منتديات السديرة
أنت غير مسجل لدينا . للتسجيل اضغط على زر التسجيل


منتديات السديرة
أنت غير مسجل لدينا . للتسجيل اضغط على زر التسجيل

منتديات السديرة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات السديرةدخول

رواية "صبي من النيل الأزرق

power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد
+6
وحيدة بدنيتي
ابوالزهور
monty
moon love
wellyee
عسيلاتي
10 مشترك

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(1)


صَبِيٌ من النيل الأزرق ملحمة الحياة والحب والأسى في السودان المُستَعمَر 1883-1950
م
ن تأليف : G.balamoan
ترجمة : مصطفى المأمون الشيخ محمد

[/center]


مولد الطفل فأل المطر
في يوم سبت من شهر سبتمبر عام 1918 م شعرت وردة زوجة أيوب بآلام المخاض ، كان الناس قبل ذلك العام يسعدون بمقدم كل مولود جديد - ولكن بسبب الجفاف والقحط الذي أصاب البلاد خلال العامين السابقين – أصبح الناس يقابلون هذه المناسبة ببعض الإهمال .
لم تذق وردة الطعام طوال هذا اليوم .وتمر الساعات بطيئة ومؤلمة ،حتى جاء المساء ليُسمَع أنينها في أنحاء مدينة ود مدني .جذب ذاك الأنين كثيرا" من السكان و لكن كانت كل حيلتهم التشجيع والدعاء .
اقترحت القابلة عمل قطع بالسكين وسحب الجنين باليد حفاظا" على صحة الأم ، ولكن وردة - على ما بها من ألم - أبت ذلك في إصرار، مفضلة حياة الجنين على حياتها .بعد ذلك توالت محاولات العاجزين .البعض لم يملك إلا الدعاء وآخرين قاموا بمسح جسمها بزيت السمسم وغيرهم حاولوا مساعدتها على السير .
وسط هذه المعمعة والأنين والألم واليأس ،لم يشعر الحضور إلا بغزال كبير يقف وسط الحوش -كأنه جاء يستقصي الخبر ويشارك في المحاولات اليائسة – وجم الحضور برؤية الغزال في وقفته الوديعة واستطاعت إحدى النساء الخروج من هذا الوجوم وصاحت : ( الكرامة .. الكرامة .. الكرامة جاءت بكرعينها يا ناس ) . ولفت هذا الصياح الرجال بالقسم الآخر من الحوش .أغلق أحدهم الباب بخفة وأمسك بالغزال وذبحه في الحال .طلب من وردة التحامل على نفسها والتعدي فوق الغزال المذبوح وسط صيحات أمها خالدة المفعمة بالتفاؤل : ( هيا يا وردة .. عدي ، لقد أرسلها الله لنا لتكون فداء" لك و لمولودك ) .فقامت وردة تقاوم إعيائها لتعدي فوق الذبيحة وهي تنظر متضرعة إلى تباشير الفجر اللائح على الأفق في منظر تتفطر له القلوب، و جو تتجاذبه المشاعر ما بين الدم المسفوح والدمع المدفوق .. ما بين اليأس والأمل .وقفت وردة على رجلين مفراكتين ،وقد بلغ الألم منها ما بلغ .لم تعد قادرة على الصراخ ،لم تعد قادرة حتى على التألم. ودخلت الأم خالدة في نوبة بكاء كأنها تنوب عن أبنتها .
ما إن أُخذت وردة إلى داخل الغرفة الطينية حتى تبدل الكون !! السحب تتراكم ‍‍‍‍.. الرعد يدوي و العبادي يشيل والجميع في دهشة ،أفعمت القلوب _ رغم الخوف - بالحياة والتزم الجميع الصمت .حتى وردة كأنها استعاضت عن صراخها بصراخ الكون وعن تضرعها بصلاة الكون .
توالت الأحداث عاصفة :النوافذ تزداد اهتزازا .. السماء تزداد لمعانا وصاعقة تضرب شجرة اللالوب وسط الحوش فتحيلها إلى كتلة حمراء ملتهبة .
جاء الفرج عند بزوغ الفجر . ففي اللحظة التي كانت فيها وردة تضع مولودها – أرسلت السماء رحمتها مطرا يزيل رماد السنين المتراكم . جاء الفرج وسط معزوفة كونية لا تتكرر كثيرا ، المطر ينزل ،المؤذن يؤذن لصلاة الفجر ، جرس الكنيسة الأرثوذكسية يرن لصلاة الأحد ،الديك يصيح بإعلان يوم جديد ،وردة تصرخ بإعلان مولود جديد والأم خالدة تزغرد بإعلان نهاية المأساة .
بعد أن أُضجعت وردة على سريرها ، غسلت بالماء الدافئ ،ومسح جسمها بزيت السمسم . نودي على أيوب ليرى زوجته والمولود .ما أن رأى أيوب وجه وردة الممتق كالوردة الذابلة، ارتاع وأسرع الخطى ليطلب العون من الإدارة الإنجليزية .ما لبث أن عاد وبصحبته طبيب إنجليزي _ في الأصل طبيب بيطري _ .جاء الطبيب بصحبة زوجته الممرضة .
بدأ الزوجان على الفور في عملهم ومحاولة إيقاف النزيف وتطهير الجرح .وأشاروا في كبرياء استعماري إلى انه لولا استدعاءهم لكانت وردة في عالم آخر .وصرخت الممرضة بنفس الكبرياء :(أوقفوا هذا الجهل ، إنكم تقسون على أنفسكم أكثر مما يجب .لا تحاولوا خياطة الخفاض مرة أخرى ولا تضعوا الجردق (ملح صخري ) علي المهبل وعليكم تنظيف الجرح بهذا المطهر والقطن).
في اليوم السابع ذبح خروفان للسماية والكرامة .قدمت الفتة للضيوف وسط بهجة الجميع بالطعام والمطر ،التي يعتقد البعض أن المولود قد جلبها معه وكان من محاسن الصدف أن ذلك العام كان عام خير وفير أعقب سنين القحط السابقة ..

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
2)
تسمية المولود

هذا الطفل فأل المطر هو أنا ، وهذه الفتة التي قدمت في اليوم السابع هو يوم( السماية) ، وقد سميت (صوص) في جو طقوسي بين دقات النوبة وقرع الطبول وزغاريد النساء .
بعد الأكل قدمت المشروبات كالشاي والقهوة والشربوت والمريسة والتي ساهم في جلبها بعض الجيران . رائحة الصندل و الشب واللبان تفوح من جميع أركان المنزل ،خاصة من غرفة وردة وصوص حيث يرقدان على برش مصنوع من سعف الدوم .. استمرت الاحتفالات :وضع المولود على طست من نحاس ، ثم جيء بعلب وزجاج وأواني فارغة وبدأ الضرب عليها مصحوبا بالتهليل والهتاف والزغاريد ، بمشاركة العشرات من النساء والأطفال – يستبعد الرجال من هذه الطقوس - ولك أن تتخيل المعزوفة الخارجة من هذا الخليط من الأصوات مجتمعة .
أخذ المولود في مهده النحاسي إلى النيل ،تتبعه أمه على حمار .والبقية راجلين حاملين المباخر وقارعين الأواني. عند النيل تقف إحدى النساء -ممن فقدن الأمل في الإنجاب - لتعدي فوق مهد الطفل الوليد سبع مرات معتقدة أن ذلك سيجلب لها الحظ لتحمل وتلد بينما تقوم أحدهن بمساعدة الأم بغسل وجهها وقدميها بماء النيل ويتم غسل المولود كذلك .هذه العادات قد تكون فرعونية وهو ما يشبه طقس التعميد في زماننا هذا .
نسبة لما عانته وردة عند الولادة لم يدر ثدييها حليبا، ولكن معزة خلوية مع سخلها تقف أمام باب الحوش ، كأنها جاءت خصيصا لهذا الغرض ! أخذت حبوبة الشول المولود ليرضع مباشرة من ثدي المعزة ويبدو أن المعزة قد قررت المكوث معهم فصارت تخرج إلى المراعي المخضرة خارج المدينة وتعود لحوش أيوب عند المغيب .
لاحظت حبوبة الشول الفعل التطوعي للمعزة وهطول الأمطار غير المتوقع وكمية الهدايا الواصلة من الجيران والأغراب ، تأملت حبوبة كل ذلك مما جعلها تعتقد اعتقادا جازما بأن هذا الطفل مرسل من عند الله وكل من يقف في طريقه فسوف يصيبه البلاء ( هذا الطفل إذا لم يولد حيا كنا سنهلك جميعا ولن تكون هناك أمطارا ).
هز الذين حول حبوبة الشول رؤوسهم موافقين على كل ما قالت لاعتقادهم فيها .
نثرت حبوبة ام الشول حبات الودع و هي في مكانها المعتاد تحت إحدى شجرات اللالوب ،بعد أن مسحت الرمل بيدها اليسرى ( لذلك سميت الشول ) ثم بدأت في قراءة مستقبل الطفل صوص مستدلة بالأوضاع المختلفة لحبات الودع .
- سوف يكون لهذا الطفل حياة مليئة بالتحديات ، قد تصل إلى مرحلة المخاطر .سوف يعاني في حياته الكثير كما عانى هو وأمه عند الولادة .سوف يتمتع بصحة جيدة ويصير عاملا ماهرا و.سوف يكسب الكثير ويسعد الذين حوله .من يحاول أذيته فسوف يرتد إليه سهمه . كل الذين يعرفهم سوف يحاولون مساعدته لأنه لا يضمر حقدا لأحد وسوف يعيش طويلا بتوفيق الله ..

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(3)


الجد الأكبر مكوجي



بعد عدة سنوات عرفت من أنا ،وكيف ولدت في كنف عائلة مختلطة الأصول أيما اختلاط :–
أخبرت أولا عن جدي الأكبر الاسكتلندي ذو العيون الزرق والشعر الأحمر الذي سماه السودانيون مكوجي .

على بعد ثلاثة آلاف ميل من القاهرة ، على طول نهر النيل تجاه البحيرات العظمى .في أرض تسقيها الإمطار طول العام ، ارض ذات حيوانات وطيور برية .يعيش محاربون أشداء ، قوم من عدة أعراق هم من السودانيين الرافضين لدفع الضرائب .
في عام 1883 م قاد الكولونيل هكس – الضابط البريطاني المتقاعد من المستعمرة الهندية –ألف وخمسمائة مسلحا مصريا" ،إضافة إلى خمسمائة رجلا من الإنجليز والاسكتلنديين ،ضد مانعي الضرائب من الأهالي. توغل هكس - ربما عن طريق الخطأ - داخل منطقة السافنا ،في موسم جفاف وقحط شديدين، فتناولهم الأهالي وهم في حالة عطش وجوع وإعياء . فاكتملت مأساتهم ما بين جريح وقتيل وأسير وكان بين القتلى القائد هكس نفسه .
اجتمع مجلس حكماء الأهالي ليبت في مصير الأسرى . أطلق سراح المصريين ليبحثوا عن نجاتهم بأنفسهم وتبقى نحو ثلاثمائة بريطانيا من ذوي العيون الزرق والشعور الحمراء والشقراء وقد رحب بهم كمواطنين جدد وقرر تزويجهم من بنات الأهالي بعد ختانهم واعتناقهم الإسلام .
تفاصيل وجزيئات القصة المدونة والشفهية -كما سمعتها من أحياء تلك الفترة – تبرز الجانب المشرق من الصورة مما يجعلها أقرب إلى الدعاية ، أما في الغرب فإن إبادة حملة عسكرية أثناء أو قبل الدولة المهدية يعتبر ضد المزاج العام في العالم المتحضر .
اختار زعيم المنطقة أحد الشباب لابنته ، ولأنها ابنة الزعيم فقد اختار لها شابا طويلا يبلغ طوله ستة أقدام ورشيقا يبلغ وزنه تسعون كيلوجراما ، له عينان زرقاوان وشعر احمر وأسنان جميلة بيضاء ، مفتول العضلات ، لطيف المزاج يسمى ماكدونالز .
ضحك الزعيم عند ذكر الاسم قائلا :
- أنت ماكدونالز وآخر ماكيرسون وثالث ماكينجتون ! هناك عدة ماكات وسطكم ، لقد تكلمنا عن هذه الأسماء واستملحنا رنينها ولكنها ثقيلة على لساننا .أنا من ناحيتي قررت أن أدعوك باسم مكوجي ، وبما انك اعتنقت الإسلام فسوف يكون اسمك حمدنا الله مكوجي .
بدأت حياة مكوجي مع صهره الزعيم في إيجاد لغة مشتركة للتفاهم ،وسرعان ما بدأ مكوجي في التقاط كلمة من هنا وكلمة من هناك وهو باسم الوجه مما اكسبه حب واحترام الجميع .
تم تزويج مكوجي من فاطمة بنت الزعيم ذات الأربعة عشر ربيعا .ظل مكوجي طوال الأسابيع الأولى لا يدري ماذا يفعل بهذه الصبية اليافعة ذات الجسم النحيل .خلال هذه الأسابيع كانت عيون نسيبه تلاحقه في صمت ،و أخيرا صارحه بأنه من العيب ألا تظهر ثمار الزواج حتى الآن ! .بعد ظهور الحمل فوجئ مكوجي بنفور فاطمة من ممارسة الجنس وهذا ما حيره وغماه .
لاحظ الزعيم الغم البادئ على وجه مكوجي وفهم الأمر وصارح مكوجي قائلا : ( يا بني .. إن غاية ما ترجوه الزوجة من الرجل هو الحمل ، فإذا تم فإن اهتمامها بما عداه سيقل فما عليك إلا الزواج من أخرى ،فاطمة بنتي تعرف ذلك وتقدره ).
كان مكوجي يعتقد بأنه سيعيش مختلفا" بعض الشيء عن هؤلاء القوم ،ولكنه هاهو الآن يرى نفسه مدفوعا ،ليسلك دروبا كما يسلكها المواطن الأصلي .حاول أن يستدعي حياته هناك في اسكتلندا ،حيث عاش مع أبيه وأمه طوال حياته ،، نعم كانت علاقتهما لا تخلو من المنغصات ،ولكنهم كانوا قادرين دائما" على تسوية هذه الخلافات كان أبوه يقول له ضاحكا : (على الفراش .. يمكن أن تسوى كل الأمور) .
رفض مكوجي اقتراح الزعيم ، و في قمة حماسه للرفض استشهد بمقطع من الإنجيل ولكن الزعيم قاطعه قائلا : مهلا .. مهلا . لا تقل على الله ما لم يقله ، هل مر عليك إدانة أو اتهام بالزنا ضد أحد الأنبياء ممن مارس العلاقة الزوجية مع أكثر من امرأة .وعلى رأسهم إبراهيم الخليل أبو الأنبياء ؟ إن الشريعة الربانية والطبيعة البشرية تجوز ذلك فقد يبتلى الزوجان بعدم الإنجاب أو مرض الزوجة … أستمر الزعيم في خطبته مستلهما حججه من الكتب السماوية ومن فلسفة الحياة و ظل مكوجي مذهولا من براعة الشيخ في إيراد حججه وترتيب أفكاره .أخيرا لم يملك إلا الرضوخ لبراعة الحجة أولا ولأنها صادرة من الزعيم ثانيا ، وقد تكون صادفت هوى في نفسه ثالثا.
اجتمع مجلس الحكماء وبت في الأمر : على أن تقوم زوجته فاطمة باختيار الزوجة الثانية و تقوم أمها بإبلاغها بهذا القرار .
اختارت فاطمة صديقتها نفيسة ذات الأربعة عشر ربيعا زوجة ثانية لمكوجي و كان المهر بقرتين وعشرة من بنات الماعز .
لم يمكث مكوجي إلا قليلا حتى برهن على فحولته ،وهو الآن فخور وسط الأهالي بأنه زوج لزوجتين حبليين ،لا يستطيع أن يمارس رغبته مع أيٍ منهما ،حتى بعد سنة من وضع الحمل. وعلى حسب العادة يجب عليه الزواج مرة ثالثة .
دون أي تمنع !وكأنه قد استمرأ هذه العادة ،وافق مكوجي على الزواج من البنت عائشة بعد مباركة فاطمة ونفيسة ومن ورائهما مجلس الحكماء .
لو كان مكوجي لا يستطيع أن يطعم عائلته ، فإنه وعلى حسب العرف سوف يمنع من الزواج الثالث . ولن يجد من يعطيه ابنته زوجة له ،وسوف يعترض مجلس الحكماء على هذا الزواج .ولكن مكوجي كان يعد من الأثرياء .إضافة لكونه نسيب الزعيم فانه قد استطاع أن ينمي ثروته ويكتسب كل يوم مكانة جديدة في المجتمع حتى وصل إلى عضوية مجلس الحكماء بالإضافة لإمامته للصلاة .
أهدت فاطمة لمكوجي باكورة إنتاجها ابن ذكرا سمي خالد .وهذا يعد من المناسبات السعيدة عندما يكون المولود البكر ذكرا فهو (جمل الشيل ) و(حامل اسم أبيه ) و ( غطاء لإخوانه ) .خوفا من العين ، أعدت لخالد عددا من الاحجبة والتمائم – وسوف يأكل طعامه بعيدا عن أعين الغرباء وقد يلبس ملابس البنات للسبب نفسه .إما الزوجة الثانية نفيسة فقد أنجبت له بنتا سميت موزة .
مضت الحياة سعيدة بمكوجي مع عائلته ظانا انه استطاع أن يتخطى كل العقبات وليس هناك ما يمنعه أن يتواءم مع مجتمعه الجديد ذو الثقافة الإفريقية … حتى جاء ذلك اليوم الذي أخبرته فيه زوجته نفيسة بوجوب خفاض البنت موزة ؛ انتفض كالملدوغ ،تزلزل كيانه زلزالا عظيما واظلمت الدنيا في عينيه .صرخ مستحضرا ثقافته السلتية بقوة … لا ..لا إلا هذا .. لن ارضخ .. لن اقدم ابنتي ضحية لهذه العادة البربرية .. لقد رأيت بعيني معاناة زوجَتيَّ في الفراش وعند الولادة .
عاش مكوجي في محنة واختبار حقيقيين . شعر مكوجي بتفهم الزعيم وبعض أعضاء مجلس الحكماء ولكن الزعيم نفسه مع تفهمه لن يستطيع الوقوف في وجه هذه العادات المتأصلة .
إنها من اصعب أيام حياة هذا الرجل ، لقد عجز أن يحمي فلذة كبده من هذا التشويه القاسي ، ما أصعب الشعور بالعجز والضعف .
أخذت خطوات مكوجي تبتعد من القرية ،هربا من سماع صراخ ابنته .وعندما خلا إلى نفسه فاض به الحنين الى وطنه وعائلته وأصدقائه والضباب والرياح الباردة والبحر . وأخذت الدموع تنحدر على خديه ولكنه سرعان ما كفكف وحمد الله إن أحدا من أهل القرية لم يره لأن البكاء هنا للنساء فقط .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
عادة ما يستغرق وصول الأخبار من أم درمان- عاصمة الدولة المهدية - إلى ود مدني أسبوعا كاملا ويتلقطها الناس هنا من أفواه المسافرين .
في أحد أيام عام 1885 م وصل أحد أنصار المهدي على ظهر جمل ونزل ضيفا" على مكوجي وكما جرت العادة لا بد للضيف أن يحكي لمضيفه أخبار رحلته ، البلاد التي قدم منها و التي مر بها .تحلق أعضاء مجلس الأعيان بالضيف في منزل مكوجي لسماع الأخبار .. وبدأ الضيف يحكي: (أرسلت الحكومة البريطانية شخصا يدعى شارلس جورج غردون ليكون حاكما عاما على السودان ، نصحه مهدينا إلى التسليم والإيمان بالمهدية ولكنه رفض .مما جعلنا نحاصر الخرطوم .قطعنا أسلاك التليفون والتلغراف بين الخرطوم والقاهرة واحكمنا الحصار تماما . هذا الغردون العنيد ومعه ثمانية آلاف جندي شبه عاري إضافة لسكان المدينة البالغ عددهم عشرون ألف نسمة يعانون من مجاعة ساحقة ، فقد فرغت مستودعات الحبوب وأي حيوان يؤكل لحمه فقد أكل وجثث الموتى المتعفنة ملقاة على قارعة الطريق ..لا تجد من يسترها .)
في عام 1884م طالب الشعب البريطاني الملكة فكتوريا بضرورة إرسال مساعدات عاجلة لغردون ، فكافح الجنرال هيربيرت استوارت في فك الحصار عن الخرطوم من غير جدوى .فقد تم أٍسره مع بعض جنوده بواسطة الأنصار .ثم ارسل الجنرال ويلسي مع ثمانمائة بارجة حربية محملة بالجنود البريطانيين والمصريين ولكنه وصل بعد فوات الأوان لان الأنصار قد اقتحموا الخرطوم كالإعصار وقتلوا غردون خلافا لوصية المهدي واجبر الناجون على اعتناق الإسلام وأطلقوا ليسعوا في الأرض من اجل رزقهم .
وفي نفس العام (1884) قررت بريطانيا إخلاء السودان وصار المهدي حاكما مطلقا لرقعة تزيد مساحتها عن أوربا الغربية .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
ضربت حزام السافنا في السودان والحبشة موجة من الجفاف ،امتدت عدة سنوات. فأهلكت الزرع والضرع فضاقت فسحة الأمل واتسعت رقعة المقابر . أتى الناس على كل مخزونهم من الحبوب ونفقت حيواناتهم واصبح الناس لا يقوون على المشي من الضعف والهزال. وانتشرت الأوبئة الفتاكة وقد تخلل هذه الفترة موسمين مطيرين ولكن الجراد والآفات الزراعية الأخرى قضت على الزرع وقتلت الفرحة .
عند فقدان الأمل -وبدافع غريزة البقاء وحفظ النوع -زحف الكثيرون على طول النيل الأزرق في اتجاه سنجة والرصيرص ، يملؤهم اليأس وكأنهم يمشون وراء السراب .وكان من بين الزاحفين مكوجي وعائلته المكونة من زوجاته الثلاث وأطفاله الأربعة الباقين على قيد الحياة - من مجموع أطفاله البالغ عددهم خمسة عشر طفلا .
حتى عام 1894 م- .لم يكن مكوجي يتخيل يوما من الأيام انه سوف يشتري طعاما من أحد دعك من أن يبحث عنه ولا يجده .
ولكن .. ماذا حدث للأرض والناس ؟
في عام 1885م صار الخليفة عبد الله التعايشي حاكما للسودان خلفا للمهدي ، ولتكوين جيش موالي ولسلامته الشخصية استدعى أهله قبائل غرب السودان للعيش معه في أم درمان .وأعلن الجهاد إكمالا لرسالة المهدي ،متناسيا حاجة الناس والجند للإنتاج من اجل طعامهم .لذلك ولأسباب اقتصادية واجتماعية أخرى سقطت الدولة المهدية بسهولة كما يسقط صفق الشجر في موسم الخريف .
قاد كتشنر جيشه لاستعادة السودان في معركة كرري في الثاني سبتمبر عام 1898م فخلف الدراويش السذج { هكذا أوردها الكاتب –المترجم} آلاف القتلى والجرحى والأسرى وخسر كتشنر ثمانية وأربعون جنديا" ما بين قتيل وجريح وقد وصفها رئيس الوزراء الشاب وينستون تشرشل حينذاك بالانتصار العظيم للحضارة

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
كثيرا ما أحاول أن أتخيل أفكار الجد مكوجي :عندما نظر هو وعائلته إلى فرقة القرب الاسكتلندية والنافخين الجبليين داخل تنور اتهم القصيرة وهم يزرعون أم درمان مشيا . لقد جذب صوت الموسيقى الناس من كل حدب وصوب .ليروا شيئا غريبا يبعث مناخا جديدا في مكان تعس .
في صباح اليوم التالي ذهب مكوجي إلى معسكر الجيش البريطاني ،حيث قابل هناك ضابطا اسكتلنديا وفي نبرة اسكتلندية صميمة قال مكوجي : ( يا سيدي .. أنا اندرو ماكدونالز اصلي من كروفتامي ، أنا وعائلتي نعاني الجوع ). ثم أضاف في تلعثم خجل : ( كحال كل الناس ..فهل نجد عندكم بعض الطعام والملابس القديمة).همس الضابط الغازي في استغراب : ( يا الهي !! هل أرى عفريتا؟ ) .ولثوان معدودة بدأت كأنها دهرا نظر كل رجل للآخر في اندهاش تام .بدأ هذا الاندهاش والصمت كأنه انتقل إلى كل ما يحيط بهم حتى ألسنتهم امتدت ثم لجمت أمام وجوههم ، وحدت بينهم الدهشة مع اختلاف هيئتهم الخارجية فالضابط تجري الدماء في عروقه أما مكوجي فلا يختلف عن الهياكل الآدمية التي تزحف في أزقة أم درمان .
كُسر الصمت عندما مد الضابط بلفافة من التبغ إلى مكوجي ،الذي أسرع إلى دسها في طيّات ما كان يعرف بثيابه .
- ( كم عددكم ؟ ) سأل الضابط.
- (أنا وزوجاتي الثلاث وأطفالي الأربعة بالإضافة إلى سبعة من المعارف ) أجاب مكوجي .
أحضر الضابط طردا مليئا بالطعام ، وصرة ملابس مستعملة خلعت من ضحايا المعركة وما زالت روائح الدم الآدمي تفوح منها . إضافة إلى ذلك وضع أمامه طبقا مليئا بالخضار واللحم مع الخبز ، ليذوق مكوجي الطعام الاسكتلندي لأول مرة منذ عشرين عاما . لم يمكث مكوجي بعد الأكل إلا دقائق معدودة ، حتى استغرق في النوم كأنه قد سهر دهرا . أيقظ بعد أربعة ساعات ليجد أمامه إبريقا من الشاي مع الحليب ، وقد ذهل الضابط من كمية السكر التي طلبها مكوجي مع كوب الشاي الواحد . وكذلك قدم له البسكويت الذي نسي طعمه . لم يمكث مكوجي بعد الشاي إلا قليلا حتى تحلق حوله آخرون من عسكريين ومدنيين وبدأ مكوجي يحكي لهم قصته . قبل غروب شمس ذلك اليوم رجع مكوجي لعائلته رجوع المنتصرين حاملا معه ما لم يخطر على عقل أحد منهم ، فأكلوا ولبسوا وشكروا الله ولم ينسوا أن يثنوا على رجلهم الأحمر مكوجي .
في اليوم التالي صحب مكوجي عشيرته وذهب للمعسكر ،حيث أطعموا .وعرض على مكوجي العودة إلى بلاده ولكنه فضل البقاء مع عائلته قائلا : (لم يتبق لي في الحياة إلا أياما معدودة .حتى لو رغبت في السفر فصحتي لا تسمح ) .
منح مكوجي ثورا ومحراثا واستقطعت له ارض على النيل الأزرق بالقرب من مدينة ود مدني وقد قدر الله أن يرحل مكوجي من هذه الدنيا بعد شهر من هذا

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(4)


خالد و خالدة


جدي خالد مكوجي -رغم صغر سنه -فقد عركته الأيام الصعبة والتجارب المرة .تسلم زمام قيادة العائلة بعد والده وهو مسلح بهذه التجارب وبخطاب تعريف من قائد الحامية للإدارة الاستعمارية لتسهيل معاملاته . لقد زوِج خالد قبل وفاة والده من فتاة صغيرة وجدت هائمة على وجهها في أزقة أم درمان .وقد أطلقوا عليها اسم خالدة . كغيرها من ناس ذلك الزمان فقد كانت تشكو من سوء التغذية .كان شعرها القليل القذر يقف كأنه أعواد قزَت على رأسها . الوجه قذر لم يبلله ماء إلا العرق والدموع ، الجسم عار إلا من خرق تستر أجزاء قد سترتها أمنا حواء من قبل بورق التوت . لا أحد يعرف لها أهلا ولا أقارب ، آواها مكوجي وفاطمة كأنهم يأوون معزة ضالة .
استطاع خالد مكوجي وبمساعدة الثور والمحراث وخطاب التوصية إن يجتاز كثيرا" من المحن والصعاب التي فتكت بالناس في ذلك العصر .
بعد أن مكث خالد مع خالدة عامين ولم ينجب طفلا ،وبدأت نساء العائلة بما فيهم خالدة نفسها في البحث عن زوجة ثانية له. وبعد البحث عثرت خالدة على فتاة في سنها لا جذور لها تدعى الشول وقد ربطت أواصر الصداقة بين خالدة و الشول طوال حياتهما وكما سنرى في الفصول القادمة فقد لعبت الشول دورا هاما في حياة الراوي ..
أقلق التأخر في الإنجاب خالد مما جعله يبدي قلقه هذا للمفتش الإنجليزي ،الذي اخضع خالد لفحص بواسطة طبيب في الجيش البريطاني .بين الفحص إن خالد مصاب بمرض من الأمراض التناسلية مما أخضعه هو وزوجتيه لفترة علاجية .وبعد عام من بداية العلاج رزق خالد وخالدة بنتهما وردة وبعد ذلك صارت تهدي له مولودا كل عامين ولكن لم يعش منهم سوى وردة وجاد الرب ، أمَا الشول فقد أنجبت له ابنا واحدا يسمى لبيب وعن لبيب هذا سوف نسمع الكثير في الفصول القادمة.
بمعيار ذلك الزمان والمكان يعتبر خالد من الأثرياء وكان هذا من العوامل التي ساعدت في نمو مكانته الاجتماعية إضافة لعلاقته مع الإدارة الإنجليزية . فالتف الناس حول خالد طلبا للمشورة والمساعدة .
في صباح إحدى الأيام وجدت فاطمة أم خالد ميتة في سريرها وفي الأسبوع التالي فتكت الملاريا بأخته موزة وهذا ما ادخل خالد في دوامة من الحزن.وعادت إلى ذهنه أيام المحن والصعاب التي عاناها مع والده في السابق. وبينما هو في قمة حزنه واسفه إذا بالملاريا اللعينة تعض في جسده .التف حوله الناس وزاره المفتش الإنجليزي بصحبة طبيب المنطقة الإنجليزي ولكن المنية أنشبت أظفارها وقدر له أن يلحق بوالدته بعد شهرين ليدفن بالقرب من والده في جنازة لم تشهد مدينة ود مدني مثيلا لها من قبل .
كانت وفاة خالد في نهاية عام 1912م وبوفاته انهد ذلك البيت الكبير الى وحدة تعيسة من الأيتام والأرامل تتكون من اثني عشر أنثى وولدين .
في عام 1914م شهد إقليم السافنا فترة جفاف أخرى أثرت على آلاف السكان وهو ما اقلق السلطة الاستعمارية فقامت برفع الضرائب وتوزيع الغلال على السكان . رغم الحالة المزرية للسكان فقد شهدت المنطقة موجات من الهجرات الجماعية من الكنغو وبلاد غرب أفريقيا الأخرى ، لا زال هناك في السودان طعاما لمن يملكون المال ولكن القليل منهم يملكون وباستمرار ارتفاع الأسعار صار حتى الذي يملك مالا يعد من الجائعين .
لم يتبق لعشيرة مكوجي حيلة للعيش غير أن تلجا للمفتش الإنجليزي متسلحة بخطاب التعريف القديم . منحهم المفتش الإنجليزي مبلغا ضئيلا من المال وطلب منهم الحضور إلى المركز في صباح الغد ، ليعطيهم بعض الملابس ويقدمهم للبعثة التبشيرية بقيادة مستر ومسز هورن التي وعدت بوضع البنات الأربعة في مدرسة الراهبات بأم درمان - أول مدرسة للبنات في تاريخ السودان -.وكذلك الاعتناء ببقية أفراد العائلة وقد قابلت عائلة خالد هذا الإحسان بالفرح حتى البكاء وتقبيل أيادي محسنيهم .بعد فترة قليلة قبل الأولاد بكلية غردون التذكارية التي كانت تعادل المرحلة المتوسطة في ذلك العهد .حيث يدرس فيها اللغتين العربية والإنجليزية والرياضيات والعلوم العامة .بعد خمس سنوات التحق لبيب وجاد الرب كمترجمين بمؤسسات الحكومة حيث عمل جاد الرب بإدارة مشروع الجزيرة . بعد أربعة سنوات تحولت البنات إلى آنسات لطيفات يجدن القراءة والكتابة باللغتين العربية والإنجليزية وتعلمن بعض المهارات المنزلية مثل الحياكة وعمل الخبز والكيك والبسكويت ، وبما أنهن قد نُصِّرنَ فقد تعلمن إنشاد التراتيل والعزف على البيانو.
تبلغ وردة الآن من العمر ستة عشر ربيعا ، وقد رتبت لها البعثة التبشيرية مع خالدة و الشول لتزوج لأيوب وهو شاب من الأقباط المواليد في القضارف ويعمل في سكك حديد السودان وهو يعول ثلاثة أشخاص من عائلته التي لها بعض المعرفة بعائلة مكوجي .
في حفل بهيج بساحة الكنيسة حضره رهط من المبشرين والضباط الإنجليز وبعض السودانيين الذين لا زالوا يذكرون مكوجي وعشيرته ، تم زواج وردة وأيوب والدي الراوي .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(5)


أيوب و وردة


يبلغ أيوب من العمر ثلاثون عاما عند زواجه . كان رجلا طويلا نحيلا ولكنه قويا ،لين الجانب كريما مسالما.كان قنوعا – أقصى أمانيه المادية أن يكون له دخل يمكنه من شراء زجاجة كاملة من الويسكي ماركة جون ووكر _كان غير متدين وليس له أصدقاء ويخشى رؤساءه في العمل .كان اباه وجده من قادة المجتمع القبطي ، لهم مساهماتهم في بناء كنيسة صغيرة محاطة بثلاث أشجار دوم بالقرب من مكان الكنيسة القبطية الحالية على النيل الأزرق.في عام 1883 م كان والداه ضمن ثلاثة آلاف آخرين قد هربوا إلى أسوان واسنا والأقصر . انجب والداه أربعة عشر طفلا ،لم يبق منهم على قيد الحياة غير أيوب وشقيقته مريم . كان أيوب آخر العنقود وقد ولد في مكان ما بين عطبرة و إسناء ما بين عامي 1884-1888م. فصل من كلية غردون لتدني مستواه الدراسي .
كنت يومها ابن ستة سنوات(1924م) عندما خلع جميع أسنانه بكماشة دون استعمال أي مخدر وذلك لعلاج مرض الازمة الذي يلازمه وبقيت الازمة وخسر أسنانه.
وردة في ذلك الوقت كانت تبلغ من العمر ستة عشر ربيعا . كانت بيضاء ذات شعر أسود ، شديدة التدين ،فقد أخذت ديانتها الجديدة بإخلاص . حبوبة خالدة وحبوبة الشول بقيتا على إسلامهما ولم يجبرا على تغييره ، بل إن الإرسالية كانت تشجعهما على صيام رمضان وتجلب لهما الأضحية في الأعياد .كان لوردة صديقان هما مستر ومسز هورن .كانت أما حنونا وزوجة مخلصة.

**


اخذ أيوب زوجته ومعها الحبوبات وبقية أفراد العائلة من الإرسالية إلى بيتهم المهجور في ود مدني .أمَا أخوات وردة الأصغر ملكة ،سارة وعائدة فقد بقين في الإرسالية .
المنزل الذي بناه خالد على أنقاض منزل مكوجي على نمط المنازل السودانية في منطقة السافنا يحتوي على أربعة غرف مع المنافع إضافة لملحق الضيوف وله حوش مزروب تبلغ مساحته اكثر من ألفي مترا مربعا.
بدأت الحياة تدب في البيت فقد تم شراء شاتين وعدد من الدجاج وبدأت حبوبة خالدة تصنع الكسرة وبقية الأعمال المنزلية مقسمة بين الجميع .
بعد عام واحد من الزواج أنجبت وردة شقيقي الأكبر وقد كانت كلها ولادات عسيرة لقلة العناية الصحية ولانتشار ممارسة الخفاض للأنثى (هنا يستطرد الراوي في شرح عملية الخفاض وطريقة الحبل البدائية للتوليد). فقد كانت نساء الأسر في ذلك الزمن يستنكفن من معاودة المستشفيات _ على قلتها _ وجل المعاودات من المومسات أو الجواري السابقات.

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
**

لمدة عامين سارت الحياة بأيوب وعائلته بيسر وسلام في ود مدني ، كان أيوب يسافر بالقطار شرقا حتى بورتسودان وغربا حتى الأبيض وشمالا مرورا بالخرطوم إلى حلفا . كان يغيب فترة تبلغ الأسبوعين .
في عام 1918م رجع أيوب من إحدى سفراته مهموما مغموما فقد تسلم خطابا ينذره بالاستغناء عن خدمته في مدة أقصاها شهران . كانت رد وردة التي لا تميل إلى تصديق الأخبار السيئة :
-لماذا هل ستتوقف القطارات إلى الأبد؟
- قد يقل عدد القطارات . كما تعلمين هناك عدة مئات قد فصلوا العام الماضي وجلهم من المصريين وقد عادوا إلى مصر ونحن ليس لنا شيئا هناك ، أفٍّ.. هذا كله من السياسة عديمة الجدوى والمظاهرات المعادية للإنجليز في مصر والسودان .
- لقد خفضوا راتبك ثلاث مرات خلال الثلاثة أعوام السابقة . هم يدفعون لك جنيهين في الشهر مقابل ستون ساعة عمل في الأسبوع.
- يبدوا أن المهدية ارحم ، هؤلاء الإنجليز يودون أن يخدمهم الناس دون مقابل . لقد كتبت لهم خطابا مذكرا إياهم إخلاصي في العمل وخلو سجلي من الغياب حتى في نوبات المرض .. آه يا للهول كيف يمكنني أن أتدبر أمور عائلتي !؟
- لقد نصحتك أن توفر لليوم الأسود ، نعم كان يمكننا أن نوفر شلنين أو ثلاثة كل شهر بالرغم من إن عددنا سبعة أفراد ..
ثم انفجرت باكية:

وقفت العجوزان تستمعان للأخبار السيئة في صمت .يمتلكهن شعور قاتل بأنهن اصبحن عبئا لعائلة لا تكاد تتدبر أمر معيشتها ،بالرغم من أن لهن معاشا من اسكتلندا يبلغ اثني عشر شلنا قام بتدبيره لهن مستر هورن .
لقد خيمت روح التشاؤم على كل أركان المنزل حتى ليخيل إليك إنها من كثافتها أن قد طالت زريبة الغنم و قن الدجاج .
ولما طال الصمت لملم أيوب بعضه ثم دخل غرفة نومه .حيث لحقت به وردة وهي تحمل إناء" به زيت مطيَب لتمسح له جسمه وتخفف عنه بكلام متفائل .
بدأت الحبوبات بتهيئة مكان الجبنة (القهوة) ودعي أيوب من مخدعه لينضم إليهن .عندما باشرت حبوبة الشول رمي الودع ( حبات صغيرة من الصدف ترمى على الأرض لقراءة الطالع – المترجم ) صمت الجميع في اهتمام وترقب. قطعت حبوبة الصمت بزغرودة فرح معلنة أن أيوب سوف يعاد تعيينه ولكنه سوف ينقل الى مكان بعيد !! هلل الجميع بالفرح وتبادلوا التهاني مع أيوب لأنهم يؤمنون بتنبؤات حبوبة إيمانا قاطعا .
حبوبة الشول بالرغم من تقدمها في السن لكنها كانت امرأة نشطة ،تتمتع بحاسة ممتازة للسمع والملاحظة ، تسير من اول ود مدني الى آخرها في ساعة وتعود بنفس الطريق جامعة معها أخبار المدينة ،لتكون موضوع الونسة في قعدة الجبنة .وقد عمت شهرتها المدينة بصدق قراءتها للطالع مما جلب لها دخلا أسبوعيا يبلغ الشلنين .

**

وكما تنبأت الحبوبة ، فقد أعيد الوالد إلى وظيفته .ولدهشتنا فقد تم نقله إلى الشلال في صعيد مصر في وظيفة أمين مستودع .سافر الوالد لوحده على أن نلحق به بعد تجهيز المقر .سافر الوالد إلى الخرطوم ومنها استغل قطار وادي حلفا ومن هناك الى الشلال عبر الباخرة النيلية .تبلغ الرحلة في ذلك الوقت ستة أيام لقطع مسافة ألف ميلا .
بعد شهرين التحقنا به ، وقد صحبنا في رحلتنا الخال جاد الرب. كما التحقت بنا والدة أيوب الجدة ايرين . أول يوم من وصولنا صادف منح الوالد علاوة شهرية قدرها عشر شلنات واخذ أيوب يقفز من الفرح وهو يقبلني قائلا : يا لك من ولد ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
يبلغ عدد سكان الشلال حوالي مائتين نسمة ويوجد بها دكانين ومقهى .السفر من الشلال إلى أسوان مجانا على قطار اكسبريس السودان الذي يربط الشلال بالقاهرة مرتين في الأسبوع .لقد قام كتشنر بإعادة بناء هذا الخط في عام 1893م والخط السابق قد بني عام 1870م بواسطة الحكومة المصرية .أهم شخصية في الشلال قاطبة هو المدير الإنجليزي الذي يعيش مع عائلته في منزل فخم ذو حديقة وارفة في مكان منعزل بعيدا عن بقية المنازل. وهم لا يزورون ولا يزارون .
يعيشون الشلاليون في حوالي عشرين بيتا من الآجر مسقوفة بالعشب اليابس وهي باردة في الصيف دافئة في الشتاء .بعض الشلاليين يعيشون في الكهوف . هناك حوالي عشر عائلات سودانية تسكن في قطاطي من الطوب الأحمر (القطية بيت دائري الشكل ذو سقف مخروطي – المترجم ) .لقد اشترينا أثاثنا المتواضع من أسوان . كانت منازل هيئة السكة حديد مسقوفة بالحديد الصلب مما يجعلها حارة في الصيف باردة في الشتاء ، مما جعل الوالد يعدل في السقف بأن لبّسه من اسفل بالعشب اليابس بتكلفة قدرها ثلاثة جنيهات للغرفتين ، وقام بالكتابة إلى المدير الإنجليزي بواسطة رئيسه المباشر لاسترداد المبلغ .ولدهشة الجميع فقد وافق المدير الإنجليزي على هذا الطلب.و أمر أن تعدل بقية المنازل العشر على هذا النسق .للتعبير عن شكرهم قرر الولد وزملاؤه أن يقدموا له هدية عبارة عن قفص من الدجاج .ولكن المدير رفضها قائلا لمندوبهم : ( إنني اقدر شعوركم ولكن هديتكم مرفوضة .حتى لا تكون هناك شبهة للرشوة .أرجو ألا يتكرر هذا مستقبلا ) . لقد حكى وزملاؤه هذه القصة مرات ومرات بل وصارت تحكى في الشلال وأسوان عدة شهور .
كانت الشلال قرية نظيفة ،قليلة الذباب بصورة ملحوظة ،ذلك لأنها تقع ضمن دائرة الإدارة الإنجليزية ، بعيدا عن الحكومة المصرية . قضيت خمسة سنوات من عمري في هذه المدينة .والدتي وردة رغم شعورها بالوحدة هنا فأنها تفضل الشلال على أسوان ، وتبغض بلدة اسنا الواقعة على بعد ستين ميلا شمالا حيث تعيش عمتي و عائلتها بعد طردهم من السودان .والدتي كإفريقية قحة تكره الأماكن المزدحمة ولكن والدي يحب المدن .
من مدينة الشلال يمكنك أن ترى و تستوعب السياسة الإنجليزية تجاه وجود المصريين بالسودان .منها تجنيد الإدارة البريطانية كتائب العاملين المصريين للعمل الإلزامي في السودان بمقابل شلنا واحد للعمل عشر ساعات في اليوم ، في خطوط السكة حديد ومشروع الجزيرة .كان شغف المصريين بالتنظير السياسي أعطى الإنجليز سببا لفصل السودان عن مصر خلال ثورة 1919م المصرية. الإبعادات الأولى للمصريين من السودان خلال عامي 1917 و 1925 لم تلفت نظر المراقبين اعتقادا منهم أنها عمالة زائدة .لكنه كان ضمن خطة سرية لإبعاد المصريين و إحلال السودانيين . ازدادت وتيرة الإبعادات بعد اغتيال سردار الجيش الإنجليزي بواسطة أحد هؤلاء المبعدين ، فقد ابعد الجيش المصري بأكمله مع مجموعة الموظفين المصريين بالرغم أن السودان يحكم على حساب دافع الضرائب المصري .ففي الفترة بين عامي 1882م و1926 أنفقت مصر اكثر من اثنين وخمسون مليون جنيه على السودان البريطاني

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
توفي شقيقي الأكبر في عيد الكريسماس في عام 1919م بسبب لدغة ثعبان ، كانت وفاته مأساة وفاجعة للأسرة .مكثت أمي بعد ولادتي خمسة سنين دون أن تنجب ، وهذا ما جعل الأسرة شديدة القلق علي خاصة إذا مرضت أو تأخرت عودتي إلى البيت . كنت اذهب للجبال وازور أصدقائي من الأطفال وعائلاتهم في الكهوف .وقد لاحظ والدي منذ صغري عزيمتي التي لا تفتر ووفائي وحبي لأصدقائي .كنت أمكث معهم طوال اليوم ،حتى يأتي أحد الوالدين لأخذي إلى البيت .من هواياتي الأخرى اصطياد الحشرات ! وقد كاد أن يغمى على والدتي عندما دخلت عليهم يوما وأنا احمل عقربا سامة في يدي . في عامي السادس حبلت أمي وعمَ الخبر المفرح أنحاء الشلال .رغبت أمي أن يكون الوضع في المنزل الكبير بود مدني (منزل مكوجي 1884م ) حيث ولدنا أنا وهي ،وكانت الجدة ايرين ترغب أن يكون الوضع في إسنا ولكن أمي وردة رفضت بشدة لكراهيتها لاسنا ، ولكنها تحججت بأنها لم تر والدتها منذ خمسة سنوات . تطور الجدال بين أمي وجدتي حتى تدخل أبي وصفع أمي التي ما إن بدأت في الصراخ والعويل ،حتى امتلأ المنزل بالشلاليين من الرجال والنساء .عمّ خبر الخلاف كل الشلال وتدخل الأجاويد وعلى رأسهم دهب الشلالي الذي يحفظ القرآن ويعرف أجزاء من الإنجيل . ولتأثير دهب على الآخرين فقد رجح الأجاويد كفة وردة في أن تذهب وتضع مولودها في ودمدني .وبعد شهر من مجلس الأجاويد قمنا أنا و أمي برحلة العودة إلى ود مدني بصحبة الخال جاد الرب الذي جاء خصيصا ليصطحبنا . بعد ثلاثة شهور وضعت وردة أخي رمسيس الذي عمد في اليوم السابع بواسطة القس هورن – الذي نقل ليعمل بالإرسالية بود مدني _.بعد عدة شهور جاءنا أيوب في إجازته ومعه أخبار سارة ، وهي نقله إلى عطبرة وزيادة راتبه عشر شلنات أخرى . في ذلك الوقت (عام1926 م) كان راتبه خمسة جنيهات يدفع منها سبعة شلنات للإيجار ( يشمل الماء وتفريغ المراحيض ) فاتورة الكهرباء تكلف شلنين وخمسة شلنات تخصم للمعاش وكذلك يرسل منها خمسة عشر شلنا لوالدته في إسنا .
باع أيوب بعض متاعنا في الشلال وشحن الباقي إلى عطبرة وقام بإكمال التأثيث من ورشة السكة حديد بأقساط شهرية .
بعد اكتمال التأثيث أرسل لنا لنلتحق به في (السرايا ) كما أطلق على بيته الحكومي الصغير الأنيق في عطبرة . قد عمَ الأسرة جوٌ من السرور والتفاؤل ، في هذا الجو قرر أيوب أن يختن أنجاله في احتفال بهيج قدم فيه الأكل والمشروبات بأنواعها ( وقد برع أيوب في صناعة خمرته بنفسه ) .
أول من ابتكر ختان الذكور هم الفراعنة القدماء قبل عهد سيدنا موسى ولذلك على كل الأقباط ختان أنجالهم ولا يسمح بالزواج من نساء الأقباط لغير المختونين ولا زالت هذه العادة تمارس في المجتمع القبطي
.

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
في عطبرة أرسلت إلى مدرسة الراهبات الكاثوليكية الرومانية التي تبعد مسيرة عشرة دقائق من منزلنا وقد كانت من أسعد أيام حياتي حيث الزهور والأشجار الوارفة وتماثيل السيدة مريم العذراء والقديسين وصليبا كبيرا عليه مجسم المسيح مصلوبا . كنت لا أفتر من السؤال في ذلك الزمن للراهبة الشابة التي كانت مسؤولة عن صفنا ، مثل :
- يا حرام لماذا صلب السيد المسيح ؟ عندما شكني دبوس صغير فإنني بكيت من الألم فكيف تحمل السيد المسيح هذا المسمار الكبير ؟

- الناس الأشرار يستطيعون عمل كثيرٍ من الشر والله سوف يغضب عليهم ويرسلهم إلى جهنم .

-هؤلاء الأشرار سوف يحرقون بالنار . لقد شويت جرادة حية ثم آكلتها فهل يأكل
الرب هؤلاء الأشرار .؟

وبعد تردد ،ردت :

-لا .. فإن الرب لا يأكل شيئا ، لأنه لا يحتاج للطعام مثل المخلوقات الأخرى . والآن كفي كلاما و اكمل رسمك.

وفي مرات أخرى تكون الأسئلة مثل :
-لماذا لا يملك أخي رمسيس أجنحة كالملائكة ووالدتي تناديه ب يا ملاكي العزيز .
أو مثل :
-لماذا ليس لديك أطفال مثل أمي أو مثل السيدة العذراء .
وكنت أقول لها دائما :
-أنت جميلة وتفوح منك رائحة حلوة دعيني أشم رائحتك.
ثم اقفز و أتعلق برقبتها وأنا أدس انفي في أجزاء جسمها
كنت دائما العب مع البنات بل واقبلهم كما يقبل أبي أمي .وكانت من أمتع الأيام يوم زيارة حديقة الحيوان في حوش الأب تومازينو فقد كانت تحتوي على أنواع من القردة وتمساحين صغيرين وغزلان وأنواع من لأسماك و الحمام والطيور الأخرى . لقد عُلِّمنا منذ صغرنا حب الحيوانات وأنها تشعر بالألم كما نشعر نحن . كما تعلمنا مبادئ العزف على البيانو والأرغن إضافة للتراتيل الكنسية . أحضر والدي يوما جروا سماه جون ووكر ويسكي فلقد كان شغلي الشاغل ، كنت أنظفه وأطعمه بل وأقبله في فمه في غفلة من الأهل

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(6)

الامتحانات والتماسيح – 1930م

بعد عامين في مدرسة الراهبات . و كان عمري حينئذ تسع سنوات (1927م) ، نقلت إلى
مدرسة الأقباط الأولية لأقضي بها ثلاثة سنوات ،ثم أجلس بعدها امتحان الشهادة الابتدائية بالخرطوم ،فإذا نجحت فالوالد مخطط أن يرسلني إلى مصر للالتحاق بالمدارس الثانوية – التي لا توجد في السودان في ذلك الوقت – وبعدها لجامعة فؤاد الأول لدراسة الطب . ولكن كان رأي والدتي أن أدرس في كلية غردون التذكارية ( مدرسة ثانوية ذات مستوى ممتاز) .
قبل ثلاثة أيام من الامتحانات حجز لنا بالقطار المتوجه إلى الخرطوم عربة من الدرجة الرابعة بصحبة أحد المدرسين .حيث نزلنا بفندق رويال الواقع على تقاطع شارع فكتوريا (القصر الآن) وشارع كتشنر (الجمهورية الآن) .بالرغم أن الكثيرين منا لهم أقرباء في الخرطوم ولكنا نزلنا كلنا في ذلك الفندق حتى نتمكن من المراجعة الجماعية بإشراف نجيب أفندي الأستاذ المرافق . كان على كل طالب أن يمتحن في جلسة تمتد ساعتين في سبعة مواد هي الإنشاء العربية، الأدب العربي، الإملاء ، القواعد والنحو ، التعبير الإنجليزي ،الترجمة ، الرياضيات ، المعلومات العامة والرسم .إضافة إلى امتحانين شفهيين.يقتضي النظام أن ينجح التلميذ في جميع المواد من أوَل مرة .
الخرطوم في ذلك الوقت كانت عبارة عن حديقة جميلة . خططها اللورد غردون في شكل العلم البريطاني . الشوارع نظيفة ومتسعة -يبلغ عرضها خمسون مترا أحيانا"- تصطف على جانبيها الأشجار الوارفة . شارع فكتوريا أجملها على الإطلاق ، يبدأ من قصر الحاكم العام ( القصر الجمهوري الآن) حيث التمثال البرونزي لغردون راكبا جملا وهو يشير ناحية الجنوب .تحف حول التمثال حديقة غناء ( وهو ما يعرف الآن بحديقة الشهداء).يمتد هذا الشارع إلى محطة السكة حديد.كانت هناك ثلاثة مباني فقط جنوب مدارس كمبوني ،أولها معمل استاك الطبي والثاني مدرسة كتشنر الطبية والثالث مستشفى الخرطوم الملكي .المبنيين الأولين بنيا على نفقة المحسن العراقي أحمد بيه هاشم البغدادي ،أما المستشفى فقد بنيت على نفقة الحكومة المصرية .كل المدينة جميلة وبهية وخضراء مثل الحي السكني الإنجليزي بعطبرة ( حي السودنة الآن ) .
أخذنا مدرسنا لنرى ملتقى النيلين الأزرق والأبيض كما قمنا بزيارة قبة المهدي وبيت الخليفة بأم درمان مستقلين الترام مقابل قرشٍ لكل راكب .سرنا في شوارع أم درمان إلى سوقها وهي كذلك مدينة نظيفة ولكن عدد أشجارها أقلَ من الخرطوم و عطبرة .
بعد شهر من نهاية الامتحان وصلت النتائج من القاهرة .قد حزت على الدرجة العليا في كل المواد ما عدا قواعد اللغة العربية التي رسبت فيها بمقدار درجتين، مما يتوجب على أن اجلس لامتحان ملحق في جميع المواد. مرة ثانية أعدنا رحلتنا إلى الخرطوم ومعي اثني عشر تلميذا ولكن روحنا المعنوية لم تكن مثل ما كانت في الرحلة الأولى .بعد شهر وصلت النتيجة وكنت أيضا من الخائبين .
لم استطع تحمل الصدمة خاصة بعدما علمت انه لا سبيل لمواصلة دراستي غير أن أعيد السنة الدراسية .رغم محاولة والدي والمدرسين التخفيف عني ولكن عقلي لم يستطيع أن يستوعب إعادة عام بأكمله بسبب مادة سخيفة مثل قواعد اللغة العربية .
من ضمن أصدقائي في المدرسة والذين يتوجب عليهم إعادة العام الدراسي عزيز ومجيد ووهيب ، لقد قررت مع أصدقائي الخائبين أن نواصل التدرب على السباحة على النيل مدفوعين لتخفيف هذا الإحباط،. اخترنا منطقة المقرن مكان التقاء نهر عطبرة مع النيل الرئيسي ،حيث التيار القوي وخاصة في شهر أغسطس ذروة موسم الفيضان.
في أحد الأيام و أثناء انهماكنا في السباحة ، إذ بأصوات من إحدى المراكب تصرخ فينا وتدعونا أن نحترس من التمساح . التفت ورائي ورأيت التمساح عيانا بيانا .تركت نفسي تندفع شمالا مع التيار القوي وسبحت بكل ما أملك وما لا أملك من قوى حتى وجدت نفسي قرب الشاطئ حيث لمحت شجرة ،لا أدري من أين جاءتني كل هذه القوة لأقفز وأتعلَق في إحدى فروعها .
لقد وصلت اليابسة وأنا غير مصدق..! هل أنا حي ؟ أم ميت ؟ أو إني أحلم ؟ على اليابسة أفرغت جوفي من الماء وأنا في غاية الإعياء . رقدت على الرمل لمدة ساعة ثم بدأت المشي عاريا" نحو المدينة . تلفت حولي وعلمت أنني على بعد أربعة أو خمسة كيلومترات شمال عطبرة بالقرب من جنينة كركور .فجاءة جال بخاطري مصير أصدقائي يا ترى ماذا فعل بهم التمساح ؟ بعد مسيرة ميلين انشقت الأرض عن إبراهيم الكناري بائع اللبن .تشهد إبراهيم وتحوقل عندما رآني ورأي حالتي ا .شعرت بالخجل من عريِ بعد أن رأيت إبراهيم ،فهو أول إنسان أقابله . قذف لي إبراهيم بثوب كلون الأرض قائلا : ( استر نفسك يا حلبي يا شيطان واركب خلفي ).في الطريق حكيت لإبراهيم حكايتي طالبا منه حمايتي من غضب الوالد .قال إبراهيم غاضبا: (يالك من حلبي إبليس ،هل تعتقد أن أيوب يصرف عليك كل هذه السنين ثم تذهب وتعرض نفسك للخطر قبل أن ترد دَينَك لن أحميك منه وإذا لم يضربك ، سوف أضربك بنفسي ).
لقد وصلت أخبار مغامراتنا لعائلاتنا والشرطة . عندما دخلت البيت بصحبة إبراهيم ،وجدناه مليئا بالنساء -لأن الرجال والصبيان لقد ذهبوا للمقرن – موقع الحدث . دخلت بيتنا وأنا غير مصدق . عندما رأتني مجموعة النسوة انفجرن بزغاريد الفرح ، ولكن يبدو أن لأمي أسلوبا" آخر للتعبير عن فرحتها ! تقدمت نحوي وهي تنظر إليَ خلف غيمة من الدموع ولهول المفاجأة صفعتني على خدي الأيمن ثم أردفت على الخد الأيسر ثم على الخد الأيمن مرة أخرى حتى تمكنت النسوة من الإمساك بها .
بعد ساعتين من وصولنا عاد والدي من البيت مصحوبا بعسكري من الشرطة ، إلى مركز الشرطة للتحري. استأذن أبي من العسكري وأخذني من يدي إلى أحد الغرف .وهناك انهال عليَ ضربا بالسوط ولم ينقذني منه إلا إبراهيم الكناري حين اقتحم الغرفة واقتلع أبي من هناك اقتلاعا".
في طريقنا إلى مركز الشرطة علمنا أن التمساح قد قتل بواسطة أحد العساكر المتخصصين وإنه معروض الآن بالمركز.
لم أتحمل سيل الضرب وكثرة الزم واللوم ،وجريت صوب النيل مهددا برمي نفسي فيه وجرى خلفي رهط من الرجال والصبيان وحالوا بيني وبين النيل . أخذني إبراهيم الكناري و طيَب خاطري .. ودلَك جسمي وضمَخني بزيت السمسم لترتاح أعصابي ويخف توتري وتترطب آثار الضرب على جسدي .
في مساء نفس اليوم شعرت وردة الحبلى في شهرها السابع بآلام مبرحة .استدعيت القابلة التي شخصت الحالة بحالة ولادة مبكرة .-ي قابلة قانونية أخذت دورة تدريبية بمدرسة القابلات بأم درمان عام 1921م -.قبل منتصف الليل كانت لنا أخت تسمى خالدة تيمنا بجدتها
.

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(7)


عطبرة وعشش فلاتة في الثلاثينات


حتى عام 1897م لم تكن هناك مدينة تسمى عطبرة . كانت هناك أكواخ كئيبة يسكنها نحو مائة نسمة ، تسمى الداخلة . بنهاية شهر يونيو 1898م انبثقت من هذا المكان أهميته ،أولا كمستودع صغير ثم إلى قلعة ثم إلى معسكر حصين ليقف في طريق الثورة المهدية .
في أيامنا تلك كان خط السكة حديد من المحطة الى شمال المدينة ثم من المحطة حتى الجسر على نهر عطبرة المفضي إلى الدامر ،هذا الخط يقسم مدينة عطبرة إلى قسمين :عطبرة البلد شرق الخط وعطبرة سكة حديد غرب الخط. كل الورش ومكاتب الرئاسة والمنازل بما فيها المنطقة السكنية للإنجليز ، كلها تقع غرب الخط وتمتد حتى منطقة المقرن .تمتد أكواخ المهاجرين من غرب إفريقيا على طول ضفتي نهر عطبرةإلى الجنوب الغربي والشرقي للمدينة وهو ما يعرف بعشش فلاتة وهي تحتل منطقة زراعية خصبة بفعل الطمي الذي يحمله نهر عطبرة في موسم الفيضان . بلغ تعدادهم في العشرينات والثلاثينات حوالي عشرة آلاف نسمة ، يسكنون أكواخا قبيحة في بؤرة أمراض من كل شاكلة ولون .هم أصحاب مهارات متدنية وظهور قوية وتجدهم ميالون لتعلم اللغة العربية كما يتميزون بحماسهم الديني وهو ما يجعلهم يشعرون كأنهم من أهل البلد .تزاوج بعضهم مع أهل المدينة وامتلأت بهم المدارس وورش تدريب السكة حديد .صار الناجحون منهم يخرجون من العشش للعيش في أجزاء أخرى من المدينة .

**
إنه لمنتهى السخف أن تعيد كل الامتحانات وتحرز نفس النتيجة . زاد التقارب بيني وبين أصدقائي الثلاثة ووحدت بيننا المحن والمصائب .صرنا لا نفترق وتجدنا نهيم على وجهنا في المدينة في جميع الاتجاهات .فجاءة خطر لي خاطر :
- تعالوا نذهب للعشش .
ورد وهيب ساخرا" :
- العشش !! ماذا نفعل مع هؤلاء العميان المجزومين.؟
وقال عزيز :
- دعنا نذهب لنصطاد دجاج الوادي.
راقت لنا الفكرة ، من لحظتها ذهبنا حيث ترمى قصاصات الحديد والنحاس الناتجة من ورش السكة حديد، لنجمع المواد اللازمة لصنع شراكنا .سلكنا طريقنا على طول نهر عطبرة في اتجاه الجنوب الشرقي .
تنقسم العشش الى احياء طبقا للانتماء العرقي:- فهناك حي الفلاتة وحي الشلك وحي الدينكا وحي الكنغوليين . على بعد ميل نصبنا شراكنا ،وجلسنا ننتظر تحت شجرة دوم .مكثنا حوالي ساعتين دون أن نصطاد شيئا" ، فقررنا ترك الشراك منصوبة والحضور غدا" صباحا قبل موعد المدرسة لتفقدها .في صباح اليوم التالي وجدنا كل شرك قد قبض دجاجة في أوضاع مختلفة ، منها ما قبض من الجناح وآخر من الرجل وثالث من الرقبة وهذه الثالثة قام وهيب بقطع رأسها حتى تكون لحما حلالا كما قال .أخذت معي أربعة إلى منزلنا وصادفت أن كانت كلها إناث ،وضعتها مع الدجاج المنزلي ولكن ديكنا الجميل رفضهم رفضا باتا ، مما اضطرني أن أضعها في قفص منفصل . لقد كنت محظوظا أن اصطاد ديكا في مرة أخرى لأضعه معها . في أحد المرات ذهبنا للعشش بعد زيارة الحاكم العام للمدرسة ، كانت زيارة ممتعة و قصيرة وأمتع ما فيها إننا أخذنا نصف يوم إجازة لنذهب خلف دجاج الوادي . ازدادت مشاوير الصيد متعة عندما علمنا أن الصيد ممنوع على امتداد نهر عطبرة .
في ذات يوم ونحن نستظل تحت إحدى الرواكيب (مظلة من الحطب والقش ) ، طلب منا بعض الرجال أن نعلمهم اللغة العربية و مبادئ الحساب .قمت من جانبي بتسجيل عشرة أشخاص من الراغبين ، لأقوم بتعليمهم..قاموا بإحضار كتبهم وعمل سبورة وإحضار طباشير من ورش السكة حديد . كان البعض منهم يدفع نصف مليما مقابل الدرس والبعض لا يدفع شيئا . وبما أن كثير من سكان العشش من المسلمين المتحمسين الجهلة ، فقد حاول البعض منهم الفتك بي ، ولكني نجوت بواسطة المعتدلين منهم . قال أحدهم :
- هذا النصراني يجب أن يقتل ليكون حطبا لجهنم .
وقال آخر وهو يضربني :
- يجب أن نعتقله ونسلمه للشرطة حتى لا يعود إلى هنا مرة أخرى .
وهنا تدخل مسلم معتدل قائلا :
- إنكم غير مسلمين !ألا تعلمون أن هذا ضد السلام ، الذي يدعو له الإسلام .ألا تعلمون إنه ضيفنا ؟
ثم نادى عليَ :
- تعال هنا أيها النصراني أنت في حمايتي.
من يومها لم يتحرش بي أحد في العشش ، ولم أوقف زيارتي لها .ولكني أقول حقا : إنني كنت دائما مندفعا في بناء العلاقات بكل صدق وثقة في هذه الفترة المبكرة من حياتي ، وفي الأيام القادمات .وكنت أهتم بكل ما حولي من مجتمعات .توثقت علاقتي بأهل العشش ،حتى صرت أدعى إلى مناسباتهم وأشارك في حفلات الرقص التي يقيمونها في هذه المناسبات.
**
زياراتي للكنيسة في أيام الآحاد ليس تدينا ،بل لأنه قد طلب مني ذلك ، تماما مثلما يطلب من الطفل المسلم أداء الصلاة .فقد كنت غير مكترث هل أنا مؤمن حقيقي أم لا . ولكني أجاري الأطفال الآخرين..أصدقائي من العشش كانوا ملحاحين في أن أعتنق الإسلام ، وبما إني كنت أخشى بعضهم فقد صرت مسلما لأسعدهم . كل مسلم يعتقد أن من مهامه أن يدعو من هو مثلي (من الكفار) إلى الإسلام .فرح الفلاتة بإسلامي ومن ثم سمحوا لي مشاركتهم الطعام من طبق واحد ورفع بعضهم أجرتي إلى مليم كامل .- تخيل الهناء الذي أنا فيه بعد أن أتحصل بعد الدرس على ما مجموعه نصف شلن _. الفلاتة معروفون بميلهم للتوفير لعدة أسباب :بعضهم لأداء فريضة الحج ،آخرين للهجرة إلى مصر ، وبعضهم للذهاب إلى فلسطين لزيارة بيت المقدس . إن الإسلام واللغة العربية عوامل موحدة ، وقد أسهما في صهر كثير من الأجناس في بوتقة واحدة . الكنغوليين والقبائل الجنوبية بالرغم من أنهم غير مسلمين، فإنهم يجارون الآخرين في استيعاب الثقافة السودانية الإسلامية
.

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
السير جون مافي (1926-1934م)
زيارة الحاكم العام
قبل أعياد الكريسماس من كل عام ،يقوم مفتش المركز بزيارة المدرسة .كنا نقوم بالاستعداد لهذه الزيارة قبل شهر من ميقاتها ، نجهز اللبس الموحد وهو عبارة عن قمصان ،أردية قصيرة وأحذية مع الجوارب . كلها بيضاء اللون .إضافة لتقصير الشعر والأظافر وتغيير الكراسات الممزقة والمبقعة بالحبر .والتمرن على أداء النشيد الملكي ( ربنا يحفظ جلالة الملكة) .
هذه المرة سيقوم بالزيارة سيرجون مافي بجلالة قدره . كنا نظن أن مهرجان استقبال هذا الأسطورة سيقلب المدينة رأسا على عقب .ولكن لدهشتنا ونحن وفي حجرات الدرس لمحناه يترجل من حصانه أمام بوابة المدرسة. كان في استقباله المدير وضابط المدرسة و أربعة من المدرسين .قام الحاكم بزيارة كل الصفوف ، وعند دخوله فصلنا حيَا المدرس مصافحا ، فقمنا له بالتحية .سار بين الصفوف متفقدا ، وتوقف فجاءة قربي طالبا مني أن أفتح درجي _الذي كان على غير العادة مرتبا ونظيفا خصيصا لهذه المناسبة -، نظر داخل الدرج وقال لي بإنجليزية مبسطة مع بعض الكلمات العربية :
- هل دائما تحتفظ بدرجك في حالة جيدة ؟ وهل تحتفظ دائما ببيض الدجاج الخلوي وصغار القنافذ في درجك ؟
وكادت أن تخونني شجاعتي وتصبب العرق من جسمي ولكني تمالكت نفسي وقلت :
- لا ‍سعادتك ، لا احتفظ به نظيفا ولكن هذه المرة خصيصا لزيارتك.
فضحك الحاكم بصوت عالي وضحك لضحكه الآخرين .
- هذه إجابة أمينة ، ولكن ماذا تفعل بهذه القنافذ الصغيرة ؟
- لقد وجدتها اليوم.
- هل سوف تعتني بها ؟
- إن شاء الله.
- والآن أخبرني ، هل تحب مدرستك ؟
- كنت أحبها ، ولكني رسبت في قواعد اللغة العربية مرتين بالرغم من تفوقي في باقي المواد.

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(8)


أفكار عن الرب والمستقبل


هذا العام (1930م) يمضي بطيئا" . لكي نشغل وقتنا صرنا نجول جميع أنحاء المدينة وندخل في مشاجرات دامية مع أولاد الأحياء الأخرى .هذه الفترة هي بداية عهدنا بمعرفة البنات - سوف آتي على هذا لاحقا – .صرنا نبدي افتخارنا بمعرفتنا جميع الأماكن وإحاطتنا بجميع الحوادث في مدينتنا .نطوف بالحي السكني الإنجليزي ونأكل فتات لحم الخنزير المحرم لندلل على تمردنا . نعرف أشجار الغابة المحمية شجرة .. شجرة .استكشفنا الصحراء المحيطة بالمدينة .صار يطلق على عصابتنا اسم الخنازير ولكنا كنا نوقر ونحترم الكبار ، وإذا جلدنا – وهذا ما يحدث كثيرا – كنا (نأكل الجلد كالرجال) . كان لا يفوتنا العرض الموسيقي كل جمعة على ملعب كرة القدم ،الذي تقوم به فرقة موسيقى الشرطة بقيادة ضابط إنجليزي ،وتشارك كذلك فرقة القرب الاسكتلندية التي تؤدي بعض الرقصات ، هي ذات الفرقة التي تعزف في ميدان المولد شرق المدينة في موسم احتفالات المولد النبوي .
بدأنا نسمع ببعض الأطروحات التي تنادي بذهاب الإنجليز ، وتصفهم بأنهم غزاة ومستعمرين ، وكنا لا نستوعب هذا .إنهم لم يسلبونا شيئا ،لقد زرعوا الأشجار في المدن المختلفة وابتنوا المنازل لأنفسهم ولنا نحن المواطنين ، فالمنزل الذي نسكنه الآن كان في السابق لموظف إنجليزي .كثيرا من المنازل التي كان يسكنها الإنجليز تحولت إلى الموظفين السودانيين والمصريين .والأهم إن الناس آمنين على حياتهم وممتلكاتهم في كل الأوقات .حوادث السرقة قليلة ومتباعدة وتتعامل معها السلطات بصرامة من خلال جهاز شرطة منضبط . القطارات دائما نظيفة وفعالة ، ليس هناك نقص في أي سلعة أو خدمة ، وعن الخدمات الصحية حدث ولا حرج ، مفتش الصحة الإنجليزي يتفقد المرافق العامة والخاصة بذات نفسه ، المستشفيات نظيفة ، ليس هناك قاذورات ملقاة على الشوارع والكل يعرف واجبه ويعمل .

**


كان لا بد مما ليس منه بد :لقد جلسنا للامتحان وكان الفشل من نصيبنا نحن جماعة عصابة الخنازير .ولم يكن أمامي غير أن أعيد العام الدراسي للمرة الثالثة مع وعد من الوالد أن تكون هذه آخر مرة ، وإذا فشلت فسوف ألحق بمدرسة الهندسة التابعة للسكة حديد .
لقد صليت كثيرا قبل الامتحان وأثناءه طالبا من الرب التيسير لنيل الشهادة الابتدائية . كنت موقنا أن الرب يسمعني لأني كنت أصلي في هدأت الليل و سكون الفجر ، ولكن الرب رفض أن يمد لي يد المساعدة للمرة الثالثة .كانت فكرتي عن الربوبية غامضة ، وازدادت غموضا بعد الامتحانات . فقد اعتراني خوف ووسواس قاهر من الرب والشيطان .صرت أخاف المكوث وحدي نهارا وأعيش في إعصار من الكوابيس ليلا.
في إحدى المرات وفي حصة الديانة تفوهت بكلام غير لائق في حق الرب ، أمام مدرسنا نجيب أفندي .الذي زجرني قائلا :
- إن الرب سوف يعاقبك أشد العقاب،لتفوهك بمثل هذا الكلام.
- نعم يا أستاذ ، أعلم أن الرب يفلح في العقاب فقط .
حبس تلاميذ الفصل أنفاسهم لجرأتي ، وكان صوت الجرس معلنا نهاية الحصة بمثابة نجدة ، ولكن إلى حين.
بقولي ذلك فقد كنت أردد كالببغاء ما سمعته من العم فانوس في نكاته عن الرب التي يغيظ بها المتدينين .
سرت أقوالي في أنحاء المدرسة ليسمع بها المدرسون وتلاميذ الصفوف الأخرى .في صباح اليوم التالي تم جلدي أمام زملائي في الطابور الصباحي .
بعد عدة أيام وكنت بصحبة والدي والعم فانوس .قابلنا نجيب أفندي في سوق المدينة .أعاد نجيب أفندي على والدي خترفاتي ، فما كان من المعلم انطنيوس صاحب البقالة أن قال :
- هذا إبليس !! هذا هو الشيطان بعينه !! ولكن الذنب عليك أنت يا فانوس بإفساد هذا العفريت.
فقال أبي مدافعا" :
- الذنب ذنب القاهرة .
فقال العم فانوس كأنه يؤكد على كلام الوالد :
- معك حق . الذنب دائما" ذنب القاهرة .
قال ذلك بطريقة توحي بمعنى سياسي لم أعيه يومها . ثم أردف :
- حتى في مصر مستوى التعليم ، بل مستوى كل شيء في الحضيض.
أحيانا أشعر بفرح داخلي عندما يدعونني إبليسا ،ولكنني أوقفت ترديد مثل هذا الكلام حتى لا أزعج الكبار .
بدأت اقضي بعض الوقت في العمل بحديقة المنزل ،زرعت بعض النباتات وكنت أجلب لها الماء من ماسورة الشارع .ولكن كلما يبدأ زرعي في النمو تأتي إحدى بنات الماعز وتعيث فيه فسادا".فما كان مني إلا أن دعوت عزيزا" ووهيبا و مجيدا لمساعدتي على ذبح هذه المعزة ،وقد قمنا بمهمتنا كما يقوم بها أي جزار شاطر.تقاسمنا اللحم بالتساوي وأكلنا المرارة وأم فتفت وكان أسعد يوم في حياة كلبنا جون ووكر .
بعد الظهر افتضح أمرنا وهدد عثمان محمد سعيد صاحب العنزة بتبليغ السلطات ، ولكن تدخل الأجاويد وعلى رأسهم إبراهيم الكناري بائع اللبن وجارنا علي .وعندما طلب عثمان عشرة شلنات تعويضا ، زجره إبراهيم الكناري قائلا :
- إنك لست بجعلي حقيقي ، كيف تطلب تعويضا !!؟ هذه فعلة تكارين !! إذا كنت تود تعويضا" فأذهب لسيدك حكمدار الشرطة ليحكم لك بذلك .
كانت مصيبة عثمان أن يوصف بأنه تكروني أكبر بأضعاف من مصيبته في عنزه .
اعتذر الوالد لعثمان طالبا منه أن يأخذ اللحم ، ولكن هنا ظهر إشكال شرعي لعدم التأكد من أن الذبح تم على الطريقة الإسلامية . وبينما هم في جدالهم هذا فإذا بمجموعة من المتسولين التكارين تحيط بهم من كل جانب .فما كان من عثمان إلا أن دفع لهم اللحم وغادر المكان خاسرا" كل شيء ، المعزة ،العشرة شلنات واللحم في سبيل أن يبرهن أنه ليس بتكروني وأنه جعليُ صميم .
وهذه الحادثة جلبت لي عدوا" جديدا" ابن عثمان الذي كمن لي في الغابة وكانت معركة مشهودة .

**


لنتكلم قليلا عن صديقي مجيد : هذا الشاب يقول أن أصله عربي من الحجاز وكنت أظنه كذلك - بالرغم من سواد لونه _. حتى جاء يوم سمعته يتكلم مع والده بلغة الهوسا .وبالطبع دهشت ونقلت هذه المعلومة إلى عزيز ووهيب ، ولم يبد عليهم أي اكتراث بهذا الاكتشاف. وعندما أخبرت والدي قال إنه يعلم ذلك ،وسألني إن كنت أعرف كم من أصدقائي يتكلمون بلغات غرب إفريقيا .عندما حرمت من دخول كلية غردون التذكارية بدأت أعي دواخل الموضوع .وسوف أصف لكم لاحقا هذا التمييز الذي مورس ضدي ومدى تأثيره في حياتي إلى يومنا هذا .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(9)


ملح إنجليزي وأدوية سودانية


أختي خالدة في منتهى الهدوء والهزال . قد ولدت في شهرها السابع نتيجة صدمة الوالدة من حادثة التمساح كما ذكرت آنفا .
قلت أختي خالدة هادئة جدا تُرَى ولا تُسمَع ولا تطلب شيئا".تظل طاوية ولا تطلب أكلا حتى يوضع أمامها ، لتأكل منه القليل .لذا كنا نعطف عليها ونحبها .كان لها عينان واسعتان ورموش طويلة وحاجبان كأنما أبدعهما أحد الفنانين ،وشعر طويل منسدل كأنه الحرير .
وجدناها في أحد الأيام تبكي في صمت ، أخذها الوالد في حضنه وهو يسألها دون جدوى ، وازداد خوفه وروعه عندما وجد بطنها منتفخا .طلب مني أن أسرع للعم ديمتري ليحضر الطبيب السوري الملتحق حديثا بمستشفى عطبرة _ ولم يقتل أحدا" حتى الآن ( حسب تعبير أمي وردة) _.
حضر الطبيب السوري بصحبة العم ديمتري وزوجته الخالة عائدة . بعد السلام سأل الطبيب :
- ماذا حدث لآنستنا العزيزة ؟
ردت وردة :
- متوزرة
- ماذا ‍؟‍ ما معنى متوزرة ؟
و هنا تدخلت عائدة لتشرح الأمر ولكنها زادته سوء" :
- تقصد مطنبجة .
وهنا انفجر الجميع بالضحك عندما لاحظوا حيرة الطبيب حديث العهد بالسودان وبلهجة المواليد .
بعد ذلك تدخل الوالد قائلا : :
- لا ندري ما حدث لها ، كما ترى هذه البنت نادرا ما تكلم أحدا حتى ظننا إنها خرساء.
بدأ الطبيب في الفحص وأعطى وصفة عبارة عن ملح إنجليزي مرتين في اليوم لمدة ثلاثة أيام .بدأت خالدة في أخذ الملح الإنجليزي الذي تجاهد وردة جهادا عظيما لكي تجعلها تبلعه .
طلب أيوب من إبراهيم الكناري عمل تعويذتين وتميمتين لخالدة ولكي يهتم إبراهيم فلقد دفع له مبلغ أربعة شلنات.
المعالج المسلم والذي يسمى الفكي ( تحريف لكلمة فقيه ) يقوم كذلك بتقديم وصفات عشبية وأدوية سودانية أخرى ، أحيانا تنجح هذه التعويذات في العلاج خاصة في حالات المرض النفسي .. إبراهيم إضافة لعمله كبائع لبن ومربي ماشية فإنه يقوم بدور الفكي والمعالج البلدي وهو ما يدر عليه دخلا كبيرا . كانت السلطات البريطانية تلاحق وتمنع هؤلاء المعالجين من الممارسة وتعتبرهم من السحرة والمشعوذين .
أنجز إبراهيم مهمته في مدة وجيزة ، مما عرضه للتوبيخ واللوم بأنه لم يصل مخلصا كما قال أيوب منفجرا في وجهه :
- يومان فقط !! لماذا هذه الكلفتة ؟ لقد دفعت لك أربعة شلنات وهو ما يساوي ثلث زجاجة ويسكي جون ووكر .
- لكن الله قد سمع دعائي من أول مرة ، فهو يعلم أن الأمر حرج .
وهنا تدخلت أنا قائلا :
- لقد صليت أنا كثيرا للرب آناء الليل وأطراف النهار لنيل الشهادة الابتدائية ، لماذا استجاب لك ولم يستجب لي ؟
- لعنة الله عليك !! ، شتان ما بيننا ، فأنا مسلم وأنت نصراني.
‍وهنا تدخل أيوب :
- لا تتهرب مني بالجدال مع هذا الولد . إذا مرضت خالدة مرة أخرى أو استمرت مريضة فسوف تعيد لي الأربعة شلنات .
- أنا لم أعط ضمانا مثل هذا ولكن ضع أمورك على الله .
ازداد المرض على خالدة فأخذت إلى المستشفى لمقابلة الطبيب السوري ، الذي أمر بإيقاف تناول الملح الإنجليزي وأن تأخذ كمية صغيرة من شوربة الدجاج أربعة أو خمسة مرات في اليوم ، على أن تعاوده يوميا بعيادته في المستشفى .
بعد ثلاثة أسابيع تماثلت خالدة للشفاء . العم ديمتري قال إن هذا بفضل الطبيب السوري ، العم فانوس استمتع بالنقاش وتظاهر كأنه في صف إبراهيم ولينهوا النقاش اتفقوا إن هذا بفضل الاثنين معا .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(10)


صوص يبدأ رحلاته



بينما نحن جلوس لوجبة الغذاء ، أعلني أبي :
- أسمع يا ولدي ، بعد يومين سوف يسافر عمك ديمتري مع عائلته في إجازته السنوية إلى مصر ، ويرغب في أن تنضم إليهم ، و سوف يقيمون في الأقصر وأنت ستقضي شهرا مع جدتك وعمتك في إسنا .
لن أستطيع أن أصف لكم فرحتي بهذا الخبر فمنذ مدة لم أسمع أخبارا سارة .
جهزت أمي وردة زادا يكفي ثلاثة أشخاص لأيام الرحلة الأربعة.و في المحطة كانت وصية أمي الوحيدة لي :
- لا تلتحق بأي مدرسة هناك .
ثم قالت محذرة للعم ديمتري :
- ابني أمانة في عنقك ،( يرجع معاك الحجل بالرجل) ، أيوب يفكر أن يلحقه بإحدى المدارس هناك وإذا حدث هذا فسوف أشكوكم لدى المفتش الإنجليزي وأذهب لأعيش مع عائلتي في ود مدني
ثم التفتت لعائدة زوجة ديمتري قائلة :
- عائدة ، إنك أمٌ وتقدرين مشاعري فأنت مسؤولة عن إرجاع ابني لي سالما .
ولم تهدأ وردة إلا بعد أخذ تطمينات غليظة من الزوجين .

عندما تحرك القطار ( هنا يسمى الإكسبريس المصري ) تجاذبني شعوران مختلفان : شعور بفرح حقيقي بالسفر وشعور بحزن دفين بمفارقة منزلنا وأهله لأول مرة.
بعد أربعة أيام وصلنا إسنا . استغرقت الرحلة من عطبرة إلى وادي حلفا ما يقرب من اليومين .من هناك أخذنا باخرة نيلية إلى الشلال ومنها بالقطار ( وهنا يسمى اكسبريس السودان) إلى اسنا .
لم أزر اسنا من قبل لذلك شعرت ببعض الغربة ، بالرغم من حفاوة استقبال الأقارب بالمحطة ،وإمطاري بوابل من القبلات .وشملوني برعايتهم ومشاعرهم الصادقة .
أخذنا من المحطة عربة كارو يجرها حصانان .عبرنا مع عربتنا على إحدى العبارات إلى الضفة الأخرى حيث مدينة اسنا . الطريق مظلم ( ليست هناك كهرباء) ومليء بالحيوانات من كل صنف ونوع .في الظلام يجد السائق في سيره ويده لا تفتر من جلد الحصانين بسوط طوله ثلاثة أمتار
قلت للسائق : .
- لا تضرب هذا الحيوان المسكين ، إننا لا نفعل ذلك في السودان .
- إنه ممنوع هنا أيضا ولكن حيواناتنا لا تعمل إلاَ بالضرب .


في ذلك الزمن ( الثلاثينات ) كانت إسنا أكبر من عطبرة بعشرة أضعاف ،ولكنها وكمعظم البلاد المصرية لا يمكن مقارنتها بالسودان بأي حال من الأحوال . أول ما لفت نظري الروائح النتنة والقاذورات حيثما ذهبت . معظم المنازل من غير مراحيض ويقضون حاجتهم في قارعة الطريق متسترين بالليل والظلام . الذباب في كل أنحاء العالم يرتاح ليلا إلاَ في إسنا فإنه ينشط ليلا ونهارا , أعمدة الغبار معلقة بين السماء والأرض في كل الأوقات كأن ذرات التراب ، مهاجرة إلى السماء احتجاجا على قاذورات الأرض . الأسِرَة مملوءة بالبق وبسببه يكون النوم مستحيلا ليلا ،ونهارا بسبب الإزعاج ( وقد اشترت لي الجدة ايرين فراشا جديدا وكان يوضع تحت أشعة الشمس دوما )
كل حياتي في عطبرة لم أسمع ألا بحادثتي قتل جنائي ، أمَا هنا فواحدة كل شهر،ومعظمها من أجل الشرف أو الثأر . لقد أضحكني تعليق عمتي عندما قالت : (لماذا يقتلون ويورطون أنفسهم أمام القانون ؟! من الأفضل لهم أن يأخذونهم إلى مستشفى إسنا ، حيث الموت المؤكد دون مساءلة قانونية.) ملاحظة عمتي هذه نتاج تجارب مريرة مع هذا المستشفى . منذ إبعادهم من السودان (عام 1920) ، طيلة هذه المدة يعاني زوج عمتي انطون أفندي متَى .الذي كان لا يفتأ يعاود هذا المستشفى ليعالج جرحا ،ناتجا من طلق ناري من أحد الجنود الإنجليز بالسودان .
ذهبت عدَة مرات مع العم انطون إلى المستشفى راكبا خلفه على ظهر حمار . يمكنك أن تدل المستشفى بكل سهولة من الرائحة النتنة والصراخ والعويل.بعد الوصول تلاحظ بقايا الطعام التي جعل منها الذباب مرتعا له. الأسرة ملوثة بالدماء والبول .لقد رأيت فأرا ميتا لم يتطوع أحد لأخذ رمته بعيدا ، ورأيت أنواعا من الجروح المتقيحة لم أر مثلها في السودان . بالرغم من أن هناك أكثر من خمسة وفيات يوميا فالناس ما زالوا يراجعونها طلبا لخدماتها كأنهم يتعجلون رحيلهم .
الطبيب يبدو حزينا لعجزه في ظل النقص المريع في المعدات الطبية ، حيث لا مختبر ولا أجهزة أشعة .تأخر صرف الأجور لمنسوبي المستشفى جعل الكثير منهم يلجأ إلى الرشوة وفرض الإتاوات على المرضى وذويهم . ولقد سمعت من العم أنطوني أن بعض الجثث التي لا تطلب تباع لكبار المزارعين لدفنها في مزارعهم لتخصيب التربة . جاهد العم أنطوني في المستشفى حتى يجد غيارا لجرحه ، وقد سمعته يقول في يأس : ( الموت أرحم من هذه المهازل ) وقد توفى بعد عام من ذلك وقد حزنت عليه كثيرا .أذكر أن والدي خرج من طوره غضبا على الإنجليز عندما قال : ( الواحد يكون آمنا معهم ما دام متذللا لهم , سوف تكون نهايتنا على يد السياسة , نريد رعاة لا ذئابا ) ولم أعي في ذلك الوقت ما يعنيه.

الاسناوي الذي يعيش في كوخ والذي له منزل عادي فإنهم سيان في صغر المساحة . حيث لا حوش ولا حديقة على عكس مباني السودان . الطرق قليلة ،قصيرة وضيقة .يبلغ عرضها حوالي أربعة أمتار في أحسن الأحوال وأغلبها أزقة مغلقة ، لأنهم يبنون بيوتهم حيثما اتفق دون تدخل من السلطات . لا توجد غابات ولا أشجار إلاَ من قليل على ضفة النيل . باختصار خلال أقلَ من أسبوع شعرت بحنين جارف للسودان .

في السودان نستعمل لوقودنا الفحم وحطب الحريق والكيروسين ، أمَا هنا فيستعملون روث
البهائم والقليل منهم يستعمل الكيروسين . من المناظر التي لم أر مثلها في السودان جلوس بعض النسوة النائحات على قارعة الطريق ويعولن على أعزاء ميتين منذ زمن ويعددن محاسنهم . نسبة الوفيات عالية وخاصة وسط الأطفال. الموسيقى والرقص والغناء من المحرمات .باختصار إنها بلد ممل. الآن فهمت لماذا أمي وردة تكرهها . هذا الفقر المادي والمعنوي في حياتهم تبعه فقر في المشاعر والأحاسيس ، فولادة البنت عندهم تعتبر من الكوارث. يقول مثلهم الشعبي ( الأفضل أن يكون لك عقربان على الجدار ولا بنتان في البيت ). والبنت عندهم مهددة بالرحيل من هذه الدنيا إذا مس سمعتها أيُ قول ،حتى لو لم يكن صحيحا ودون أي تحري لحقيقة ذلك . ولقد شهدت شغبا داميا بين المسلمين والأقباط من جهة وبعض اليهود احتجاجا على طريقة الذبح اليهودية التي يعتبرونها وحشية ، ولكن أن تذبح ابنتك لمجرد بعض الأقاويل فهذا عمل بطولي .هذه هي الحالة الاجتماعية والثقافية لمنطقة شهدت أكثر الحضارات ازدهارا في تاريخ الإنسانية .
هذا الجو من الفقر لم يؤثر عليَ شخصيا من الناحية الغذائية والاحتياجات المعيشية الأخرى , فقد خصص لي الوالد مبلغ خمسة جنيهات لاحتياجاتي الشخصية .بدأت عمتي وجدتي في تنفيذ برنامج تسمين لي حتى لا يقول أهلي في السودان بأني أهملت .بدأت الحظ زيادة وزني كلما تقدمت بي أيام الإجازة وقد علقت جدتي على ذلك : ( جئتنا نحيفا كأنك تشكو من سوء التغذية وذلك بسبب الحرارة وانعدام الفواكه في عطبرة ولكني سوف أرسلك إلى أهلك بخدود في لون التفاح ).
الخضروات والفواكه هنا من النوعية الممتازة لاستعمالهم للسماد العضوي . كانت جدتي صارمة معي ، عليَ الرجوع إلى البيت قبل الغروب .لم أستطع عصيان أمرها في الالتحاق بإحدى المدارس الخاصة ذات المدرس الواحد ، وهو كذلك المالك للمدرسة .قد دفعت رسوما وقدرها ستة شلنات وهو مبلغ مضاعف بالنسبة للمصاريف العادية لأنه كما قال : ( أنت من السودان والسودانيين عندهم فلوس كثيرة) . يوجد بالمدرسة حوالي ثلاثين تلميذا .يقوم المالك بتدريس جميع المواد بطريقة مباشرة وفردية ، إذ لا توجد صفوف دراسية، ولكن كان التلاميذ المتقدمون يساعدون المتأخرين تحت إشرافه ، وقد يمكث مع أحد التلاميذ ساعة كاملة بينما ينهمك الآخرين في تمارين مختلفة . لقد كان من نصيبي ستة تلاميذ، لأساعدهم في اللغة الإنجليزية والرياضيات ولكني كنت تحت رعاية أحد الأولاد في قواعد اللغة العربية . إنها فعلا طريقة مجدية وقد قمت بتطبيقها بنجاح فيما بعد عندما سلكت سلك التدريس .اسم المدرس شكري . كان يعيش وحيدا في مدرسته التي تتحول بعض الظهر إلى مسكن ، وتتحول إحدى الطاولات إلى سرير ، ولمدرسته طلب واسع وسط أهالي اسنا لأن تلاميذه من أنجح طلاب الثانوية والجامعة . لا يوجد مدرسة ثانوية في اسناء وأقرب مدرسة ثانوية توجد في قنا على بعد خمسين ميلا شمالا . لقد قابلت شكري بعد عشرين عاما من هذا وكان فرحا بنجاحي أيما فرح .
مضت ثلاثة أسابيع من إجازتي في بطئ شديد وتبقى لي أسبوعا واحدا لأعود إلى أهلي . ولكن وصل خطاب من العم ديمتري يفيد بأنه كُلِّف ببعض العمل في وكالة السودان بالقاهرة مما يستدعيه للمكوث في مصر شهرا آخر .جن جنوني لسماع هذا الخبر ولم أصدقه ( هذه مؤامرة منكم لأبقى غصبا عني في هذه البلدة القذرة ، لقد وعد عمي ديمتري أمي ويجب أن يوفي بوعده ) . صدمت جدتي وعمتي من أقوالي وقررن إرسالي في نفس اليوم إلى الأقصر لأتدبر أمري مع عم ديمتري بنفسي وتم شحني في حافلة مع المزارعين والأغنام والبط في رحلة تستغرق أربعة ساعات لقطع ثلاثين ميلا شمالا . عندما نزلت في الأقصر وسألت عن عم ديمتري تطوع أكثر من سوداني لإيصالي له . أستغرب عم ديمتري من حضوري وعندما عرف السبب عاتبني قائلا :
- إذا كنت لا تصدقني فإنني على استعداد لأركبك القطار وتسافر لوحدك ولكني سوف أكون غاضبا
منك .
- أنا آسف يا عم ديمتري ، أرجو أن تسامحني .
- لا عليك.
- هل ممكن البقاء معكم لبعض الأيام.
- طبعا يا ابني يمكنك البقاء كما تشاء.
وقد قمت بصحبة العم ديمتري وأبناءه بزيارة الآثار ووادي الملوك مما خفف الكثير من غربتي وحنيني إلى أهلي .


descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
قابلت العم ديمتري بعد أربعين عاما من هذا الزمن وكان ذلك في محطة سكة حديد القاهرة .وكان كالعهد به قارئا نهما صاحب ذهن وقاد و ملاحظات صائبة .من أقواله : ( إن الاستخفاف والجهل والتعصب الديني من ألد أعداء التراث ، بعض المعابد حولت إلى مساجد وبعضها استخدمت حجارتها لبناء مساجد أخرى . آخر من يقدر التراث هم المصريون ، فقط الأوربيون هم من يقدرونها حق قدرها ) ثم أضاف : ( أنظر ‍! إنهم الآن بفرشون البسط في فناء المحطة قبل نصف ساعة من الصلاة ويعيقون طريق اللاحقين بقطاراتهم ، إنها الهيمنة الثقافية )
هذا آخر عهدي بالعم ديمتري ، فلقد رحل لدار الخلود ومعه رحلت مرحلة هامة من تاريخ حياتي .

**

صادف رجوعي إلى إسنا ذكرى القديس الفاخوري _ وهو قديس قبطي إسناوي - العشرات من الإسناويين يحجون إلى ضريحه داخل كنيسته الواقعة على بعد عشرة أميال داخل الصحراء الغربية . تجد الناس مخيمين في الصحراء جالبين معهم نذورهم للتبرك والشفاء وقضاء الحاجيات المتنوعة وتشمل زواج البنات ، الإنجاب وقد سمعت بعضهم في دعائهم يطلبون من الله اللباس والحذاء .

**


أخيرا" وصل خطاب من العم ديمتري يحدد فيه تاريخ رجوعنا إلى السودان.قد تلقيت هذه الأخبار بفرح حقيقي ( لقد كان عمري حينها ثلاثة عشر عاما ، لذا فقد كان فرحي تلقائيا لم أراع فيه مشاعر جدتي وعمتي ).
ركبنا قطار الإكسبريس إلى الشلال في رحلة العودة .في الشلال ذكرني العم ديمتري بأنني قد عشت خمسة سنوات من طفولتي في هذه البلدة ، وأضاف : ( يستحسن أن تزور هذه المناطق كل عشرة سنوات ) .وبالفعل لقد زرت الشلال و إسناء والأقصر في الأعوام 1939 ،1949،1969،1976و1988 وينطبق على حالها نفس وصف الرحلة الأولى مع قليل من التغيير ..!!

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(11)


رحلة العودة عبر النوبة المصرية – 1931م –

توقف القطار عند محطة الشلال على بعد عشرة أميال من أسوان وميلا واحدا من الميناء النهري .حيث يجب أن نأخذ منه باخرة إلى ميناء وادي حلفا .وحدها عربات الركاب الإنجليز الفاخرة حولت إلى قرب الباخرة ، ليكونوا أول الراكبين دون المرور على الإجراءات الرسمية المتبعة . أمَا نحن فعلينا الوصول إلى الباخرة مشيا بالأقدام بعد الإجراءات الرسمية والتفتيش الصحي وتفتيش التذاكر . الركاب الإنجليز لهم جزء منفصل من الباخرة له خدمات مميزة . لم أر مع العائلات الإنجليزية أطفالا في سني ،عندما تساءلت عن ذلك ، شرح لي العم ديمتري الأمر : (إنهم يتركونهم في مدارس داخلية في بريطانيا ولا يأتون إلاَ في الإجازات و أعياد الميلاد ،لأن المدارس في السودان لا تناسبهم ) . العم ديمتري يعرف الكثيرين منهم بحكم عمله كموظف حكومي بقسم شئون الموظفين .
بعد أن أخذ الركاب الإنجليز أماكنهم على متن الباخرة ، جاء دورنا لنركب .جئنا بحمَال لأخذ متاعنا . وكنت مندهشا أن يستطيع حمَال واحد حمل كل متاعنا ، وازدادت دهشتي عندما رأيته يحمل خمسين كيلوجراما على ظهره وخمسين أخرى في يده وخمسين ثالثة على ظهر حماره الهزيل . كان كل حمال يعلق بطاقة تعريف مكتوبا فيها اسمه ورقم التصديق . توجه الحمالون نحو الباخرة يتبعهم أكثر من ثلاثين عائلة سيرا على الأقدام ، ليضفوا على الميناء نوعا من الحياة لا يتوفر لها إلاَ مرتين كل أسبوع .
قال العم ديمتري عندما لاحظ فرحة العودة تطل من وجهي : ( أنا مثلك فرح بالعودة إلى السودان حيث النظام والقانون .بعكس مصر بلد الخيبة والقذارة .)
بينما كنت أسير مع الناس وخطواتي تتطاير فرحة بالعودة ، إذ برجلي تغوص في أحد الشقوق الطينية ويلطخ الوحل حذائي الجديد ( هدية من الجدة ايرين ) وكذلك جواربي البيضاء . كاد هذا الحادث العرضي أن يقتل الفرحة في نفسي . ومما زاد الأمر سوء" تضاحك الأولاد والبنات من حولي ، بل وتجرأ بعضهم بوصفي إنني أسير كالأعمى مما عكر عليَ صفو يومي .
القاطرة البخارية المصرية لها دوي أعلى ،ودخان أكثف من القاطرة السودانية .كما إنها أكبر حجما وأكثر سرعة ( ستون ميلا في الساعة ) كما إن الخط الحديدي أعرض من خط السودان .
دخلت مع الحمال الباخرة التي تلمع جميع أركانها من النظافة الفائقة وقد حجزت لنا قمرتان . من القمرة يمكنك مشاهدة قلعة كليوباترا ( لابد أن لها عينا تعشق الجمال عندما اختارت هذه النقطة لتبني عش المحبة الشتوي ليضمها مع عشيقها مارك انطوني ) كما حكى لنا العم ديمتري { هنا يستطرد الكاتب في سرد القصة كاملة }

***

في الشلال قدمني العم ديمتري إلى دهب الشلالي كبير الأجاويد الذي انتصر لأمي لتضع مولودها ( رمسيس ) مع أهلها في ود مدني . فرح دهب برؤيتي أشد الفرح وسألني بشوق عن أخبار والديَ ،وأخذني ليريني المنزل الذي كنا نعيش فيه قبل سبع سنوات . في طريق العودة بعد أن كرر دهب السؤال عن أحوالنا ، بدأ يحكي للعم ديمتري أخباره : لقد تزوج امرأة تكرونية توفي عنها زوجها بعد وصولهما أسوان قادمين من السودان. وأنجب منها ولدا وأضاف : ( لقد أعادت لي شبابي )

***

أطلق كتشنر على الباخرة اسما مصريا قديما ( ايبس ) ومعناها طائر المنجل وهي تعمل منذ عهد الاستعداد لاستعادة السودان (1894م) وظلت تعمل حتى عام 1976م .
لم يمض بعض الوقت حتى صار الناس كأنهم أسرة واحدة : أخذوا يتكلمون ويتوددون لبعضهم ويلعبون الورق والديمينو والشطرنج ويدخنون النارجيلة . كان معظم الركاب من موظفي حكومة السودان .
في الساعة العاشرة بدأ الركاب في الاستعداد للنوم ، الرجال يفترشون الممرات والنساء والأطفال داخل القمرات .
صحوت من النوم عطشا بعد منتصف الليل وتوجهت نحو إحدى الجرار وأخذتها إلى فمي لأشرب ، ولكن كانت الجرة مملوءة بحساء الملوخية !انسكبت الملوخية لتملأ جلبابي وجسمي . غضبت لذلك غضبا شديدا مما أيقظ الخالة عائدة وأطفالها قمت بأخذ حمام ليلي. وقامت الخالة عائدة بغسل الجلباب. تطلب هذا إنارة المصباح الكهربائي مما لفت انتباه الناس وأزعجهم . ولم أنم ليلتها من الغيظ والحرج. في الصباح انتشر الخبر وسط الركاب والكل يتسابق لرواية القصة للآخر وقد وصلت هذه القصة حتى بارجة الركاب الإنجليز .كان الكل يشير إلى : هذا هو بطل قصة الملوخية.
تمر الباخرة على بعض القرى والمدن الصغيرة مثل عنبة , أبو سنبل ، بلانة ، كلبشة وادندان .
عندما توقفنا في عنبة أسرع العم ديمتري لإحضار بعض الطعام الطازج وسبعة زجاجات من شراب العرق (العرقي) واحدة له والباقي لوالدي لأن العرقي في هذه المنطقة معروفا بجودته.
تبعد عنبة خمسون ميلا من الحدود السودانية المصرية ،وهي من مراكز النوبة المصرية المهمة ،حيث توجد بها المدرسة الابتدائية الوحيدة ومستوصفا ومركزا شرطة وسوقا للبلح .لا توجد بها كهرباء و لا مياه بالحنفيات.
في أبي سنبل هرع جميع الركاب الأوربيين للتفرج على المعبد الصخري الذي بناه رمسيس الثاني .

**


تحركت الباخرة بعد عودة المتفرجين إليها . حقا لقد كان المشهد جميلا أخَاذا ورومانطيقيا أحيانا . تظهر البيوت على الطراز النوبي على ضفتي النهر كأنها قلاع لعدم وجود نوافذ بها . إنهم يكتفون بفتحات أسفل السقف .وأمام كل منزل مسطبة مرتفعة لاجتماع العائلة مساء" . النوبي يهتم اهتماما فائقا بتزيين منزله من الداخل والخارج يشجعه على ذلك قلة الأمطار مما يبقي على الزينة الخارجية لزمن طويل.
هذه الصحراء القاحلة وهبها النيل حياة لا تتوفر لمثيلاتها من الصحاري ، غابات النخيل تسد الأفق على الضفتين حيث الأرض الخصبة المتجددة بفعل اطماء النيل منذ الأزل. حتى جاء ناصر المصري لتحقيق حلمه في بناء أسواء صرح يسمى السد العالي ، فخسرت مصر الدلتا والآثار النوبية وهذه أسواء كارثة في تاريخ مصر القديم والحديث . ومن تصاريف القدر أن هذه الكنوز النوبية النيلية دمرت بواسطة النيل الذي كان يهب لها الحياة منذ بدء الخليقة .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(12)


السفر عبر السودان الشمالي


بعد غروب شمس اليوم الثاني أعلنت صافرة الباخرة وصولنا ميناء وادي حلفا .في تلك الأيام الجميلة كان بمقدور أي زائر للمدينة أن يعرف إنه في مستعمرة بريطانية .كل شيء يبدو مختلفا عن مصر بالرغم أن وادي حلفا آنذاك كانت تابعة رسميا لمصر .
عند رسو الباخرة تعرضنا لهجمات الفريق الصحي بقيادة مفتش إنجليزي ، رشت الباخرة بالمبيدات الحشرية والمطهرات وتعرض الركاب إلى تفتيش صحي دقيق ورشت أمتعتهم بالمبيد الحشري . وبما أن الماء النظيف متوفر داخل الباخرة فقد قام الركاب بالاستحمام وتغيير ملابسهم وتعطر بعضهم قبل النزول إلى الميناء . لبست ردائي القصير الأبيض مع جوارب بيضاء طويلة وقميص أبيض ذو أكمام طويلة وجزمتي البنية الداكنة ( هدية من الجدة) تفحصت نفسي أمام المرآة معجبا بهندامي وبالطبع لم يفت هذا العم ديمتري الذي علق قائلا بأنني أبدو كالأمير أو العريس مما اربكني وأخجلني .
الرصيف نظيف، صالة الجمارك تحتوي على ستة مساطب أسمنتية ومساحة تسع لمائة راكب مع أمتعتهم. العلمان الإنجليزي والمصري يرفرفان على سارية مبنى مجاور .كان كبار رجال الإدارة الاستعمارية من إنجليز ومصريين وسودانيين في استقبال الباخرة . الكل يؤدي عمله في جد وإخلاص .على بعد مائتي متر يربض القطار الذي سوف نستغله في إكمال رحلتنا .يتكون القطار من أربعة عشر عربة ، عربتين للأمتعة ، عربتين لكل من الدرجات الأولى والثانية والثالثة ، عربة للمطبخ ، عربة للأكل , ثلاثة عربات نوم و فنطاز للماء . ستضاف إليه عربة لركاب الدرجة الرابعة في محطة أبي حمد .كانت خدمات سكك حديد السودان في أوج ازدهارها ، العربات نظيفة ،مياه الشرب متوفرة ،وكل اللمبات والمراوح تعمل بكفاءة .
وجدنا أسماءنا على باب قمرتين في إحدى عربات الدرجة الثانية ، وضعنا خمسة من حقائبنا الصغيرة على الأرفف ، أما بقية الحقائب والطرود فمكانه عربة الأمتعة الملحقة بالقطار .بعد ذلك اصطحبنا العم ديمتري في جولة سياحية وتسويقية في المدينة مخلفين متاعنا في القطار ،دون خوف من السرقات لندرة اللصوص في منطقة النوبة .يبدو أن العم ديمتري يعرف الكثيرين من التجار وموظفي السكة حديد بحلفا ، فهم يحيونه باسمه ويتبادلون معه الأخبار .لقد لفت نظري شغف عم ديمتري بالأخبار مثله مثل والدي وغيرهم من رجال ذلك الزمن .الاستماع والسرد للأخبار بتفاصيلها كانت سمة ذلك المجتمع ، ومن لم يفعل ذلك فهو شخص عدواني وأناني .في بلدي في ذلك الزمن يِرق الفاصل بين الخصوصيات والعموميات ، الكل يدلي برأيه في خصوصيات الغير، الكل يود أن يعرف ،والكل يود أن يشارك أو يساعد حتى لو لم يطلب منه ذلك . في ذلك الزمن لا جرائد ولا إذاعة وبالطبع لا تلفاز وحتى بعد وجود هذه الوسائط فما زال البحث عن الأخبار عند الزوجة والطفل والجار هي ديدن الجميع .
يحتل السوق المنطقة بين خط السكة حديد وحي التوفيقية .تصطف الدكاكين في أربعة صفوف بينها ثلاثة شوارع ضيقة ،وهو مزدحم بالبائعين والمتسوقين ، المقاهي تحتل جميع الأركان وهناك حوانيت الحرفيين ومصنعا للصابون ذو نوعية ممتازة تضاهي الصابون الإنجليزي .يشمل السوق جميع النشاطات السلعية ولكن كان أكبرها سوق البلح .بالقرب منه يوجد فندق ومطعم وخمارة تبيع الخمور الإفرنجية والبلدية المصنوعة من التمر بدرجات متفاوتة من التركيز مثل العرقي و الشربوت والدكاي . وهناك سينما تقدم عروضها في العراء مرتين كل أسبوع.توجد مدرستان ابتدائيتان للبنين أحدهما للمسلمين والثانية للأقباط، ويوجد مسجد وكنيسة قبطية. كسمة غالبية مدن السودان تحيط بالمدينة أكواخ الفلاتة و مهاجري غرب إفريقيا وجنوب غرب السودان ومن وسط هؤلاء تختار المجموعات النوبية (البصاولة ، العليقات ،المحس ،الكنوز ،الحعافرة ) زوجتهم الثانية أو الثالثة وعندما جاء عام 1956م ذاب كل هؤلاء المهاجرين في الهوية النوبية .البصاولة هم أكبر المجموعات في وادي حلفا وهم بمثابة الصعيدي المتمسك بتقاليد الفلاح المصري ، لذا تجد المواشي والدواجن تزحم منازلهم و تعيش معهم .لذلك عندما تمر بحي البصاولة تزكم أنفك رائحة الحيوانات .أمضينا حوالي الساعة في تجوالنا وبعد أن جمع العم ديمتري الأخبار اشترى لنا بعض الطعام إضافة للطعام المجهز من الأقصر واسنا .
تحرك القطار من حلفا قبل منتصف النهار وتوقف بعد مسيرة خمسة كيلومترات في سندة حلفا دغيم حيث تقع في الضفة المقابلة مدينة بوهين التاريخية . توقف القطار في دغيم أقلَ من خمسة دقائق لأخذ بعض الركاب ليواصل مسيرته بأقصى سرعة (50كلم/الساعة) . كنت أقف خلف الشباك لأرى المنظر الخارجي .. رمال ..رمال .. ثم حجارة صغيرة .. ثم حجارة كبيرة ثم رمال ..رمال .
هذا الخط بني عام 1884م وتم استجلاب ثلاثة آلاف وستمائة من الفلاحين المصريين للعمل فيه ليلا ونهارا في شمس تدير الرؤوس ، وقيل أن ألفا منهم لقوا حتفهم نتيجة هذا الجهد المضني .
يعتبر إقليم النوبة وحدة جغرافية منفصلة ، تفصله من أقاليم السودان الأخرى عوائق طبيعية وهي الصحراء من جميع الجهات : من الجنوب حوالي 450كلم عبر صحراء العتمور حتى أبي حمد ، من الشرق 600 كلم حتى ساحل البحر الأحمر من الغرب 250 كلم حتى عبري .
تراجعت من الشباك لأن المناظر صارت رتيبة ومتكررة . المحطات الخلوية من حلفا إلى أبي حمد لا أسماء لها وتميز بالأرقام ،تبدأ برقم واحد وتنتهي برقم عشرة وهي محطات لا يوجد بها غير رهط من عمال السكة حديد . وعندما توقف القطار في إحدى هذه المحطات هرع بعض الركاب وهم يحملون أواني الشاي لأخذ ماء مغلي من سائق القاطرة وبعضهم افترش البروش والحصير لأداء الصلاة .
بعد مغيب اليوم الثاني وصلنا محطة أبو حمد على النيل وهي شهيرة بنخيلها وليمونها والبروش والمقاطف المصنوعة من سعف النخيل والدوم .تمثل أبو حمد نقطة العودة إلى النيل الذي فارقناه قبل ثلاثين ساعة وتبقى لنا أربعة عشر ساعة للوصول إلى عطبرة .
طريقنا الآن بمحاذاة النيل على الضفة الشرقية .الأطفال وحتى الكبار يتسولون الخبز من الركاب . معظم الأطفال عراة تماما والوجوه يتعارك فيها الذباب . . الأجسام هزيلة ويمكنك عد الأضلاع وأنت جالس خلف شباك عربة القطار . من القطار يمكنك مشاهدة المشيعين وهم يحملون جنازة في إعياء وهم في طريقهم إلى المقابر التي يكبر حجمها حجم القرية بمراحل .
لقد مررت بهذه المنطقة عام 1988م ، وإذا طلب مني أن أصف المنطقة فلن أغير في وصف 1931م شيئا

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(13)


الحياة المنزلية في عطبرة


أخيرا وصلنا عطبرة رئاسة إدارة سكك حديد السودان .كان في مقابلتي والدي أيوب .لقد كنت سعيدا حقا بأن أعود إلى أهلي لأني اشتقت لهم كثيرا . أمي بقيت في المنزل لأنها وضعت لنا أخا جديدا بعد معاناة شديدة عند المخاض ، لأن الطفل جاء خارجا برجليه بدلا أن ينزلق برأسه . كانت القابلة الحاجة آمنة قليلة المعرفة بالولادات غير الطبيعية ، مما جعلهم يحملونها إلى مستشفى عطبرة حيث أنقذت بواسطة الطبيب السوري .
في تلك الأيام نجد قليلا من الناس يأخذون زوجاتهم المشرفات على الهلاك إلى المستشفيات ، ولكن والدي أيوب كان مختلفا ، إنه يؤمن بالعلم وتعليم المرأة .
عند وصولي البيت رأيت أخي الجديد يرقد على مهده كأنه صرة صغيرة وهو في حالة جيدة بالرغم من أن وزنه دون المعدل الطبيعي وقد سمي خالد تيمنا بجده خالد مكوجي .

**

في ذلك الزمن كنا شغوفين بلعب كرة القدم ، متأثرين في ذلك بالقوات البريطانية التابعة للجيش الاحتياطي في معسكرهم الذي يبعد أقل من نصف ميل من منزلنا . ولتعذر شراء كرة كالتي يلعب بها الجنود ، كنا نصنع الكرات من خرق القماش وهي كرات لا تقارن بكرات الجنود من حيث الحجم والمرونة .خطر لي في أحد الأيام أن أصنع كرة من القماش في حجم كرة الجنود ،لذا طلبت من جارنا كمال أن يقوم بسرقة أحد القطع الداخلية من أمه البدينة ولقد استجاب كمال لذلك . مما مكننا من عمل كرة مثل كرة الجنود من حيث الحجم ،ولكن من حيث المرونة فشتان ما بينهما .
رجعت منتشيا للبيت بعد اللعب بالكرة الجديدة ولم أدر بالعقوبة التي تنتظرني في البيت . لأن والدة كمال قد قالت بأني ولدا سيئا ، قد أغويت ولدها بسرقة قطعة من ملابسها .ذهبت لمنزل أم كمال والدموع في عيني وصحت بها من خارج حوش منزلهم : ( أمي لا تشتكي مثلك إذا فقدت مثل هذه القطعة من الملابس ،وأعلمي أن قطعتك قديمة وبها خرمين وذات رائحة نتنة ،لأنك لا تنظفينها .لقد اخترنا ملابسك لأنك سمينة مثل الجاموسة )وكادت المرأة أن تجن من الغضب . وقد كانت النتيجة أن تم جلدي من قبل زوجها في صباح اليوم التالي .
في أحد الأيام توقف أحد الضباط الإنجليز ليتفرج علينا ونحن نلعب بجورب أم كمال . وقد فرحنا بوجود متفرج في مقام ضابط إنجليزي وطمعنا أن يدعونا إلى المعسكر لنلعب بكرتهم، ولكن الضابط مكث لدقائق ثم انصرف لشأنه .
في يوم الكريسماس لعام 1931م كنت مع والدي عند دكان لورنزيتو عندما قابلنا نفس الضابط، سأل الضابط أبي :
- هذا ابنك ؟
- نعم !! خير !!! هل أساء السلوك ؟
- لا ، لم يفعل شيئا .
ثم أردف :
- هل يمكنني أن اهدي له كرة قدم إنجليزية بمناسبة أعياد الكريسماس.
- هذا كرم منك ، مثل هذه الكرة تكلف كثيرا.

وأخيرا لقد امتلكت بل قل لقد امتلكنا كرة حقيقية .

**

وجاء موعدي مع امتحان الشهادة الابتدائية للمرة الثالثة ،ولكن هذه المرة كانت لي خطة جريئة وواضحة : اتفقت مع صديقي توفيق الحلفاوي على الغش ، امرر له أجوبة الرياضيات والإنجليزي وبدوره يمرر لي أجوبة قواعد اللغة العربية . كان من حظي أني كنت أجلس خلف توفيق مباشرة. مررت له أجوبة الرياضيات ولكن في اليوم التالي خانت توفيق شجاعته في أن يمرر لي إجابات قواعد اللغة العربية ، فجن جنوني وقمت بطعنه بريشة القلم حتى أدمى قميصه مما جعله يميل يسارا ومميلا ورقته يمينا مما مكنني من نقل جميع الأجوبة .
لقد اربكني و أغضبني ارتباك توفيق لأنه كاد أن يفشل خطتي للنجاح ، ولكني كنت عند وعدي عندما مررت له أجوبة امتحان اللغة الإنجليزية في اليوم التالي.
عند ظهور النتيجة أحرزنا أنا وتوفيق المرتبة الأولى على كل الإقليم وسط دهشة الأهل والمدرسين(لم يتهمنا أحد بالغش ولم نكشف سرنا لأحد ) .نتيجة هذا التفوق فقد حزنا على منحة دراسية من وزارة المعارف المصرية . ولكن كبر سننا (عامين فوق سن القبول للثانوي ) حال دون ذلك . إضافة لاعتراض الوالدة بحجة انه لا أقارب لنا بالقاهرة ، بالرغم من أن الحكومة المصرية ستدفع لنا عشرة جنيهات مصرية كمنحة شهرية وهو مبلغ كبير بمقياس الثلاثينات .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
**.


للاحتفال بنجاحنا الدراماتيكي انضممنا إلى مجموعة من أترابنا للتجوال في منطقة السكن الإنجليزي وحدائقه الغناء المتنوعة الأشجار والزهور .كان لهم ملاعبهم الخاصة مثل حوض السباحة وميدان الجولف والكريكت وكذلك لهم ناديهم وكنيستهم الخاصة .
شوارع الحي هادئة تحفها الظلال ، الشوارع خالية وإذا صدف ورأينا أحد نساء أو أطفال الإنجليز، فإننا نقف نبحلق فيهم مشدوهين كأنهم آتين من كوكب آخر . بالرغم من جرأتنا وصغر سننا (حوالي 14 عاما) فإننا كن لا نلجأ للتخريب أو السرقة .

**

كانت هناك سيارتان فقط في مدينة عطبرة وكلاهما تعمل كسيارات أجرة ، ولكن بعد أن احترقت إحداهما وشوت السائق داخلها ، نفر الناس من استعمال الأخرى وبارت تجارة المالك .و اختفت السيارة من طرقات المدينة .
لم يحدث أن رأيت مدير عام سكك حديد السودان يركب سيارة . كنت أقابله في طريقي إلى المدرسة إما ذاهبا إلى مكتبه مشيا أو راكبادراجة هوائية . بقية العاملين يذهبون إلى عملهم مشيا او يستغلون قطار المدينة المحلي الذي يأخذهم من منطقة القيقر إلى أعمالهم ذهابا وإيابا وفي فسحة الفطور .
لندرة منافذ الترفيه في المدينة ، تجد الناس يجلسون جماعات أمام المنازل للأنس وتبادل الأخبار والنميمة حتى الساعة الثامنة .ثم يدخلون بيوتهم لتناول العشاء ومن ثم الذهاب للنوم ليصحون مبكرين لأعمالهم .
كان من النادر أن نغلق أبوابنا، فالسرقات نادرة الحدوث. أذكر انه في صباح أحد الأيام افتقدنا سرير والدي الذي يرقد فيه في فترة القيلولة تحت الشجرة أمام المنزل .رافقت الوالد لمركز الشرطة للإبلاغ عن الحادث. وهناك جرى الحوار الآتي بين والدي والمسؤول المناوب بمركز الشرطة .
- جئت أبلغكم سرقة سريري ، انه سرير مستعمل ولكن كلفني خمسة شلنات ، فمتى تردوه لي ؟
- سنحاول جهدنا . أولا سنطلب من الشاويش عمل التحري اللازم ، لا نستطيع أن نعدك برده ، وننصحك بشراء سرير آخر !!
- لم آتي إليك لتنصحني بشراء سرير بديل !! افرض أنه قد حصل عجز في خزنة السكة حديد التي في عهدتي وهي تحتوي على ما يزيد عن مائة جنيه ، هل ستعتقلني بتهمة السرقة أم سترد المبلغ من عندك ؟
وبعد ثلاثة أيام عدنا للمركز وتساءل الوالد بحدة :
- هل وجدتم سريري ؟
- لا ، ليس بعد.
- مضت ثلاثة أيام ولا أثر للسرير ؟ انه لأمر مخيف.
توجهنا من مركز الشرطة صوب مكتب الوالد . دلف الوالد إلى مكتبه ومكثت أنا على أريكة إسمنتية خارج المكتب . بعد ساعة رأيت قمندان الشرطة الإنجليزي و مستر كومنز مأمور الحركة بالسكة حديد يدخلون على الوالد في مكتبه .بعد خروجهم نفحني مستر كومنز مبلغ شلنين وقد كان في السابق يعطيني قرشا يتيما ، أظنه أراد أن يتعاطف مع الوالد في محنته .
انتشر خبر السرير ليس في عطبرة سكة حديد فقط ، بل صار مثار حديث سكان عطبرة البلد : (انه خسارة كبيرة)( لقد ذهب عهد الأمن والأمان) (سوف نغلق منازلنا بعد هذا) (ثلاثة أيام وحكومة جلالة الملكة لا تستطيع رد سرير !!!).وهكذا استمر اللغط والنقاش في مجالس عطبرة بقسميها .
في اليوم التالي جاء إلى منزلنا شرطي بصحبة رجل فارع الطول يحمل سريرا على رأسه .
- هل هذا سريركم يا سيدة ؟
ردت والدتي والسرور يغمرها
- نعم إنه بعينه
أمر الشرطي الرجل بوضع السرير في المكان الذي أخذه منه تحت ظل الشجرة أمام المنزل .
ولم تمض إلا ساعة واكتظ البيت بالمهنيين ) : حمدا لله على السلامة)( مبروك)(مال حلال لا يضيع) ( ربنا جعل لك فيه نصيب ) ( الآن اطمأنينا . كنا نظن أن المهدية قد عادت ثانية )
كان أبي وسط الرجال و أمي وسط النساء يردون على هذه المجاملات ويوزعون الحلوى والمشروبات على المهنئين.

**

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
لا زال يستحضرني ذلك العطف والحنان الذي كان يحيط به أبي أمي . فقد كان يشفق عليها من العمل المنزلي المضني . كانت طباخة ماهرة ومدبرة منزل حريفة ، تخبز الرغيف كل أسبوع وأحيانا تصنع الكسرة وفي أيام المناسبات تصنع الحلوى والكيك والبسكويت .لقد تعلمت ذلك منذ صباها الباكر في مدرسة الإرسالية و أضافت له من خبرة جيرانها المصريين. قبل أن تأتي نورا لتعمل وتعيش معنا ، كانت أمي تقوم بغسل ملابسنا بالماء المغلي مع الصابون الإسناوي وتقوم بكيها بعد تجفيفها . تنظف المنزل وتشرف على استحمامنا وقد كنت ساعدها الأيمن في كل ذلك ، لقد تعلمت الخدمة المنزلية منها . في بعض أيام الجمع والآحاد كان الوالد يقوم بطبخ السمك وهو الطبق المحبب لديه وتكون هي في زيارة أصدقاءها القليلين في حي القيقر أو تزور الإرسالية لتشبع هوايتها في الموسيقى والتراتيل الكنسية . كانت تقوم كل صباح بدعك ظهر الوالد بصابون الفنيك والليفة وهو يفعل نفس الشيء معها . كان يشتري لها العطر الذي تفضله ويعطيها الفلوس لشراء احتياجاتنا من إحدى الدلاليات . كان لأمي ماكينة خياطة سنجر تخيط بها لنا وللجيران .لم يكن لوالدي إجازة أسبوعية مثل بقية خلق الله ، فقد كان بائع التذاكر الوحيد (التذكرجي ) بمحطة عطبرة ، بالإضافة لذلك فقد كان يقوم بصرف المرتبات الشهرية للعاملين ويمتد عمله أحيانا إلى منتصف الليل طبقا لجدول مسير القطارات، لأن جامعي التذاكر بالقطارات (الكمسارية) يتخلصون من عهدتهم عنده قبل الالتحاق بقطار آخر . كان في أيام المرض يغادر المنزل وهو لا يكاد يأخذ نفسه بسبب داء الربو الذي لازمه منذ الصبا ، بالرغم من ذلك فإن راتبه لا يتجاوز السبعة جنيهات يصرفها كلها على احتياجاتنا ولا ينوله منها سوى عشرة شلنات لمقابلة شراء البيرة الاسكتلندية والتبغ .كانت أمي تعلق على ذلك قائلة : ( مسكين أبوكم !! بالرغم من عمله المضني ، لا ينال من راتبه إلا القليل ).

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(14)


محاباة وتمييز



كان في كل السودان مدرستان قبطيتان للمرحلة الثانوية - وهو أمر طبيعي نسبة لصغر الشريحة القبطية في هذا البلد- إحدى هذه المدارس في عطبرة والأخرى في الخرطوم .تستوعب المدرسة حوالي ثلاثين تلميذا كل عام . مدرسة عطبرة التي التحقت بها ، بها فصلان فقط . الفصل الأول وبه عشرون تلميذا والثاني به اثني عشر تلميذا مع احتمال عدم قبول أي تلميذ في العام القادم ،ذلك للأزمة المالية التي تمر بها المدرسة ، فالرسوم التي يدفعها التلاميذ غير كافية وليس هناك مورد آخر ولا دعم حكومي ولا مانحين أغنياء . كنا ندرس مادة العلوم العامة في الفصل لخلو المختبرات من المواد اللازمة وكان مدرس العلوم الوحيد يجوب مخازن السكة حديد متسولا بعض المواد . كانت الإدارة البريطانية تقف في وجه أي دعم قد تمنحه الحكومة المصرية لهاتين المدرستين . لقد سمعت من العم ديمتري أن الحكومة المصرية تدفع للإدارة البريطانية مبلغا سنويا يصل المائة وخمسون ألف جنيها لتصرف للخدمات الصحية والتعليمية للسودانيين ،ولكن المدارس القبطية لا ينالها من هذا الفيض قيض ، بحجة أن السودانيون هم فقط قبائل الشمال المسلمة أو قبائل الجنوب غير المسلمة . الفئة الأولى منهم هي التي يحق لها الاستفادة من المدارس الحكومية ،أما الفئة الثانية فقد تولت أمور التعليم فيها البعثات التبشيرية. و أضاف العم ديمتري : ( هذه عنصرية محضة ضد المواليد بأعراقهم ودياناتهم المختلفة ).
في عام 1933م كان هناك حوالي 720 تلميذا في مدارس الحكومة الابتدائية البالغ عددها اثني عشر مدرسة في كل المديريات الشمالية الست . يقبل من هؤلاء مائة تلميذ لكلية غردون التذكارية .في عام 1935م أنشئ معهد إعداد المعلمين بالدويم .
ليست المعايير الدراسية وحدها هي الفيصل للقبول للكلية ، بل أن الأمر يتوقف على توصية مفتش المركز . يتمتع هؤلاء المحظوظون بحياة مدرسية مرفهة من أكل ولبس وسكن ومختبرات ومكتبات وملاعب رياضية. أعرف من ضمن المحظوظين العطبراويين مجموعة من أبناء مهاجري غرب أفريقيا الجدد الذين يسكنون منطقة العشش ،وقد حرمت أنا السوداني لأني صنفت كمصري من قبل المفتش الإنجليزي الذي يؤدي واجبه في تنفيذ سياسات عليا .
لا زلت أذكر أحداث ذلك اليوم وكأنها قد حدثت بالأمس . إنه إحدى أيام عام 1934م ، أخذني الوالد لمقابلة المفتش الإنجليزي مستر جولدبيرج . كان المفتش يستمع للوالد بتبرم بيّن وهو يرجوه إصدار توصية لقبولي بكلية غردون مثل غيري من السودانيين ، ولكنه قاطع والدي في نفاذ صبر قائلا : ( السوداني يجب أن يكون مسلما أسودا ذو شلوخ قبلية ) ثم أضاف : ( إياك أن تفتح هذا الموضوع مرة أخرى وإلا سوف أرحلك إلى مصر ) ثم صرخ في عربية مكسرة : ( امشي برَة ) .
خرجنا من عنده والشعور بالضآلة والانكسار يملأ جوانحنا.من يومها بدأت كراهية والدي السلبية لكل الإنجليز. خيم الحزن والأسى على المنزل وكان وقع ذلك ثقيلا خاصة على أمي وردة ، التي لا تعرف لها وطنا غير السودان .
ليس أمامي غير الاستمرار في الدراسة بمدرسة الأقباط ويستمر معي دائي القديم الذي يسمى قواعد اللغة العربية.لحل هذه المشكلة طلب الوالد من مدرس المادة أن يتعهدني لساعة إضافية بعد الدوام المدرسي مقابل عشرة شلنات شهريا .هذه الساعة الإضافية تحتم علي السير لمسافة أربعة كيلومترات خمسة مرات في الأسبوع إلى منزل المعلم في الطرف الجنوبي من المدينة .
مدرس اللغة العربية مسلم ملتزم وقومي متحمس .كان يقول لي أن اتجاهاتك معكوسة : كان يجب أن ترسب في الإنجليزي وتتفوق في اللغة العربية ، وكان يقول في تعجب : ( كيف أحرز هذا الولد المرتبة الأولى في الامتحان !! ؟ إنها معجزة ! اسأل الله أن تتكرر المعجزة ) .
هذا الأزهري كغيره من الأزهريين يجهل كل علوم الدنيا ، ما عدا تخصصه كما أنه لا يعرف أي لغة أجنبية .
كانت أمي تصلي لنجاحي كل صباح ، وكان أبي يضع كل يوم أحد شلنا كاملا في طبق النذورات تضرعا للرب . بنهاية العام الدراسي تكررت المعجزة !! واستجاب الله لصلاة أمي!! وتقبل صدقات أبي !! فقد تبادلت الغش مع توفيق ونجحنا ثانية وأرحنا الجميع ..

**


معظم سكان المدينة يعتقدون بأن الفلاتة سكان العشش يستطيعون فعل أشياء خارقة بفعل السحر . في مرة من المرات وعندما كان عمري خمسة عشر عاما ، أعطيت أحدهم شلنا كاملا مقابل نوع من العروق قيل أن له تأثيرا قويا ،ولكن لم يحقق غرضي .عندما احتججت للساحر قال لي : (الفلوس القليلة تأتي بنتائج ضئيلة) ، فما كان مني إلا أن أعطيته شلنا آخر ولكن دون فائدة وتلك كانت آخر مرة الجأ فيها لساحر .عندما أسررت لخادمتنا نورا بخسارتي هذه ، ضحكت وقالت : ( أراهن بأنك كنت تنوي رمي فتاة في حبالك .) وصارت تستجوبني ولم تصدق أن العرق كان لقواعد اللغة العربية والفرنسية !! .
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد