون الشعر العربي، فما جئت أقدم دراسة لأستمر والحديث يطول،
ولكني أردت أن أعطي شيئاً يسيراً من النماذج مستهدفاً إلقاء بصيص ضوء على
الشعر السوداني من فحول في مجال الأغنية العربية. وبهذه النماذج فإني
أفاخر كل القوميات بلا استثناء، وإن كنت أعرف قصيدة هذه ليلتي لجورج
جرداق، وقصيدة ثورة الشك للأمير الشاعر العملاق عبد الله الفيصل، وبعض
أغاني الشاعر الكبير نزار قباني.
ولعل القارئ يتساءل: لماذا أعطى نماذج من الشعر العربي الفصيح وأين ما
عداه؟ فأقول: إن ما عداه لا يقل روعة عنه، كانت له أهدافه ومعانيه الراقية
ومشاركاته السياسية والدينية والقومية مجد البطولات، وغنى حماسة
بالمحاربين، وامتدح الخصال الكريمة، وتفاخر بشعب وادي النيل في سودانه
ومصره، وهجا الصفات الذميمة وعاب الحرامية، وآزر المرأة ونهضتها، ودعا إلى
التعليم وتشجيع المؤسسات الوطنية ومقاطعة الدخيل المستعمر الفضولي، وكان
له الحس الوطني والقومي العظيم، مما جعله يدعو إلى الوحدة والتكامل مع مصر
منذ وقت بعيد، وما ترك شاردة ولا واردة كما سنرى من الأمثلة.
ولعل الشعراء السودانيين أول من أدخلوا الرمز على مفردات الأغنية، بل
وكانوا سباقين في التجديد عامة حتى على مستوى الشعر العربي الفصيح، فلسنا
ننسى حمزة الملك طمبل وتجديده في الشعر وإشادة العقاد ذلك الذائع الصيت،
الموسوعة العلمية الزاخرة في كل ضرب من ضروب المعرفة، بتجديد شاعرنا حمزة.
منقول للفائدة
أمة تراثياتها وثقافتها الخاصة بها وموروثاتها المؤثرة على حاضرها، والتي
تميزها بطابع خاص على غيرها من القوميات والأمم، وذلك يجري حتى على نطاق
القبائل والعشائر وإلى الأسر والعوائل، مثلما ينطبق على أمة أو شعب أو
مجتمع ما.
ولعل أوجه الموروثات وأوجه الثقافة تتعدد وتتنوع وتتشعب، والثقافة أصبحت
بمفهومها الشامل تحتوى على كل جوانب حياة الناس ومفاهيمهم ومعتقداتهم
وتقاليدهم وطريقة فهمهم ونمط تفكيرهم إلى ذوقهم وحسهم الفني والأدبي
والديني وعلاقاتهم الاجتماعية وطقوسهم في أفراحهم وأتراحهم، وقل ما شئت في
هذا السياق وهذا المعنى.
ولعل للسودانيين ثقافتهم المشتركة مع غيرهم من القوميات العربية وغير
العربية، ولكن لهم مع ذلك، مثلهم مثل غيرهم خصوصيتهم. ولعلي جئت اليوم
لأتحدث عن هذه الخصوصية بشكل خاص في مجال الغناء والتطريب.
والغناء في حد ذاته قد لا يعني كما يتبادر للذهن، الغزل والتشبب بالمحبوبة
الجميلة، حلم اليوم والغد وشريكة الحياة التي وقع عليها الاختيار، وقد
يحظى بها العاشق الولهان أو لا يحظى، ولكن الغناء يشمل العديد من الأغراض:
الغزل والبكاء والمناحة والرثاء والفخر والسياسة والذات والمديح، وحتى
الهجاء والجوانب الإنسانية المتعددة المعاني والوجوه.
ولعلي قلت في مقالي السابق أن المطربين السودانيين غنوا لفحول العرب وضربت
مثلاً بقصيدتين للعقاد. ولكني أود التأكيد هنا أن ذلك لم يأتِ من خلو
الساحة السودانية من فحول الشعراء، وإنما جاء في إطار أن الإعجاب بالفن
والجميل الرائع عامل مشترك إنساني لا يقف على جنسية دون أخرى. ومن هذا
المنطلق، فإن قصيدة (ليلة الوداع) للعقاد وما بها من روعة، جعلت المرحوم
الأستاذ محمود الفضلى ينشدها وفي حضرة العقاد عندما جاء إلى السودان خلال
الحرب العالمية الثانية، وأيضاً إعجاب إسماعيل عبد المعين عليه رحمة الله،
ذلك الموسيقار الكبير، قاده إلى أن يلحن (يا نديم الصبوات) للعقاد أيضاً،
مثلما تغنى الأستاذ المثقف المطرب عبد الكريم الكابلى بفريدة العقاد (شذا
زهر ولا زهر).
ولعلي قلت مؤكداً أن ذلك يأتي من خلال تداخل التراث الإنساني، وبالذات
الرائع منه الذي لا تستطيع أن تتخطاه متى وصلك، وذلك شرط مهم للإعلام
الناجح ودوره في نشر وتوصيل الثقافات. وقلت أن ذلك لا يعني خلو الساحة
السودانية من الفحول، ويكفي مثالاً أن كوكب الشرق والغرب والعالم الأدنى
والأقصى أم كلثوم، تغنت لزميلنا الشاعر الأستاذ/ الهادي آدم رائعته (أغداً
ألقاك):
هذه الدنيا كتاب أنت فيها الفِكر
هذه تادنيا عيون أنت فيها البصر
هذه الدنيا سماء أنت فيها القمر
والقصيدة معروفة مشهورة فيها ما فيها من درر المعاني.
ولعل ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع عاملان:
تفاهة الأغنيات التي تغنى وتنال إعجاب الشباب هذه الأيام، وتدر دخلاً
ضخماً لمغنيها من جهلة لا ثقافة لهم ولا تعليم ولا فهم. ولم أكن مازحاً
إطلاقاً عندما قلت إنني استمعت إلى أغنية من مطرب، أو هكذا يزعم، غريب
عجيب تقول كلمات إحدى أغنياته: أنا عندي شقة جاهزة وكمان بمروحة. يا أخي
هناك من جعل من (السلام عليكم) أغنية. فأي ذوق هابط هذا الذي يطرب لما
يقدمه مغني أي كلام يا عبد السلام على رأي الفنان سيد زيان في مسرحية
(الفهلوي)، خصوصاً أنه ساق أمثلة لا تعد ولا تحصى لرديء الغناء من: الطشت
قلي... يا حلوة يالي... إلى بائعي الفواكه و(البوسطجية) الذين اشتكوا من
كثرة مراسلاته...
ضعف ما يسلط على الأغنية السودانية من إعلام يقدمها كما ينبغي للمواطن
العربي في كل شبر من وطننا العربي الحبيب. ولعلي قد سررت كثيراً في الآونة
الأخيرة بالفضائية السودانية وقناة النيل الأزرق وما بدأ يكون معروفاً
للمواطن العربي. ويسرني كثيراً أن يسألني هذا أو ذاك عن مدينة كسلا
الجميلة بشرق السودان مثلاً وما بها من خضرة لافتة للنظر، وعن أغاني شعبية
بدأ المواطن العربي من غير السودانيين يطرب لها ويعرفها ويستفسر أحياناً
عن بعض المعاني التي ربما تكون صعبة الفهم عليه إلى حد ما تفصيلياً وإن
طرب للمعنى العام واستوعبه وهزه اللحن فتراقص.
فالغناء السوداني يكتب بالفصيحة مثلما يكتب أيضاً بالسودانية الدارجة
البحتة التي لا يعرفها إلا السودانيون، وإن ذهب بعض علماء السودان فوضعوا
كتباً عن العامية السودانية وأرجعوا أصولها إلى اللغة العربية، ربما شملها
بعض التحريف أو القلب أو الإمالة، ولكنها في النهاية من العربية الأصيلة
وليست أعجمية ولا عجمية.
قلت مرة أن المطرب الراحل سيد خليفة يعرفه العالم بالمامبو السوداني
وإزيكم كيفنكم، ولكنهم لا يعلمون أنه غنى لفحول الشعراء السودانيين من شعر
سهل ممتنع، غنى لإدريس جماع ما غنى، وقلت يوماً أن إدريس جماع لو لم يقل
غير بيته:
أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا
لكفاه وغناه، فقد تغنى الراحل سيد خليفة بالأغنية التي تضمنت هذا البيت،
وفيها يقول جماع، ذلك الشاعر الرقيق الذي انتهى به الحال في مستشفى
للأمراض النفسية والعقلية:
أعلى الجمال تغار منا ماذا عليك إذا نظرنا
هي نظرة تنسى الوقار وتسعد الروح المعنّى
أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا
وغنى للشاعر الكبير حسن عوض أبو العلا، غنى له أسراب الحسان، وغنى له أمل:
ولى المساء الواله المحزون في جوف الضباب
وأنا أهيئ زينتي وأعد مفتخر الثياب
آملا لقياك الحبيب فيصدني زهو الشباب
تسرى النسائم عذبة وأنا أهيم بلا ملال
وتشدني الأحلام في دنيا المباهج والخيال
وهناك أرقد في الرمال ولا أرى غير الرمال
فقد كان ممتلئاً بالأمل أن لو عادت إليه عافيته وشُفي من إعاقته التي
أصابته بمصر الشقيقة عندما قفز -كما سمعت- إلى حوض سباحة في منطقة ضحلة،
فأصيب في عموده الفقري، مما أدى به إلى إعاقة مستديمة حتى توفي في أوائل
الستينيات مأسوفاً عليه. ولعل عميد الفن السوداني المرحوم أحمد المصطفى قد
غنى لهذا الشاعر الأغنية التي تحكى مأساته:
بطرى اللي آمال وغاية مابتحمى المقدور وقاية
فيك يا مصر أسباب أذايا وفي السودان همى وعزايا
صابر ولم أعلم جزايا والتأويه أصبح غذايا
صرت مسلّم لى رزايا ذي طائر مكسور جناح
ومما يجدر ذكره أن هذه الأغنية هزت ضمير الشعب السوداني، فاضطرت الإذاعة
إلى وقفها عن البث لمدة عام كامل، ريثما يتقبلها الناس بما فيها من ألم
ومأساة. وبالمناسبة، فالكثيرون لا يميزون بين المعاق والمعوق ويستخدمونها
استخدامات خاطئة حتى من قبل مثقفينا، فالمعاق من ولد وبه إعاقة، والمعوق
من ولد صحيحاً معافى ووقعت عليه إصابة أدت إلى تعويقه مثل حادث سير أو
مرض...
وما دمنا في مصر وصلة مصر بالغناء السوداني وتواجدها فيه أو حضورها أذكر
أن أحد شعرائنا الكبار (أطال الله عمره) كان يدرس في صباه أو شبابه بمصر،
والتقى بحسناء فاتنة الجمال، يبدو أنها مسيحية، إذ كانت تلبس الصليب يتدلى
بين نهديها، وترتدي فراء. كانت من طبقة أرستقراطية. أسره جمالها، فلم
يتمالك نفسه، وأرسل لها قبلة عبر الهواء قاذفاً للقبلة بيمينه، فغضبت
وطلبت منه أن يمد رجليه على قدر لحافه كما يقال، وقالت له: يا أسود! انسحب
سريعاً! وكانت تلك الواقعة ميلاد قصيدته الرائعة (ذات الفراء) التي يعرفها
الناس بـ(يا فتاتي)، ويغنيها مطرب سوداني، وفيها يقول:
يا فتاتي ما للهوى بلد كل قلب بالحب يبترد
فلماذا أراك ثائرة وعلام السباب يطّرد
وعلام الصليب ترى بين نهديك راح يرتعد
ألأن السواد يغمرني ليس لي فيه يا فتاة يد
وأنا ما خلقت في وطن في حماه الحب مضطهد
فالوداع الوداع قاتلتي ها أنا عن حماك أبتعد
وسأطوى الجراح في كبدي غائرات مالها عدد
وبالمناسبة، فالشاعر عربي أماً عن أب عن جد، ويكفي أن أباه من أعظم
الشعراء العرب (الشيخ عبد الحميد العباسي)، ويعرف بشعره الغزير في مصر
وبقصيدته:
حياك مليط صوب العارض الغادي وجاد واديك ذا الجنات من وادي
وهو القائل:
لو كنت ذا مال لكنت به للصالحات وفعل الخير سباقا
وما رضيت لكم بالغيث منهمرا مني ولا النيل دفاعاً ودفاقا
وتحدثت مرة كيف وقف هرم العروبة الأكبر (جمال عبد الناصر) لمطرب سوداني
تغنى برائعة الدكتور تاج السر الحسن (آسيا وأفريقيا). وما دمنا قد ذكرنا
هذا الشاعر، كان لابد من وقفة مع قصيدة أخيه المرحوم الحسين الحسن (حبيبة
عمري) التي تغنى بها المطرب الكابلي:
حبيبة عمري تفشى الخبر وذاع وعم القرى والحضر
وكنت أقمت عليه الحصون وخبأته من عيون البشر
فما همسته لأذن النسيم ولا وشوشته لضوء القمر
والقصيدة من عيون الشعر العربي، فما جئت أقدم دراسة لأستمر والحديث يطول،
ولكني أردت أن أعطي شيئاً يسيراً من النماذج مستهدفاً إلقاء بصيص ضوء على
الشعر السوداني من فحول في مجال الأغنية العربية. وبهذه النماذج فإني
أفاخر كل القوميات بلا استثناء، وإن كنت أعرف قصيدة هذه ليلتي لجورج
جرداق، وقصيدة ثورة الشك للأمير الشاعر العملاق عبد الله الفيصل، وبعض
أغاني الشاعر الكبير نزار قباني.
ولعل القارئ يتساءل: لماذا أعطى نماذج من الشعر العربي الفصيح وأين ما
عداه؟ فأقول: إن ما عداه لا يقل روعة عنه، كانت له أهدافه ومعانيه الراقية
ومشاركاته السياسية والدينية والقومية مجد البطولات، وغنى حماسة
بالمحاربين، وامتدح الخصال الكريمة، وتفاخر بشعب وادي النيل في سودانه
ومصره، وهجا الصفات الذميمة وعاب الحرامية، وآزر المرأة ونهضتها، ودعا إلى
التعليم وتشجيع المؤسسات الوطنية ومقاطعة الدخيل المستعمر الفضولي، وكان
له الحس الوطني والقومي العظيم، مما جعله يدعو إلى الوحدة والتكامل مع مصر
منذ وقت بعيد، وما ترك شاردة ولا واردة كما سنرى من الأمثلة.
ولعل الشعراء السودانيين أول من أدخلوا الرمز على مفردات الأغنية، بل
وكانوا سباقين في التجديد عامة حتى على مستوى الشعر العربي الفصيح، فلسنا
ننسى حمزة الملك طمبل وتجديده في الشعر وإشادة العقاد ذلك الذائع الصيت،
الموسوعة العلمية الزاخرة في كل ضرب من ضروب المعرفة، بتجديد شاعرنا حمزة.
منقول للفائدة