منتديات السديرة
أنت غير مسجل لدينا . للتسجيل اضغط على زر التسجيل


منتديات السديرة
أنت غير مسجل لدينا . للتسجيل اضغط على زر التسجيل

منتديات السديرة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات السديرةدخول

رواية "صبي من النيل الأزرق

power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد
+6
وحيدة بدنيتي
ابوالزهور
monty
moon love
wellyee
عسيلاتي
10 مشترك

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
صارت الخرطوم تتحدث عن هذه الجريمة ،والأحكام الصادرة ، في انتظار تأييد الأحكام من السير استيورت الحاكم العام الجديد . صدرت صحيفة سودان غازيت _ الصحيفة الوحيدة في ذلك الزمن _ تحمل تأييد معاليه على الأحكام .كان لأعضاء المحكمة من السودانيين المسلمين دورا كبيرا لإصدار هذه الأحكام الرادعة ، مما جعلني الآن أتساءل :هل يمكن أن يقف هؤلاء نفس الموقف إذا لم يكون السودان تحت الإدارة البريطانية . أخبرني العم فانوس : إن في مصر وبقية دول الشرق الأوسط يذعن القضاة لضغوط المجتمع ولذلك يصدرون أحكاما مخففة فيما يعرف بجرائم الشرف . وأضاف العم فانوس قائلا : ( اسمع يا ابني .. طالما أن المرأة تعتمد على الرجل في معيشتها فإنها لن تكون ماسكة لزمام أمرها ، فلنعطى المرأة تعليما ووظيفة وسوف ترى المجتمع يتغير تلقائيا ..للأسف إننا بعيدين عن ذلك كل البعد .)

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
في أحد أيام الآحاد _ وما زالت قصة زينب هارون طرية في ألسن سكان العاصمة المثلثة - سمعت القسيس يتلو من سفر القديس جون قصة المسيح عليه السلام ،مع المرأة الزانية وقوله ( من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر ) .بعد القداس تقابلت مع متَى ،وهو أحد الشباب الأقباط زاملني بمدرسة الأقباط .توقفنا قليلا لنتكلم في موضوع الساعة _ قصة آل هارون _ وإشارة القسيس للموضوع في تلاوته .وبينما نحن وقوف انضمت لنا شقيقته ذات الأربعة عشر ربيعا وهي كمعظم نساء وبنات الأقباط غير جميلة ، لكنها مرحة . قام متَى بزجر أخته بعنف قائلا لها : ( اذهبي مع البنات ، إنك دائما تحشرين نفسك كلما رأيتنني أقف مع رجل ، إنك ستسودين سمعتنا وتجلبين لنا العار ).
عائلة متَى ليست من المواليد ،إنهم من الأقباط المصريين شديدي المحافظة في كل شيء ،خاصة فيما يخص العلاقة بين الجنسين . بعد عشرة أيام قابلت متىَ في منزل رمضانة .استغربت لذلك ،لأن رمضانة لا تحبه ، ولا ترحب به في المنزل.طلبت مني رمضانة أن أفهم متىَ بأنه غير مرغوب فيه ، وألا يعاود الحضور مرة أخرى . أخذت متَى من يده وخرجنا سويا .عندما كنا في الشارع المقابل لطاحونة المعلم مقار دعاني إلى منزله . في المنزل لم يقدمني لأي من أفراد أسرته - مازالت هذه العادة شائعة في وادي النيل -.كان منزلهم في منتهى القذارة، كأنهم لم ينظفوه منذ أن سكنوا فيه .وكان الذباب يقيم حفله في كل أنحاء المنزل .
شعرت بعدم الارتياح عندما سمعت صوت شجار يأتيني من مكان ما في المنزل .تسرب الخوف إلى نفسي، فهممت أن أغادر خلسة ،ولكن متى عاد ليجلس معي .كان بادئ الاضطراب ، تلمع عينيه بشيء من الفزع . قال لي : ( أبي قد ذبح أختي الآن ، لقد جلبت لنا العار ، وصلنا الهمس الذي يدور في المدينة بأنها قد أعطت عذريتها لشاب مسلم ) .لم أًصدق أذني وشعرت كأنني في كابوس وكنت استمع لمتَى وكأنني منوم مغنطيسيا : ( أريدك أن تشهد معي بأننا رأيناها معه في بيت رمضانة ).. جاء اسكاروس والد متى ليجلس معنا ، كان يتظاهر بالهدوء ، فكرت في الهرب ولكن أطرافي قد خانتني ، كنت أرتجف من شدة الشعور بالبرد والعرق يتصبب من جسمي . كانت الأحداث تمر سريعا وأنا جالس لا أقوى على الحراك . ما إن زغردت تفيدة أم متَى زغرودة الفرح ،حتى امتلأ المنزل بالنساء والأطفال كأنهم ينتظرون هذه الإشارة . وقفت وسط النساء وهي تصيح في حبور : ( لقد أزال أبوها عارنا وغسل شرفنا الملوث ). قام اسكاروس من مكانه وأحضر مدية ملوثة بالدماء ثم قال أمام الملأ : ( نعم قتلت بنتي و أنقذت شرف العائلة .أنا الآن ذاهب لأسلم نفسي للسلطات ليفعلوا بي ما يشاءون ) . كل ذلك يجري وأنا جالس في مكاني غير قادر على الحراك . وبعد حوالي ساعة جاء أحد القساوسة إلى المنزل .وبعده وصلت قوة من الشرطة بقيادة ضابط إنجليزي كما وصلت سيارة الإسعاف لأخذ جثة الضحية .أخذتني الشرطة مع اسكاروس و تفيدة ومتَى وأخواته الأربعة وستة أقباط آخرين قالوا أن لديهم ما يقولونه للشرطة ، وأغلق المنزل وختم على بابه بالشمع الأحمر.
عندما جاء دوري في التحري نظر إلي الضباط من إنجليز وسودانيين في استغراب وقال كبيرهم : ( أأنت مرة أخرى ؟ ما هي حكايتك ؟إن المشاكل تأتي معك أينما ذهبت ،!خبرني بعلاقتك مع هذه الأسرة منذ قدومك من عطبرة ) . أيقظني الشعور بالخوف من ذهولي ، فتمالكت نفسي وقلت برباطة جأش : ( إن علاقتي بالأسر القبطية جد واهية ) ثم حكيت لهم واقعة دخولي للمنزل وتهديد متى لي بالشهادة . ابتسم الضباط عندما قلت لهم : ( كل ما أعرفه عن الضحية : إنها كانت دميمة مثل سائر بنات الأقباط ).
استمر التحقيق لمدة ساعة تقريبا وبعد منتصف الليل جاء خالي ليصطحبني ، بعد إطلاق سراحي بكفالة مالية فذهبت مع خالي وأنا أتعثر في خطواتي من الخجل . وجهت تهمة القتل للأم والأب واقتيدا مقيدين للحجز . أما متى فقد أخلي سبيله بكفالة مالية كبيرة ليرعى أخواته .
بعد أسبوع من الحادث مثلنا أمام مستر واطسون قمندان البوليس .عندما جاء دوري في الدخول عليه رفع حاجبيه دهشة وقال : ( صوص !! أهذا أنت مرة أخرى .. مثل القرش الرديء !! ).بعد أخذ أقوالي جددت كفالتي المالية .كان من ضمن الماثلين أمام معاليه أربعة من النسوة لم أرهن من قبل وكانت تهمتهن القذف في حق الضحية مما تسبب في مأساتها .
بعد شهر انعقدت المحكمة الجنائية العليا برئاسة نفس قاضي آل هارون ،وعضوية قسيسين من الكنيسة القبطية . من ضمن حيثيات المحكمة: ( إنه وبعد الكشف على الضحية اتضح إنها لم تفقد عذريتها وقد قام الوالدين بإصدار حكمهما القاسي على الضحية بناء على إشاعات وأقاويل ).
بعد التداول حكمت المحكمة بالإعدام شنقا على الوالدين وعشرون عاما بالسجن للنساء الأربعة اللائى مشين بالإشاعة بين الناس وقد حكم على متَى بالسجن خمسة عشر عاما مع إيقاف التنفيذ ليعول أخواته.

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
إن الأحكام الرادعة بخصوص هاتين القضيتين( آل هارون وآل متَى ) كانت رادعا قويا في عدم تكرار هذا النوع من الجرائم في السودان الإنجليزي .وبسبب هذه الأحكام كانت بعض الأسر القبطية ترسل بناتها إلى مصر ليقتلن هناك .
قابلت متَى في أحد أيام عام 1948م _ أيام طلاق الملكة فريدة من الملك فاروق ) كان في حالة يرثى لها وعلمت منه أن أيٍ من أخواته الأربعة لم تتزوج . أحزنني حاله وقدمت له مبلغ خمسة جنيهات مساعدة مني .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
28)


حسن



بدأت صداقتي مع حسن بائع التمر والدوم منذ أول أيام دخولي مدرسة الأقباط .وازدادت صداقتنا بعد معركتي المشهودة مع بعض تلاميذ المدرسة . كان حسن شابا أميا ولكنه يحفظ كثيرا من القرآن ويعرف الأحكام الشرعية .كان حكيما وشجاعا وكريما كرهطه من مجموعة الفولاني التي ينتمي لها . توفت عنه زوجته وتركت له طفلة واحدة .كانت له رغبة ملحة في التعلم وكنت أعلمه القراءة والكتابة ومبادئ الحساب.كان يعمل حارسا لغابة النيل الأبيض التابعة لمصلحة الزراعة و الغابات كان يسكن في كوخ داخل الغابة وكنت كثيرا ما أزوره وأشاركه الطعام . كنت أشاركه قراءة القرآن وكان يقول لي عندما عند ما يراني في حالة نفسية سيئة : ( إن الإيمان بالله والإسلام هو الحل ) قد أثر في حسن تأثيرا كبيرا حتى صرت استمع للمدائح النبوية وأنصت خاشعا للآذان .
كنت بعد تركي الكمبوني أقضي الوقت باحثا عن عمل ،ثم اذهب لارتاح مع حسن . ما اصعب البحث عن وظيفة في ذلك الزمن . كنت اعتقد إنه من السهل الحصول على وظيفة في الخرطوم ، التي يسميها أهلنا في عطبرة بكرش الفيل . كانت الوظائف قليلة والمنافسة كبيرة ، فقد كنت دائما آخر القائمة في كل منافسة وظيفية . بالرغم من أنه ما زال في دفتر توفيري مبلغ اثني عشر جنيها ولكن تجربة البحث في الخرطوم أمَرَّ بكثير من تجربتي في عطبرة .
في أحد الأيام ذهبنا أنا وحسن بصحبة بنته إلى منطقة الديوم _ وهو ما يماثل العشش في عطبرة _ كان حسن قد رتب لبنته أن تعيش مع أحد الأسر وهو المكان الطبيعي ليراها الخطاب بعد أن بلغت العاشرة وهكذا ربطت بيننا الصداقة كنا معا في كل مناسبة .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(29)


ناسخ : 1937م


استأجر فؤاد شقيق عزيزة آلة كاتبة ليعلمني النسخ عليها حتى أكون مؤهلا للوظائف الكتابية . ووجد لي خالي لبيب وظيفة ناسخ على الآلة الكاتبة بمصلحة الزراعة والغابات ، براتب قدره ثلاثة جنيهات في الشهر .
في أول يوم للعمل ذهبت مع فؤاد ليقدمني لناشد أفندي باشكاتب المصلحة وهو قبطي قصير ذو كرش بارزة .
نظر لي ناشد أفندي مليا ثم قال بصوت عال : ( أنت العفريت العطبراوي ؟لقد سمعت عنك الكثير .. أشياء لا تسر ، أرجو أن تحسن التصرف ولا تحرج الذين أوصوا عليك) .وقدمني بدوره إلى كبير المترجمين أحمد أفندي علي وهو شاب مصري ،طيب المعشر، أسمر اللون، فارع القامة ،ممتلئ الجسم ،ذو أسنان غليظة تملأ فمه وتبرز للخارج . كان ينادى أحمد بيه لكثرة استعماله لهذه الكلمة . أحمد بيه مترجم ممتاز ، درس لمدة عامين في كلية هانديرست في بريطانيا ، كان نقيبا في الجيش وقد فصل منه لنشاطه السياسي. متزوج وأب لعشرة أطفال وقد قال لي مازحا : ( لو أستطيع لجعلتهم عشرين حتى يكون لي جيشي الخاص ) كان متزوجا من فتاة مصرية ذات أصول تركية وهي في غاية الجمال . توثقت العلاقة بيننا سريعا وكمعظم المصريين كان حب السياسة يجري في دمه . كان يوصيني بالحيطة والحذر وأن أكتم ما يدور بيننا من حديث حتى لا يتسرب لجهات أمنية . كان يعيرني الكتب وكانت مواضيعها في غاية الجدة بالنسبة لي ، قرأت جمهورية أفلاطون باللغة العربية . كانت الكتب والمنشورات تأتيه بالبريد داخل أحد المجلات المصرية الصادرة في مصر ، فكان لا يفتح بريده في المكتب إطلاقا .
كانت وظيفة الناسخة رتيبة ومملة ولكن وجود أحمد بيه كان له الأثر الأكبر في بقائي بالوظيفة .
قدمني لأعضاء النادي المصري الواقع في شارع فكتوريا . كان يقول لي بتحريض يجب أن تعلن مصريتك ما دامت قد حرمت من كلية غردون.تعلمت منه حب القراءة وكان لنا في مكتبة النادي المصري خير منهل , فأكثرت زياراتي للنادي حتى إني كنت أتناول غذائي هناك في بعض الأحيان مما يكلفني شلنا كاملا .هذا الانشغال بالقراءة والنشاط الاجتماعي في النادي المصري لم ينسني صديقي حسن الذي كان يصطحبني كل جمعة لزيارة ابنته في الديوم .

**


في أحد الأيام سألت الباشكاتب ناشد أفندي :(هل من الممكن أن ترسلني المصلحة لمدرسة الزراعة بشمبات ؟)
فأجاب : (هذا من الصعب لأنها في مستوى جامعي ويقبل فيها خريجي كلية غردون فقط ).بعد شهر قررت أن أخطو الخطوة التي فكرت فيها طيلة هذا الشهر : أن أذهب لرئيس المصلحة الإنجليزي – مستر باكون . كنت أعرفه قبل التحاقي بالعمل معه ، فقد كنت أراه على صهوة جواده متفقدا غابة النيل الأبيض وبعد التحاقي بالعمل كنت أراه لماما ولم يحدث أن كلمته . دخلت مكتبه وقلت له :
- سيدي ،أود أن انضم لحرس الصيد ، فإنني أحب الحيوانات وهي تحبني
تبسم مستر باكون - وطلب مني الجلوس ولكنني ظللت واقفا – ثم قال وباقي ابتسامته ما زال عالقا :
- إن الجميع هنا مهتمون بمستقبلك ، فؤاد وناشد أفندي وأحمد بيه .، كان بودي أن أحقق رغبتك ولكن كما تعلم أن الفريق الذي يعمل في حرس الصيد والغابات ينقسم إلى ثلاثة أقسام : العمالة الغير ماهرة مثل صديقك حسن ، ثانيا خريجي مدرسة شمبات الزراعية وأخيرا المسئولين الإنجليز .
رجعت مكتبي وأنا في غاية الإحباط واليأس ولم أجد أمامي ما أفش فيه غضبي غير آلة النسخ المسكينة.. فأتلفتها. في اليوم التالي أحضر لي مستر باكون أعداد من سلسلة مجلة الحياة الفطرية الصادرة في لندن.
أنبني ناشد أفندي لتخريبي آلة النسخ ولم يجد إنكاري بأنه فعل متعمد .أخيرا قلت : (له إنها آلة قديمة انتهى عمرها الافتراضي وقد دنت ساعتها فماتت كما يموت كل كائن ). فما كان منه إلا أن أمسك أذني وجرها إليه في غيظ وأنا أصرخ من الألم بينما انفجر باقي الزملاء ضاحكين .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(30)


التحدي : 1938م


أنا وعزيزة تزداد علاقتنا متانة .الكل يتوقع أن أخطو خطوة ،ولكن كيف السبيل إلى ذلك وراتبي ثلاثة جنيهات .كان رفضها لكل المتقدمين لها يزيد من مسئوليتي نحوها .
بارك الله في صديقي أحمد بيه : فقد لاحظ صمتي وتفكيري وصارحني قائلا : ( أنا أعرف ما يشغلك ، لدي خطة لو نجحت فسوف تنهي كل آلامك ) . كانت خطته أن أجلس لامتحان الخدمة المدنية بمساعدة الجميع،
. وإذا كتب لي النجاح فسوف أعيَّن على المرتبة جي ويرتفع راتبي لخمسة جنيهات .إنها خطة تحتاج لجهد كبير وخاصة لشخص مثلي ، تاريخه المدرسي كله فشل وخزيان.تبقى للامتحان إحدى عشر س شهرا . واصل أحمد بيه في شرح خطته قائلا : ( يمكنك أن تعلن خطبتك لعزيزة في شهر أبريل 1939م) .
كان الامتحان يتكون من اللغة الإنجليزية ،الرياضيات ،المعلومات العامة والترجمة ، كما يجب اختيار مادة خامسة واقترح علي أحمد بيه أن تكون النسخ على الآلة الناسخة وهذا ما يعطيني ميزة على بقية الممتحنين .
• لا زلت أذكر ذلك اليوم ، هو يوم 18/01/1938م يوم زواج فاروق ملك مصر والسودان من الملكة فريدة . في ذلك الصباح قام أحمد بيه بصياغة الطلب الرسمي وتم توقيعه من ناشد أفندي ومن ثم أرسل لمستر باكو لتوقيع النهائي .بعد منتصف النهار عاد الطلب وعليه التوقيع المطلوب .قام أحمد بيه بإرساله في نفس اليوم إلى مكتب السكرتير الإداري . بمساعدة أحمد بيه والخال لبيب وفؤاد و أقرباءه تم تدبير الكتب اللازمة كما أمدني مستر باكو ببعض أوراق الامتحانات السابقة .وتقسم الأصدقاء والأحباب فيما يشبه ورشة العمل ، فكانت الرياضيات بإشراف أحمد بيه واللغة العربية بإشراف فؤاد أفندي والإنجليزية بإشراف الخال لبيب والمعلومات العامة بإشراف بطرس شقيق نعيمة . علق ناشد أفندي على ذلك قائلا : ( الكل مهتم بك ، بعض الفئران لها حظوظ عظيمة ، لا عذر لك بعد ذلك ) .كان الجميع يحذرني من الفشل وقد أدخل عليَ هذا الاهتمام الجمعي كثيرا من الخوف والرهبة ولكنني قبلت التحدي . كان الخال لبيب يقول لي : ( إذا كان لديك أيُ مشكلة قلها الآن لنعمل على حلها وبعد ذلك لا عذر لديك ، إنك الآن في العشرين من عمرك ، وإن لكل مشاغله وهذا هو مستقبلك أنت ).
في شهر يناير عام 1938م جلست للامتحان من ضمن ثمانين ممتحنا لنتنافس خمسين فرصة وظيفية في المرتبة جي . بعد الامتحان التحريري هناك مقابلة وامتحان شفهي ، كانت لجنة المقابلة تتكون من عشرة أعضاء ثلاثة منهم من السودانيين الذين على رأس العمل بالخدمة المدنية واثنين من السودانيين المتقاعدين والخمسة الباقين من الموظفين الإنجليز ومنهم مستر باكو مدير مصلحتنا . يبدو أن الأعضاء كانوا يعرفون الكثير عني قبل دخولي عليهم وهذا ما أقلقني وشتت تركيزي .وقد أخذت الشهور القليلة التي قضيتها كصبي خباز كثيرا من اهتمامهم. كما توقفوا عند حدث حصل لي عندما كان عمري عشرة سنوات ، عندما قبض علي وأنا متعلقا على قمة نخلة طويلة التقط منها البلح ، وكان عزيز ومجيد ينتظران تحت النخلة ، فهربا عندما رأيا عسكري السواري قادما نحوهما . مكثت متعلقا على قمة النخلة لمدة ساعة ، لينصرف العسكري ولكنه لم يفعل. فاستسلمت له وتم جلدي ست جلدات مع مصادرة البلح .كانت تلك الشجرة تابعة للبلدية ، لذلك كان دفاعي أمام أعضاء لجنة المقابلة : ( لا أحد يملك تلك الشجرة ) فانفجر أعضاء اللجنة ضاحكين عند سماع دفاعي مما زاد من ارتباكي ، وكادت شجاعتي أن تخونني . كنت مرتبكا من البداية لأنني لم أتوقع أن أسأل عن هذه الحادثة التي نسيتها مثل كثير من أحداث الطفولة . قال لي أحد شيوخ الخدمة المدنية :
- يبدو إنك كنت شقيا.
- لا يا سيدي ، بل نعم ، فلقد كنا أطفالا صغارا ولا أحد يملك تلك الشجرة ولا أحد يريد أن يقدر ذلك.
لقد كنت أتساءل في نفسي هل هذه هي المقابلة المنشودة ؟ أم إنهم يودون السخرية مني ثم يدخلون بعد ذلك في صلب الموضوع ؟ ولدهشتي سمح لي بالانصراف ولم يتطرقوا لأي موضوع آخر .
خرجت من اللجنة وأنا في غاية الإحباط ذهبت إلى منزلنا سيرا على الأقدام وعندما دخلت المنزل كان به عزيزة ونعيمة وما أن رأياني حتى بادراني بالسؤال في صوت واحد :
- ما الخبر ؟
- لقد فشلت وسوف أسافر إلى بوخارست أو بودابست.
ثم ذهبت إلى غرفتي ولحقت بي نعيمة لتخفف عني : ( لقد فعلت ما في وسعك لا أحد ينكر ذلك ولكن يجب الا نتوقع البلاء قبل وقوعه ، لقد أزعجت عزيزة فذهبت مهمومة إلى بيتها ). لقد فعلت نعيمة ما في وسعها لتخفف عني ولكن يأسي أكبر من أن يخفف عنه. بعد ذلك وصل الخال لبيب البيت وشرح لي الأمر من ناحية إدارية : ( الحكومة لن تفصلك من عملك ولكنك سوف تكون محلك سر - أي ناسخ على الآلة الكاتبة طوال عمرك،أما موضوع السفر فيمكنك أن تناقشه مع أحمد بيه و سوف يفيدك أكثر مني ) ثم أضاف بعض النصائح : ( خذ إجازتك السنوية وأطلب تذكرة قطار للإسكندرية ولكن يجب أن تؤجل كل هذا بعد ظهور النتيجة رسميا ) ، فقلت له والعبرة تخنقني : ( لن أنتظر حتى أبلغ رسميا ) .
في اليوم التالي تكلم معي أحمد بيه بأسلوبه الودي اللطيف : (إنه من المبكر أن أتقدم باستقالتي ولن يضيرني شيئا إن انتظرت حتى ظهور النتيجة ) . دعاني ناشد أفندي إلى مكتبه ليوبخني : ( لقد أخرجك حبك عن طورك ، سوف تعرف النتيجة في نهاية فبراير ، لذا أحفظ استقالتك حتى أول مارس . إنك تستحق إجازة سنوية قدرها ثلاثة أسابيع ونصف تذكرة بالدرجة الثالثة حتى الإسكندرية ، ومن هناك تأخذ تذكرة على سطح السفينة – On Deck Ticket – وهي رخيصة جدا وأنا سوف أساعدك لأتخلص منك ولذلك سوف أكتب لأخي ليقابلك في القاهرة ويتولى أمرك ) ثم تبسم في وجهي فقلت في نفسي : ( يالك من قبطي مضجر حتى وأنت تبتسم ) .
في فترة انتظار النتيجة عافت نفسي الطعام و كانت تنتابني نوبات صداع عصبي لا تنفع معه كل مسكنات الدنيا .كانت عزيزة تتجنب مقابلتي ولكنها كانت تزور نعيمة في غيابي لتتقصى أخباري .
في نهاية شهر فبراير دعاني ناشد أفندي إلى مكتبه ،ودعا أيضا فؤاد وأحمد بيه .كان وجهه خاليا من أي تعبير ، دعاني للجلوس لأول مرة مما زاد من خوفي وتوتري ، ثم قال بأسلوبه الذي لا أحبه : ( هل أنت من الرجولة بحيث تتحمل بعض الأخبار . أعلم إنك أضعف من أن تتحمل هذه الأخبار. ) ثم أبرز خطابا من درجه قائلا : ( هذا الخطاب وصل من مكتب السكرتير الإداري منذ ساعتين وقد احتفظ به مستر باكون لبعض الوقت لأنه احتار كيف يفجر النبأ ) .ثم قدم لي الخطاب ففضته بيد مرتعشة وكان فحواه بأنني قد اجتزت امتحان الخدمة المدنية لأسكن بالمرتبة ( ) ابتداء من يوم 15/02/1939م ليكون راتبي خمسة جنيهات ونصف .
لم أصدق عيني وللحظات كنت أظن أنها مزحة من ناشد أفندي . ولكن ناشد أفندي مثال للموظف المنضبط وإذا أراد أن يمزح _ وقلما يفعل ذلك – فلن يصل به المزاح لهذا الحد . تسابق فؤاد وأحمد لأخذ الخطاب من يدي وما هي لحظات ، إلا وكنت أنتقل من حضن أحدهما للآخر وهم يقبلاني في فرح ، أمَا ناشد أفندي فما زال سادرا في تعليقاته المضجرة مثل :( يضع سره في أضعف خلقه ) وبالرغم من ذلك فقد شكرته فهو بلا شك يتمنى لي كل خير في داخله ولكن يعوزه الأسلوب . رد ناشد أفندي على شكري ناصحا : (( لا تعتقد أنك وصلت نهاية المشوار ، إنها البداية ،فأمامك امتحان المرتبة اتش ( H) ).رجعت لمكتبي وقام بقية الزملاء بتهنئتي في ود حقيقي

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
31)


خطوبتي من عزيزة



تصغر نعيمة خالي لبيب بثلاثة سنوات ، وبالتالي فهي أصغر من أمي ، أقول ذلك لأن ترتيب الأعمار له أهمية كبرى عند مجتمع المواليد وكثير من المجتمعات السودانية الأخرى . ترتيب السن لا يسمح لنعيمة أن تفاتح وردة في أمر خطوبتي ، ولكن لما لها من شخصية قوية وعقل راجح وتأثير على كل عائلتنا الممتدة ، استطاعت أن تدبر الأمر مع أمي وخالي لبيب . كانت تحب لبيب وهي العقل المدبر لشئون عائلتهم الصغيرة ، كانت ترفد لبيب بالأفكار والنصائح ولكنها كانت توحي للجميع بأن خالي هو الكل في الكل وأن جميع الأمور في يده والباقين عليهم التنفيذ والطاعة ،حتى تحفظ للخال مكانته كرجل البيت . لقد كنت محظوظا في أن أكسب عطفها وثقتها حتى قبل أن تبدأ علاقتي مع عزيزة . فقد كانت أول شخص أبوح له بميلي نحو عزيزة . كانت تطلب مني أن أناديها بأمي وقد كانت مثل أمي في حبها ورعايتها لي .
بعد مضي عام من تثبيتي بالخدمة المدنية ، زارت أمي وردة أم درمان في طريقها لود مدني .استطاعت نعيمة أن تبقيها أسبوعا آخر حتى يمكنها أن تتعرف أكثر على عزيزة . أعجبت وردة بعزيزة وقالت لأمينة ما بين الاعتراض والتأسف: ( ولكن صوص لا يملك مالا و ما زال صغيرا ومتهورا ولم يتحمل المسئولية بعد حتى إنه لا يساهم مع أيوب في مصاريف البيت ).
بعد نهاية الزيارة سافرت نعيمة وعيالها مع أمي ليقضوا أياما بود مدني وكان موضوع خطبتي هو الموضوع الساخن في جلسات الأنس هناك . عند غياب نعيمة في ود مدني كنا أنا وخالي نتناول طعامنا عند فؤاد .كنت أظن أن الجو سيخلو لي ولكني فوجئت بتحذير خالي وفؤاد من مقابلة عزيزة،.احترمت تحذيرهم لأن قصة آل هارون ما زالت عالقة في الأذهان.فكنت أقلل من ساعات مكوثي في البيت وأكثر من زيارات صديقي حسن. خانتني شجاعتي أن أفاتح أبي في موضوع الخطوبة وترك الأمر لأمي مع خطاب بكل التفاصيل من خالي لبيب كما تحمس العم فانوس لخطوبتي ووعد أن يتولى أمر أيوب. كان ذلك في أوائل عام 1938م وهذا يتزامن مع اتفاقية ميونيخ بين بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكذلك مع بداية استعدادي للجلوس لامتحان الخدمة المدنية كما ورد سابقا .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz

31)




خطوبتي من عزيزة




تصغر نعيمة خالي لبيب بثلاثة سنوات ، وبالتالي فهي أصغر من أمي ، أقول ذلك لأن ترتيب الأعمار له أهمية كبرى عند مجتمع المواليد وكثير من المجتمعات السودانية الأخرى . ترتيب السن لا يسمح لنعيمة أن تفاتح وردة في أمر خطوبتي ، ولكن لما لها من شخصية قوية وعقل راجح وتأثير على كل عائلتنا الممتدة ، استطاعت أن تدبر الأمر مع أمي وخالي لبيب . كانت تحب لبيب وهي العقل المدبر لشئون عائلتهم الصغيرة ، كانت ترفد لبيب بالأفكار والنصائح ولكنها كانت توحي للجميع بأن خالي هو الكل في الكل وأن جميع الأمور في يده والباقين عليهم التنفيذ والطاعة ،حتى تحفظ للخال مكانته كرجل البيت . لقد كنت محظوظا في أن أكسب عطفها وثقتها حتى قبل أن تبدأ علاقتي مع عزيزة . فقد كانت أول شخص أبوح له بميلي نحو عزيزة . كانت تطلب مني أن أناديها بأمي وقد كانت مثل أمي في حبها ورعايتها لي .
بعد مضي عام من تثبيتي بالخدمة المدنية ، زارت أمي وردة أم درمان في طريقها لود مدني .استطاعت نعيمة أن تبقيها أسبوعا آخر حتى يمكنها أن تتعرف أكثر على عزيزة . أعجبت وردة بعزيزة وقالت لأمينة ما بين الاعتراض والتأسف: ( ولكن صوص لا يملك مالا و ما زال صغيرا ومتهورا ولم يتحمل المسئولية بعد حتى إنه لا يساهم مع أيوب في مصاريف البيت ).
بعد نهاية الزيارة سافرت نعيمة وعيالها مع أمي ليقضوا أياما بود مدني وكان موضوع خطبتي هو الموضوع الساخن في جلسات الأنس هناك . عند غياب نعيمة في ود مدني كنا أنا وخالي نتناول طعامنا عند فؤاد .كنت أظن أن الجو سيخلو لي ولكني فوجئت بتحذير خالي وفؤاد من مقابلة عزيزة،.احترمت تحذيرهم لأن قصة آل هارون ما زالت عالقة في الأذهان.فكنت أقلل من ساعات مكوثي في البيت وأكثر من زيارات صديقي حسن. خانتني شجاعتي أن أفاتح أبي في موضوع الخطوبة وترك الأمر لأمي مع خطاب بكل التفاصيل من خالي لبيب كما تحمس العم فانوس لخطوبتي ووعد أن يتولى أمر أيوب. كان ذلك في أوائل عام 1938م وهذا يتزامن مع اتفاقية ميونيخ بين بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكذلك مع بداية استعدادي للجلوس لامتحان الخدمة المدنية كما ورد سابقا .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(32)

عقد القران
(نصف إكليل)

الآن كل زملائي في المكتب يعلمون أن عقد قراني على عزيزة – وهي خطوة أكبر من الخطوبة _ قد أصبح وشيكا .صار بعضهم يناديني بلقب العريس ،ويسأل فؤاد عن موعد الاحتفال . كان من الصعب عليَ وعلى فؤاد الإجابة على هذا السؤال ، لأن تحديد الموعد يتم بواسطة الأسرتين مجتمعتين وراعي الكنيسة التابعتين لها . إبداء الآراء وتبادل الرسائل قد بدأ بالفعل منذ زمن. فقد داوم الخال لبيب على كتابة خطابات للوالد، تحوي كل التفاصيل .فكتب الوالد -عملا بنصيحة لبيب - خطابا لفؤاد يشرح له مجمل رأيه في الموضوع . وهنا أورد لكم بعضا من فقراته : [ يشرفنا أن يتم ذلك ولكن صوصا ما زال صغيرا يافعا لا يقدر المسؤولية . إذا اقتنعتم أنت ولبيب بأن ذلك ممكنا، فإنني أحملكم المسؤولية المترتبة على هذا القرار الخطير . إنني أنصح بالاكتفاء بخطوبة مبسطة .. وليس عقد قران في الوقت الحالي. على أن على أن يتم العرس خلال فترة تمتد من عامين إلى خمس أعوام . إنني أتشرف بهذه العلاقة وأشكركم على رعايتكم لابني . وبما إنه تحت رعايتكم وإشرافكم ، فلكم أن تعملوا كل ما ترونه في مصلحته .و أرجو أن يكون واضحا للجميع … بأن الولد يجب أن يتحمل كل المصاريف . وأضعها أمامكم واضحة بأنني لست مسؤولا عن أي أعباء مالية تتعلق بهذا الموضوع ، وآمل ألا يفهم هذا بأنه زهدا مني في الاقتران بعائلتكم ، فانه يشرفني أن تكون عزيزة عضوا في عائلتي وهي بمثابة بنتي }
كانت التقاليد توجب أن تجتمع الأسرتين عدا شخصي وعزيزة ، لمناقشة التفاصيل وتفاصيل التفاصيل . وقد تم ذلك بعد أربعة أسابيع . حضرت أسرتي بكاملها من عطبرة خصيصا لهذا الغرض .طُلب منا أنا وعزيزة مغادرة المنطقة ، فذهبت عزيزة لأحد أقاربها الساكنين قرب قبة المهدي ، وذهبت أنا للديوم بصحبة حسن لزيارة ابنته. كان الاجتماع يضم أبي ،أمي ، خالي لبيب ،وزوجته نعيمة ،فؤاد وشقيقته ونسيبه بولس ، الخال جاد الرب و أحمد بيه كعنصر محايد يستطيع الطرفان أن يحتكموا إليه إذا دعا الأمر .
بعد رجوعي في المساء علمت أن الاجتماع قد أقر عقد القران و تأجيل الزواج ، كما أقر أن يكون المهر من حر مالي ، حتى أثبت لهم أهليتي للزواج . قُدِر المبلغ بأربع وخمسون جنيها تفاصيلها كالآتي :

خمسة وعشرون جنيها للذهب والمجوهرات وخاتمي الزواج
سبعة جنيهات للطعام خلال أيام الاحتفال الأربعة
سبعة جنيهات مصاريف جيب لفؤاد ( تدفع للأب إذا كان على قيد الحياة
ثلاثة عشر جنيها لملابس عزيزة وتشمل فستان الزفاف

هذه الأشياء تستعمل مرتين في عقد القران ثم تحفظ لتستعمل مرة أخرى عند إكمال مراسيم الزواج.
وقد تقدم بعض الأهل بالمعونات الآتية :
عشرة جنيهات من الأهل بود مدني
خمسة جنيهات من الخال جاد الرب للعطور
خمسة جنيهات من الوالد لعزيزة
خمسة جنيهات من العم فانوس
ثلاثة جنيهات من أحمد بيه فهو الآن من زمرة الأهل

تعامل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية نصف الإكليل معاملة صارمة ، كأنه زواجا كاملا .لذا يعتبر فسخ هذا العقد من الأمور الصعبة ، التي تتطلب تحقيقا مطولا من الأبرشية في مصر .والتي قد تفرض تعويضا ضخما للطرف المتضرر ضد الطرف المتسبب . كما إن ناقض هذا العهد سوف يجد صعوبة في الزواج من أخرى ، لأن بقية الأسر لن توافق على قبوله .وبذلك يصبح منبوذا في مجتمعه.
هذا العقد يسمح لنا أنا وعزيزة بالخروج سويا بصحبة مرافق .كما يسمح لنا بتبادل الزيارات في منازلنا والتماسك بالأيدي .

**


في اليوم التالي أحضرت كامل المبلغ للمهر ، وأعطيته لنعيمة بحضور أمي , الحبوبات وشقيقة عزيزة . في المساء ذهب هذا الجمع للصائغ لاختيار الذهب والمجوهرات . علمت بعد عدة سنين بأن عزيزة أعطت خفية لنعيمة مبلغ عشرون جنيها إضافة لما رصد من قبلي لشراء عقدا وتاجا كانت قد أوصت عليهما الصائغ . قلت علمت بذلك متأخرا ، لأن الرجل وهو الذي يتكفل بمصاريف الزواج ، كما جرت العادة في مجتمع المواليد . ومن عاداتنا أن تختفي العروس من أعين الناس في الأيام السابقة للاحتفال. كما يجب أن تخضب يديها ورجليها بالحناء وكذلك يفعل العريس .وعندما رفضت ذلك أجبرنني نساء العائلة على تخضيب يدي اليسرى ومن عاداتنا في مثل هذه المناسبة الاستعمال الكثير للعطور من قبل الجميع رجالا ونساء .

**

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
**


بتصديق خاص من الأبرشية القبطية في مصر، سمح لنا بإقامة حفلنا الديني في فناء منزل الخال لبيب ، بدلا من الكنيسة .مراعاة لحالة الطقس في ذلك الشهر – أبريل – وقد درجت الكنيسة بنصح رعاياها بإقامة زيجاتهم في الفترة بين شهري نوفمبر و فبراير ،وقتئذ تهبط درجة الحرارة إلى العشرين مئوية في ليل أم درمان .هذه المناسبات تجذب كثيرا من الناس ، كثيرا منهم مدعوا بواسطة أصدقاء الأصدقاء ، فهو مصدر فخر لأصحاب المناسبة ، لأن التجمع الكبير والضجيج العالي يدل على مكانة العائلة وتواصلها الاجتماعي.
نصب الصوان و صفت الكراسي المستأجرة في فناء منزل الخال ، منها أربعة كراسي مميزة وضعت مقابلة للجمع وهي للعروسين ووصفائهما ، وصيف لكل منهما -يدعونه الوزير - ويجب أن يكون غير متزوج . أُجلس القسيس و جوقته على أريكتين خشبيتين متقابلتين .
بعد مغيب شمس ذلك اليوم ، تحرك موكب العروس من منزل أهلها وهو ما يعرف بالزفة . عند وصولها منزل الخال قابلها القسيس ومعاونوه بالتراتيل الدينية المصحوبة بالموسيقى المصرية الكلاسيكية . يتوجب على عزيزة تقبيل الصليب الكبير المنصوب أمام منزل الخال ، ثم تقبيل يد القسيس الذي يرشها بالماء المبارك . استغرقت العروس عشرة دقائق حتى تصل لكرسيها على بعد ثلاثين مترا من مدخل صوان الحفل . بعد جلوس عزيزة على كرسيها خطب القسيس خطبة قصيرة جاء فيها : ( أنا خادم الرب وراعي هذه المناسبة السعيدة ، أزف إليكم :أن صوصا وعزيزة سوف يدخلان مرحلة حاسمة من حياتهما :- إنها نقطة اللاعودة . ولكن قبل أن نبدأ نود أن نعرف ، هل منكم من له اعتراض على إتمام هذا الأمر . ) ثم توقف لمدة دقيقة ساد فيها الصمت ولم يتقدم أحد باعتراض .ثم استأنف القديس عمله بتوجيه دخان البخور نحو العروسين ، ونثر الماء المبارك عليهما ،ثم قدم موعظة في شأن المؤسسة الزوجية وواجبات الزوجين تجاه بعضهما .
عندما طلب مني القسيس أن أبرهن على اعتباري لعزيزة ، قامت نعيمة بإحضار المهر. كان طقما ذهبيا مكونا من عقد ذهبيا مطعم بالزمرد والماس وتاج من شاكلته . كان يتوجب على أن ألبسها هذا الطقم مع خاتم الزواج أمام الجميع .ثم طلب منا أن يقبل كل منا الآخر وسط تصفيق الحضور وزغاريد النساء _ من ضمن الاستعدادات في نهار يوم الحفل أشرفت أمي على نظافة فمي بغسله بالصابون الإسناوي بعد أن نظفت بقايا الطعام بين أسناني بشوكة نباتية _ . كانت لحظات جياشة بالمشاعر الحميمة عندما جاءت حبوبة خالدة لتحضنني وتشمني كعادتها ، ثم قالت ودموع الفرحة تكاد تخنقها : ( الحمد لله الذي أحياني إلى هذا اليوم ، ما في أحلى من الجَنَى إلا جَنَى الجَنَى {ما في أعز من الابن إلا الحفيد} ، ربنا يحميكم من أولاد الحرام )
لقد سرني حضور العم فانوس هذه المناسبة .فقد انهمك في الحديث مع عزيزة ولقد رأيتها تنفجر ضاحكة بين الفينة والأخرى . يبدو إنه كان يحكي لها طرفا من نوادر وشقاوة طفولتي ، كما رأيت الوالد يدخل في حديث حميم ، مع أحمد بيه وناشد أفندي اللذان حضرا المناسبة مع بقية الزملاء ، وقد تغيب كما هو متوقع المدير الإنجليزي مستر باكون.
في اليوم التالي وكما جرت العادة ، تكفل الجيران بوجبة الغذاء من منازلهم .أما الأصدقاء القادمون من أماكن بعيدة من العاصمة وخارجها ، فقد تكفلوا بإحضار المشروبات بأنواعها.حرص جمع كبير من العائلة وأصدقائها على الحضور ، أخذ بعضهم إجازة محلية لمدة أسبوع و منهم من أخذ إجازته السنوية خصيصا لهذه المناسبة ، ومن ضمنهم الوالد والأخوال .كان بودي حضور العم ديمتري ولكن ظروفه حالت دون ذلك .كان صديقي حسن وابنته بين الحضور .وقد مكث معي يومين ،ومكثت ابنته لمدة خمسة أيام، تساعد في الخدمة .أذكر إنني أعطيتها ستة شلنات مقابل ذلك .
تبودلت عبارات المجاملة بين العائلتين . وأذكر أن الوالد عندما قبل عزيزة مهنئا قال لها : ( إنني فرح بك لأنك فتاة كريمة من عائلة كريمة ) ، فما كان من فؤاد كما هو متوقع في مثل هذه الحالات أن قال : ( لا يا عم أيوب لا تقل مثل هذا الكلام ، نحن الذين تشرفنا بهذا النسب ، إن صوصا شابا شهما كريما من صلب عائلة كريمة) ثم أضاف مبتسما : ( إذا لم يحافظ على مثل هذا السلوك فإن عزيزة سوف تريه الطريق المستقيم ) وأنفجر الجميع ضاحكين .

**


كان زواجي في أبريل عام 1939م .وهي الأيام التي يبدأ فيها الإنجليز بحزم أمتعتهم لمغادرة السودان في إجازاتهم السنوية ، هربا من جحيم الصيف . بالرغم من أن نذر الحرب في ذلك العام أخذت تتصاعد في أوربا – فقد كنا نقرأ ذلك في الصحيفتين المحليتين المصدق بهما آنذاك_.
قفزت من مقعدي مفزوعا ، عندما تلقيت دعوة مستر باكون إلى مكتبه ، في أول يوم من نزولي العمل بعد إجازة الزواج .ما إن دخلت مكتبه حتى بادرني قائلا :
- كيف حالك يا عريس .؟
- الحمد لله ، أشكر سعادتك.
- أتمنى لك حياة سعيدة . سمعت أنها :كانت قصة حب عظيمة ، ولكنها أمر عادي وسط مجتمع المواليد ، أليس كذلك ؟
هززت رأسي بالإيجاب ولم أزد ، فواصل هو الحوار :
- بالطبع سوف تبدأ في الاستعداد للامتحان المؤهل للدرجة اتش (h ) في شهر يناير المقبل .
- إن شاء الله.
- لقد سمعت بأن الاحتفال كان رائعا ، وأروع ما فيه إنه كان مسنودا بقصة حب . هل حقا اشتريت أربعة خرفان لأيام الاحتفال الأربعة .
أجبت في أدب أقرب للخجل :
- نعم حقا سعادتك ، إنها التقاليد
- هل هناك شيئا معينا يمكنني أن أحضره لك أو لزوجتك من بريطانيا العظمى ؟
- نعم سعادتك … لا سعادتك
توقفت لمدة عشرة ثواني لاستوعب المفاجئة ، ثم قلت :
- نعم سعادتك … كم يكلف الراديو من بريطانيا ؟ راديو من النوع الذي يتكلم عربي وإنجليزي .
ما أن أكملت جملتي ، حتى استغرق مستر باكون في نوبة من الضحك وشاركه في الضحك أحد الضيوف الإنجليز الذي صادفته في مكتبه . قلت لأوضح قصدي وكأني استعرض معلوماتي ، ولكنني كشفت عن جهلي:
- كما تعلم سعادتك فإن هناك راديو يتكلم إنجليزي فقط ، ولقد سمعت واحدا يتكلم العربية ، فهل هناك آخر يتكلم اللغتين معا ؟
فقال مستر باكون وكأنه يحدث نفسه وهو مازال غارقا في الضحك :
- هذا لا يصدق !!!
ثم بعد أن أكمل ضحكته :
- يا لك من شخص طريف !! خذ جهازي هدية لك بمناسبة الزواج .وسوف أحضر بديله من هناك . ولكن دعني أقول لك : أن أي راديو يمكنه أن يتكلم العربية والإنجليزية بل قل الفرنسية والألمانية وأي لغة أخرى.
شكرته ثم لملمت أطرافي وغادرت المكان .
كان هذا الراديو من أقيم الهدايا التي تلقيناها من خارج الأسرة .وهي تقدم عادة بعد إكمال الزواج رسميا، لتساعد في تأثيث عش الزوجية . إنني حتى ذلك الوقت ما زلت أسكن مع الخال، الذي ما زال يرفض مساهمتي في مصروف البيت .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
الديوم
في جنوب الخرطوم


لم يجد أحمد بيه كبير عناء في أن يقحمني في اهتماماته بمهاجري غرب إفريقيا .لقد كنت أقل وعيا بالبحوث السياسية والاقتصادية التي يعول عليها أحمد بيه من هذا الاهتمام .طلب مني أحمد بيه أن آخذه لمنطقة الديوم جنوبي الخرطوم .وهي منطقة سكن عشوائي ، على بعد ثلاثة أميال من محطة السكة حديد .وتحتل المساحة بين النيلين الأزرق و الأبيض .
وافقت على مرافقته إلى هناك بصحبة صديقي حسن ،الذي يعرف المنطقة جيدا .كان أحمد بيه ممتلئا حماسا وتتدفق المعلومات من فمه كأنه ينفث دخان سجائره : ( هل تعلم أن السياسة البريطانية ليست حشد السودان بمهاجري غرب إفريقيا فحسب ، بل تشجيعهم على الاستقرار في شبه الجزيرة العربية والحبشة . هناك شبه اتفاق بين القوى الاستعمارية بريطانيا ، فرنسا وبلجيكا لإنقاص عد السكان غرب وجنوب غرب السودان الجغرافي ) ثم أضاف : ( سوف أدفع لحسن شلنين .. أريد أن أرى مستودع البشر ).
**


في صباح أحد أيام الجمع ، اصطحبنا حسن لمنطقة الديوم .حيث قدمنا لأنماط مختلفة من البشر . كان أحمد بيه يريد أن يعرف كل شئ : من أين أتوا ؟ وأي طريق سلكوا ؟ وكم من الزمن استقروا هنا ؟ وماذا يعملون لكسب عيشهم وكم عدد أفراد الأسرة ؟ كم عدد الذين توفاهم الله ؟ ولماذا هاجروا من هناك و إلى أين وجهتهم بعد الخرطوم ؟ و .. و… و .. ؟
بعض المهاجرين من الكنغو استطاعوا التواصل مع أحمد بيه باللغة الفرنسية التي يجيدها .الكل أبدأ رغبته في تعلم اللغة العربية لغة القرآن والرسول محمد .أخذنا حسن إلى حانوت أحد اليمانية ، حيث اشترينا إفطارامكونا من الخبز والفول مع زيت السمسم وجلسنا أرضا لتناوله تحت ظل شجرة دوم قرب الحانوت .
قال أحمد بيه كأنه يكلم نفسه : ( بعد عشرة سنوات سوف يستبدل الأربعة آلاف مصري الموجودين في السودان بهؤلاء السودانيين الجدد . إن السودان لن يعود إلى أصله كمحافظة مصرية ، وهذا من حسن الطالع ، ماذا فعل المصريون وحكوماتهم من أجل أنفسهم ؟ إنهم لن يفعلوا للسودان شيئا ولن يستطيعوا المحافظة عليه سليما . ) ثم توقف ليبتلع لقمته .ثم نظر لي ليكشف سرا يهمني : ( لقد أجبت بامتياز في الامتحان .. هل تعلم أنهم كادوا أن يحولوا بينك وبين المرتبة جي (j ) !! لو لا إصرار عضو اللجنة ، السوداني العظيم أبو سن الفيل. الذي أصر على نجاحك بالرغم من تقرير جولدسميث مفتش عطبرة !! .. ياله من فول لذيذ أطلب لنا المزيد ).
تحت أحد أشجار الدوم ،وعلى بعد ثلاثين مترا من مجلسنا . تحيط مجموعة من المهاجرين حول أحد النساء ، يحتسون المريسة و يأكلون الفئران المشوية التي يشترونها منها . يدفع أحدهم قرشا أو قرشين ويختار الطريقة التي يريد أن يقدم له بها الفأر ، مشويا كان أو مسلوقا .تقوم المرأة بجذب الفأر من ذيله من قفص موضوعا بالقرب منها ، ثم تضعه في الماء المغلي ليموت في ثواني .ثم تقوم بحلق فروته بالموسى وتضيف إليه الملح والبهارات .ثم تقوم بإنضاجه بالطريقة التي اختارها الزبون. كذلك إذا طلب الزبون قطة فأنها سوف تقوم بإعدادها بنفس الطريقة والسرعة . كان هذا المشهد غريبا بالنسبة لأحمد بيه أما بالنسبة لي ، فإنني قد شاهدته عشرات المرات في عشش فلاتة بعطبرة .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(34)


جنون العالم


بعد أسبوع من إعلان بريطانيا الحرب على ألمانيا في سبتمبر عام 1939م ، تلقيت عرضا للانضمام للقوات البريطانية الإفريقية المشتركة ، براتب شهري قدره عشرة جنيهات . في حالة نقلي خارج السودان سيرتفع إلى عشرون جنيها مع ضمان السماح لي بالجلوس لامتحان التأهل للمرتبة اتش (h ).
ذهبت لتسليم نفسي لمكتب التجنيد الواقع قرب سينما النيل الأزرق، قابلت هناك الرقيب الأول .كان لونه أحمرا مثل جذر البنجر من فعل طقس السودان . كنت المراجع الوحيد هناك .كان الهدوء في المكان لا يوحي بوجود أي حرب .
رحب بي الرقيب الأول بنظرة ثم خاطبني قائلا : ( يجب فتح ملف جديد لك ، لا تنس إنك في إعارة وقد تعود للخدمة المدنية في أي وقت ، أملأ هذا النموذج قبل الذهاب للفحص الطبي .) عندما ناولته النموذج بعد التعبئة نظر في سطوره ثم قال : ( لا توجد شهادة ميلاد ولكن يمكنك أن تخمن التاريخ.). وعندما سألته عن المهام التي ستوكل لي ، أجاب : (سوف ندربك على قيادة الشاحنات الكبيرة وقد توكل لك مهاما أخرى ، إننا نريد رجلا لكل المهام . طبعا لا يسرك أن نخسر الحرب، الآن اذهب للفحص الطبي في الغرفة المجاورة ) في غرفة الفحص الطبي استقبلني المساعد الطبي الإنجليزي لأخذ عينات الفحص ثم دخلت على الطبيب الذي قام بفحصي على الأريكة الطبية بسماعته الطبية وسألني عن تاريخي المرضي وهل توجد أمراض وراثية في العائلة وبعد ذلك كتب على النموذج { لائق طبيا}
قبل منتصف ذلك اليوم صرت مجندا في القوات البريطانية الإفريقية المشتركة وكان الراتب حقا عشرة جنيهات إذا اخترت العيش في منزلي وثمانية جنيهات إذا اخترت العيش في الثكنات العسكرية وإذا نقلت داخل السودان يرتفع الراتب بمقدار ثلاثة جنيهات ،أما إذا أرسلت لجبهة القتال فإن الراتب سيكون مضاعفا والأكل والشرب مجانا .
في الساعة الثانية بعد الظهر رجعت إلىمنزلنا مرتديا اللبس العسكري طاويا ملابسي المدنية تحت إبطي . انزعجت عزيزة غاية الانزعاج عندما رأتني بتلك الملابس ( إنك تريد أن ترملني قبل إكمال الزواج ) . نعيمة تماسكت وتمنت لي التوفيق لأنها مدركة للأسباب التي دعتني لذلك.أما الخال لبيب فقد طمئنهم قائلا:(كما ترون ليست هذه الأجواء بأجواء حرب .إن الحرب في أوربا ولن يرسلوه إلى هناك، دعوه يكسب بعض المال )

في صباح اليوم التالي ذهبت للمعسكر في المواعيد المحددة ، حيث بدأت التدريبات العسكرية وصرفت لي وجبة إفطار مجانية .التدريبات العسكرية تشتمل على طابور صباحي وتمارين رياضية .ثم بدأت تدريباتي في تعلم قيادة الشاحنات، بإشراف جندي إنجليزي عجوز ذو طاقم أسنان اصطناعي .كانت هذه أول مرة في حياتي أرى مثل هذا الطاقم، لقد ذهلت أول مرة عندما رأيته يحركه في فمه دخولا وخروجا .
هذه أول مرة أحب فيها عملي. لقد تأثرت مذاكرتي للامتحان خلال الأسبوع الأول للتجنيد نتيجة تغير برنامجي اليومي . كنت اجلس من بعد الغروب إلى منتصف الليل _ حوالي ستة ساعات _ ثم أنام لأصحو مبكرا للحاق بالعمل ، الذي يتطلب جهدا عضليا خلافا لعملي في مصلحة الزراعة . في شهر مايو من عام 1940م تقدمت بطلبي للجلوس للامتحان الذي أجيز ووقع من مستر باكون ثم أرسل لمكتب السكرتير الإداري
.

**


في شهر يناير عام 1941م جلست للامتحان . وكان من حظي أن وجدت أبو سن الفيل و مستر باكو من ضمن أعضاء لجنة الامتحان وكان النجاح حليفي . كانت عزيزة أكثر الناس فرحا بهذا النجاح لأنها تعتبر موضوع امتحاني بمثابة معركتها الخاصة وبالطبع فرح كل الذين حولي بهذا النجاح .
في دعوة الغذاء التي أقمناها في بيت لبيب احتفالا بالنجاح _ فاجأت الجمع بقولي :
- الآن دعونا نحدد موعد إكمال الزواج – ما رأيكم في الشهر القادم ؟
ردت نعيمة في سخرية :
- من أين لك المال ؟ هل لديك قملا لتبيعه ؟
وهنا ضج الأحباب بالضحك وتوالت التعليقات ، فقال بولس زوج شقيقة عزيزة :
- من الأفضل أن يكون في شهر أكتوبر فإن الجو سيكون أفضل ، كما أن البيت يحتاج لإصلاح وهو ما يتطلب وقتا ومالا .
بعد ذلك تداخل النقاش والكل يدلي برأيه : ( إن شاء الله ربنا يتمم على خير) ( ربنا يسعدكم ويحفظكم ) ( الأفضل أن يكون في شهر ديسمبر لأن المراسيم ستأخذ مكانها داخل الكنيسة ) .
بعد الغذاء نهض القسيس لينصرف ، فنهض الجميع لوداعه وقبل انصرافه صلى لنا صلاة قصيرة وتفل في وجوهنا ليباركنا .
لم تنقطع الزيارات المتبادلة بيني وبين عزيزة . نصف الإكليل يسمح لنا بذلك . كما أن خروجنا معا للسينما في أيام الجمع أو الآحاد استمر ، فقد كنا نذهب إلى هناك متشابكي الأيدي مقلدين في ذلك أغاريق أم درمان ولكن خروجنا إلى السينما ومشاويرنا الأخرى ، لا بد أن نكون بمرافقة أحد أفراد الأسرتين على الأقل .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(35)


الحرب تصل عطبرة


في العاشر من مايو عام 1940م أصبح ونستون تشرشل - الذي بدأ حياته في أوائل هذا القرن مراسلا حربيا في كوبا والسودان - رئيسا للحكومة البريطانية ، وبعدها تسارعت خطا الاستعداد للحرب في أوربا و مستعمراتها .ازدادت الحاجة للعمالة الفنية وارتفعت الأجور. لانعدام ثقافة التوفير والاستثمار في السودان وبقية دول العالم الثالث ، كان العامل يتوقف عن العمل عندما يجد أن لديه ما يكفيه للعيش بدون عمل لعدة أشهر . كي تضمن قيادة الجيش العطاء المستمر لهذه العمالة ، لجأت إلى استيراد مجموعة من الفتيات والسماح لهن بفتح بيوت الهوى في أنحاء متفرقة من العاصمة والأقاليم حتى يبعزق العامل فلوسه في هذه البيوت ويكون في حاجة دائمة للعمل . خططت الحكومة لهذا العمل دون مراعاة للنواحي الاجتماعية والدينية للسكان المحليين .هذه السياسة ليست وليدة سنوات الحرب، فقد طبقت منذ أوائل هذا القرن وخاصة في أيام الحرب العالمية الأولى. كانت بعض الآراء تنادي باستيراد عمالة من المستعمرات الأخرى مثل مصر والهند ، لأن مهاجري غرب إفريقيا تقل بينهم نسبة العمالة المدربة ، لكن سير ريجنالد وينجت حاكم عام السودان ( 1899- 1916م ) رفض هذا الاقتراح خوفا من ارتفاع تكاليف العمالة المستوردة..معظم سكان السودان ذوي طبيعة رعوية تنفر من الاستخدام عند الغير وإذا اضطروا لذلك فهم يعملون لشهور معدودة لجمع مبلغا من المال يمكنهم من زيادة عدد بهائمهم وبالتالي زيادة مكانتهم الاجتماعية .
لقد نجحت هذه السياسة – سياسة المواخير – أيما نجاح وبذلك يمكننا القول أن المواخير لعبت دورا كبيرا في تاريخ السودان السياسي والاقتصادي


**


في نهاية شهر مايو 1940م أخبرني الرقيب بأن إيطاليا على وشك أن تعلن الحرب على بريطانيا العظمى وأن مهمة غزو المستعمرات الإيطالية في القرن الإفريقي ( الحبشة وإريتريا) ستكون عن طريق السودان ، أما الصومال فسيتم غزوها من كينيا وإن هذا الغزو قائما لا محالة ،إلا أن تتحرى إيطاليا الحكمة وتنسحب طائعة مختارة .كما أن طرد إيطالية من هذه المناطق ، يجعل كل البحر الأحمر بما فيه قناة السويس وباب المندب وخليج عدن مياها بريطانية .
بالفعل أعلنت إيطاليا الحرب على بريطانيا في يوم 10 يونيو من نفس العام . كان الاستعداد البريطاني لهذا الإعلان كبيرا ، ففي خلال شهر من هذا الإعلان المشؤوم امتلأت عاصمتنا الهادئة المسالمة بكتائب الجيوش من كل صنف ونوع : من إفريقية الغربية ، جنوب إفريقية ومن بريطانيا نفسها . بالرغم من هذا الحشد العسكري فإن العاصمة تنام في هدوء تام حوالي العاشرة مساء، ليبدأ الضجيج في الصباح الباكر
.

**


عندما ذهبت لاستلام راتبي عن شهر يونيو ، دعاني الرقيب إلى مكتبه وأخبرني بأنني مطلوب للعمل بمدينة عطبرة ، وعلي أن أسلم نفسي للقائد هناك في خلال أسبوع وسوف يزاد راتبي خمسة جنيهات في الشهر ابتداء من اليوم .
كانت أحد أمنياتي أن أعود إلى مدينتي و أعيش مع عائلتي من جديد . ولكنني كنت متخوفا من ردة فعل عزيزة ، وبالفعل كان وقع هذا ثقيلا عليها واعتبرته نوعا من الهجران وكان أسبوعا حزينا لكلانا .
في محطة القطار كان في وداعي الخال وفؤاد وبولس ، قد كنت حزينا مهموما لأنني أفارق عزيزة للمرة الأولى منذ عقد قراننا .
بعد وصولي عطبرة ،أخذت طريقي إلى منزلنا على بعد خطوات من المحطة . كان أبي يعلم بموضوع تجنيدي ولكن لا علم له بموضوع نقلي إلى عطبرة . أما وردة فلا علم لها: لا بالتجنيد ولا بحضوري لعطبرة .
طرقت الباب طرقا خفيفا ثم دلفت دون أن يأذن لي أحد بذلك، فهو منزلي ومرتع صباي. كانت أمي أول من وقع عليه بصري من أفراد المنزل . كانت تجلس على مقعد منخفض ( بنبر) ممسكة بأحد الجرائد يبدو إنها تقرأ فيها خبر الاستعداد للحرب، وكان كلبنا جون ووكر يجلس تحت رجليها .
بادرتني أمي قبل أن ترد تحيتي :
- ما هذا الزي العسكري !! ؟
- لقد تم تجنيدي . ألا تعلمين ؟
- لا ..!! .. لا أحد أخبرني .. حتى أيوب لم يخبرني . تريد أن تهلك نفسك .. ما مصلحتك في ذلك ؟
وبعد أن أكملت السلام على بقية أفراد الأسرة ، أحضرت أختي خالدة الشاي وسألتني :
- أين بندقيتك ؟
- لم يصرف لي أي بندقية لأنني لن أحارب.
وهنا خرجت وردة من صمتها قائلة :
- لا تكذب .. مجيئك إلى هنا هو أول خطوة نحو خط النار .إنني أتابع الأخبار
وهنا أراحني أخي رمسيس عندما قال :
- أنه فعل ذلك من أجل المال . كيف يستطيع أن يكمل زواجه إن لم ينتهز أي فرصة لجلب المال . من قال لكم أن السعادة لا تشترى بالمال .
لاذت وردة بالصمت كعادتها عندما تكون غير راضية . لاحظت أنها حبلى وفي الشهور المتقدمة . قبل طلوع الفجر أهدتنا وردة أختا بعد ولادة مبكرة في الشهر السابع ( هل يذكر القارئ العزيز قصة التمساح ) . سميت الأخت إيزيس وهو اسما فرعونيا جميلا .عندما وضعت أمي بسلام ارتاح ضميري فقد كنت أخشى أن تسبب لها هذه المفاجأة مكروها

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
كانت شاحنات الجيش تصان بورش السكة حديد .لذلك كنت كثيرا ما أزور هذه الورش وخاصة الورشة رقم أثني عشر والتي كنت في الماضي أتمنى العمل بها عندما تعثرت خطواتي المدرسية . في هذه الورشة وجدت أصدقاء الصبا عزيز ومجيد يعملان في وظائف كتابية في أسفل السلم الوظيفي ( المرتبة زد – z –وقد حمدت الله الذي حماني من مثل هذا المصير. لم أنجح في إقناعهما بالانضمام للجيش فقد كان الناس في ذلك الزمن ينشدون السلامة ويتجنبون المغامرات .

**


داومت على الكتابة لعزيزة أسبوعيا .كانت ترد على جل رسائلي وتصفني فيها بالجحود ولكنها في آخر الرسالة تؤكد لي حبها وتعدني بأنها سوف تنتظرني إلى آخر العمر .
في الجيش كانت توكل إلى الكثير من المهام ، كنت الصراف والسائق والناسخ . كنت أقود شاحنتي إلى المطار -الذي أنشئ حديثا و على عجل من أجل الحرب - ومن هناك استلم الرسائل التي قد تكون في بعض الأحيان أموالا من أجل رواتب الجنود ومنصرفات الجيش . كنت فخورا بأن الحكومة الاستعمارية تأتمنني على عدة آلاف من الجنيهات . كنت كلما أذهب إلى المطار ألاحظ أن أعداد الطائرات الرابضة هناك تزداد نوعا وعددا يوما بعد يوم .
في أحد المرات وصلت إلى المطار طائرة ركاب ضخمة – بمقياس ذلك الزمن _ تحمل في جوفها بعض الممرضات الإنجليزيات ، من أعمار مختلفة .كن يربطن مناديل بيضاء على رؤوسهن مثل تلك التي تربطها راهبات الكنيسة الكاثوليكية .و يلبسن تنورات من الكاكي وعلى معصم بعضهن ساعات يد صغيرة . كانت تلك أول مرة في حياتي أرى امرأة تلبس ساعة وكذلك أول مرة أرى مثل هذا الحجم الصغير من الساعات المخصص للبس السيدات ( ستاتي ) وكذلك أول مرة في حياتي أرى امرأة إنجليزية بشعر أسود ، طويل و مضفر مثل أمي وردة وعزيزة . لقد درسنا في المدارس أن جميع الأنجلوسكسون يتميزون بالبشرة الشقراء والعيون الزرقاء والخضراء وكنا نصدق ذلك لأن الإنجليز الموجودين في السودان ينطبق عليهم هذا الوصف . حقا لقد كان اكتشافا جديدا أن أرى بعض الإنجليز الذين يشبهون أفراد شريحة المواليد من مصريين وسوريين وأتراك و إغريق . لقد أثارني حديث بعضهن إلى ، خاصة عندما رأيت سيقانهن الجميلة الممتلئة عكس سيقان نساء بلدنا. خطر لي خاطر أن ألمس أجسادهن .. يا ترى هل هي ناعمة كما تبدو للناظر .. قلت لنفسي إنهن جميلات ولكن عزيزة أجمل منهن ، لقد أصبحت عزيزة هي المعيار الذي أقيس به جمال الأخريات .. ولكن يا لنضارة بشرتهن وجمالها .. توكلت على الله ، وجمعت شجاعتي ولمست الفتاة التي تجلس بقربي ولكنها أبعدت يدي بنفور بائن ورطنت بإنجليزية لم أفهمها يبدو إنها كانت تشتمني ،لأن بقية الفتيات انفجرن ضاحكات ولم أملك إلا أن أضحك معهن .ثم سألتها :
- ما اسمك يا حلوة ؟
- نورما .. وأنت ؟
- صوص .. عمري أثنين وعشرين عاما .
- يا لك من كذاب وقح !! أنت أكبر من ذلك بكثير أيها العجوز القذر .
وانفجر الجميع بالضحك ولم أملك إلا أن أجاريهن في ضحكهن.
أخذت هذه الشحنة الناعمة إلى استراحة السكة حديد بالحي الإنجليزي _ تلك الاستراحة التي رُفِض توظيفي فيها قبل ستة أو سبعة سنوات كما يذكر القراء _ أنزلتهن هناك ولم أرهن بعد ذلك .ولكن ما زالت صورة نورما الممرضة الإنجليزية الجميلة عالقة في خيالي .
كنت في بعض الأحيان أقود شاحنتي وهي محملة بالمتفجرات والذخيرة وكانت مثل هذه الشحنات توقظني من ثباتي وتجعلني أفكر في مصير ضحايا هذه الحرب الأبرياء .
كنت سعيدا لأن الأعمال المكتبية التي توكل لي قليلة وبالرغم من ذلك قمت بإتلاف آلة النسخ الوحيدة في المعسكر وقد تحقق الرقيب أن الفعل كان متعمدا فطلب مني أن أقوم بإصلاحها خلال يومين بنفسي وقد كان.
**
نحن الآن في عام 1940م وكان تأثير الحرب الأوربية على السودان كبيرا .كما ذكرت سابقا فإن المستعمرات الإيطالية في القرن الإفريقي قريبة منا وفي ليبيا قريبة من مصر . امتلأت عطبرة بالكتائب العسكرية من عدة جهات : من أنجولا بجنوب إفريقية ، السنغال بغرب إفريقيا استراليا والهند حتى من بريطانيا وأمريكا . هذه المدينة الوادعة ، التي تنام بعد مغيب الشمس ، عرفت شوارعها الضجيج بعد حلول الظلام . محطة السكة حديد مزدحمة ليلا ونهارا ليس بالعسكريين فقط بل بالركاب المدنيين الذين أنزلوا من قطاراتهم لاستعمال العسكر . بعض القطارات تفرغ أسرى الحرب من إيطاليين وأحباش بمحطة عطبرة حيث بني لهم معتقل هنا . كان هؤلاء الأسرى يبيعون ساعاتهم و خواتمهم الذهبية من أجل حفنة من السجائر . يصرف لكل منهم رغيفان من النوعية السيئة وكوبا من المرق . في أول الأمر كانوا يعيشون في العراء داخل معتقلهم ،ثم أمروا ليشدوا مظلة من الزنك بأنفسهم تحت إشراف مهندس هندي .
وصلت الأخبار باحتلال الإيطاليون لمدينة كسلا ، وانطلقت الشائعات بقرب سقوط بورتسودان في أيديهم وأصبحت مدينة عطبرة مهددة ، لأنهم احتلوا بلدة خشم القربة الواقعة على نهر عطبرة . وتطايرت الأخبار بسقوط بلدة قوز رجب وهي كذلك على نهر عطبرة وعلى بعد مائة ميلا فقط. وبذلك أصبحت عطبرة في أيام الحرب أكثر أهمية وأكبر إستراتيجية من العاصمة الخرطوم. لقد جعلتنا ماكينة الدعاية الإنجليزية نصدق بأن الألمان و الطليان يجسدون الشر والبغي والعدوان . ازدادت مخاوفنا عندما أفرغت مدينتي بورتسودان وطوكر من معظم سكانهما وشيدت لهم مخيمات نزوح في مدينة عطبرة وبعضهم ذهب إلى بلدانهم وقراهم الأصلية وآخرين ذهبوا حيث لهم أقارب .
عندما ضربت صافرات الإنذارات محذرة من غارة جوية ، كاد الخوف أن يقتلنا وهرولنا وسط الزحام إلى الخنادق المعدة لذلك . كانت هذه أول مرة نشاهد فيها طائرة مقاتلة . كان ضجيجها يصم الأذان وما هي إلا دقائق حتى سمعنا صوت المضادات الأرضية تدوي وكادت أنفاس الناس أن تنقطع من الفزع . كنت أسأل نفسي : لو كنا نعرف شيئا عن هذه الطائرات قبل الحرب ، هل سيكون خوفنا بهذا القدر ؟ نحن أمة من البسطاء لا يتعدى خيالنا العلمي والصناعي القاطرة البخارية وحتى هذه فقد كنا ننظر إليها كالأعجوبة . كانت هذه الغارات تستهدف ورش السكة حديد بعطبرة ولكنها لم تصيب هدفها بالرغم من ضعف الدفاعات المضادة
**


شهدت مدينة عطبرة مظاهرة تهتف بالنصر للألمان وهذه أول مرة أشاهد فيها مظاهرة سياسية . صحيح أن الاضطرابات السياسية الأخيرة قبل سبعة عشر عاما {يقصد الكاتب ثورة 1924م بقيادة جمعية اللواء الأبيض –المترجم }شهد السودان مجموعة من المظاهرات ولكنني لم أكن أعي ذلك فقد كان عمري ستة سنوات . لقد اندهشت من تلك المظاهرة ونقلت خبرها للوالد فقال محذرا : ( أبعد عن السياسة حتى لا يجعل الإنجليز حياتك وحياتنا جحيما ) . كان أيوب من معاصري أحداث 1919م في مصر و1924 م في السودان والتي نتج عنها طرد نصف مليون مصري من السودان بما فيهم الكتيبة العسكرية المصرية . مازال هذا الطرد يمثل بعبعا يخيف المصريين و خاصة المواليد مما أبعدهم عن التعاطي الظاهر للسياسة . واصل الوالد شرح فلسفته قائلا : ( إننا أسرة من الضعفاء مهددين بالإبعاد من هنا في أي لحظة ، هل ترى من الحكمة أن نكون من الجبناء أو نكون من المتهورين

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(36)


نجيب وعزيز


دعوني أخرج بكم قليلاً من أجواء الحرب ، لأحكي لكم كيف أن نجيب - الجندي في الجيش المصري - بقي في السودان عقب أحداث 1924م .وكيف أن رفيق الصبا عزيز صار محاميا .
كان نجيب يعمل ميكانيكيا في الجيش المصري بالسودان، انتدب للعمل بالهيئة الزراعية السودانية التي يتبع لها مشروع الجزيرة . في عام 1918م تزوج من خالتي ملكة - الأخت غير الشقيقة لأمي وردة - وكان زواجا موفقا أثمر عن ثلاثة أطفال .
خلال الاضطرابات السياسية التي غمرت السودان بين عامي 1919 –1924م .فكر نجيب في العودة إلى مصر بصحبة عائلته . بالرغم أن ملكة تنتمي إلى شريحة المواليد السودانية وهي جد متعلقة بوطنها. ذهبت في أحد المرات مع نجيب في إجازة إلى مصر .هناك شعرت بحنين جارف إلى السودان، مما جعل نجيب يعود بصحبة عائلته إلى السودان قبل الموعد بأسبوعين .هذا هو حال الخالة ملكة ، التي لا تعرف غير السودان وطنا ولا ترضى له بديلا ، فكيف لها أن تغادره وتعيش خارجه بقية حياتها . أقلقها استعداد نجيب الجدي للعودة لمصر، بعد أن بدأت كتائب الجيش المصري تغادر البلاد . كان نجيب في انتظار التعليمات بإنهاء انتدابه وإلحاقه بكتيبته المغادرة .كانت شخصية الخالة قوية وإيجابية ، رأت أن لابد أن تقوم بدور لتجنب هذا البلاء قبل وقوعه . فقامت بوضع خطة لينفذها نجيب الذي لا يرفض لها طلبا ، خاصة وأن هذه الخطة قد تضمن له المكوث في السودان .
قامت الخالة ملكة بخياطة ثلاثة وحدات من العلم البريطاني، تبلغ أبعاد كل منها مترا في متر .استطاعت أن تقنع نجيب بتعليق واحد منها في مقر عمله بورش مشروع الجزيرة . ووجهته كيف يتصرف عندما يطلب من رئيسه الإنجليزي إنهاء انتدابه وتحويل ملفه إلى الخدمة المستديمة بورش المشروع . قام نجيب بتنفيذ كل ما طلب منه ولكنه كان قلقا ، لأنه لم يتلق ردا سلبا كان أو إيجابا . كانت الخطوة التالية، أن يقوم بتعليق أحد الأعلام على جدار منزله قرب المدخل الخارجي . الخطوة الأخيرة كانت تعليق العلم الثالث داخل الغرفة الأمامية لمنزلهم وهي التي يستقبلون فيها الضيوف الذكور (الديوان) . وقد علقت لافتة فوق الأعلام الثلاثة تقول كلماتها : ( سنبقى دائما مع الإنجليز) .
كان نجيب ميكانيكا ماهرا يحب زوجته ، أكثر بقليل من حبه لشراب البيرة المعلبة .وكان أيضا يحب ود مدني ويكره السياسة التي يحبها كافة المصريين .
لقد نجحت الخطة وكان رؤساءه الإنجليز سعداء بإخلاصه للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس .بذلك بقي نجيب في السودان، وتوقف عن زيارة مصر .واستطاع أن يتحصل على إقامة دائمة بالسودان لوالديه .
الآن دعوني أخبركم كيف صار عزيز محاميا : قد يذكر القارئ أن عزيز قد توقف في تعليمه النظامي عند السنة الأولى بمدرسة الأقباط الثانوية بعطبرة . قابلت عزيز عام 1939م بعطبرة وسرعان ما عادت علاقتنا مثل ما كانت أيام الصبا . كان عزيز شغوفا لزيادة تعليمه ، أحضرت له كل كتبي بالخرطوم وبدأت أدرس له ما أستطيعه منها . كما أرسل له أحمد بيه بإيعاز مني بعض الكتب من مصر .
في فبراير من عام 1941م توقف علي ماهر باشا - رئيس الوزراء المصري المخلوع - في مدينة عطبرة لعدة أيام. لمعت لي فكرة أن يحمل عزيز علما مصريا ،ويذهب لمقابلة علي ماهر . لقد رويت لعزيز قصة نجاح الأعلام البريطانية مع نجيب ، فوافق على تنفيذ الخطة ، شريطة أن أرافقه .. فوافقت .
كان علي ماهر في طريقه لزيارة النادي المصري في الطرف الجنوبي الغربي من عطبرة سكة حديد . كنا أنا وعزيز على علم بهذه الزيارة والطريق التي سوف يسلكها الموكب . ما إن لاح لنا موكبه على البعد ، حتى رفعنا العلم المصري الضخم الذي أعددناه ، وبدأنا نهتف لمصر . توقف الموكب عند وصوله إلينا ، وقام الباشا باحتضاننا في سرور .ضجّ الحضور بالتصفيق والهتاف . ولحظتها قام عزيز بتمثيل الدور الذي رسمته له : جثا على ركبتيه قائلا : ( سيدي علي ماهر باشا .. أرجو أن تتبناني .. تكفل بتعليمي على نفقة الحكومة المصرية أو على نفقتك الخاصة .. إنني أتوق لإكمال تعليمي . ساعدني … ساعدني .. ) . تأثر على ماهر أشد التأثر وانحنى على عزيز ورفعه من الأرض ، فانفجر الجمهور ثانية بالتصفيق والهتاف : ( تحيى مصر … تحيى أرض العلم … يعيش علي ماهر باشا ) . لوح علي ماهر للجمهور الذي بدأ عدده يتزايد ثم قال : ( هذا شيء رائع !! هذا أكثر من رائع !!! نعم يا ابني ، هذا حق طبيعي ، سوف أساعدك بل سوف أساعد كل من يرغب من السودانيين أن يكمل تعليمه في شمال الوادي .. سوف أقوم بالترتيبات اللازمة حتى أحقق رغبتك .)
وقد تم لعزيز ما أراد ، وعاد في عام 1948م إلى السودان وهو يحمل شهادة الليسانس في الحقوق من جامعة فؤاد الأول ( القاهرة حاليا) مع إجادة تامة للغتين الفرنسية والعربية وقليلا من الإنجليزية

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(37)


ودارت الأيام


لم يجني الوالد من الحرب غير الضنك والعذاب ، بدنيا وذهنيا . كان يقضي في العمل خمسة عشر ساعة في ثلاثة مكاتب مختلفة ، دون مقابل للساعات الإضافية . بالرغم من معاناته من الحساسية والربو ، فإنه لا يتمتع بإجازة أسبوعية مثل كل خلق الله لعدم وجود بديل أو مساعد.. مع كل هذا فإن راتبه الشهري يفوق العشرة جنيهات بقليل . يدفع منها جنيها للإيجار والكهرباء والماء ،ثلاثة جنيهات مصاريف دراسية لأختي وإخواني الاثنين - أختي الثالثة ما تزال دون سن المدرسة - كان يرسل لأمه في إسناء جنيها شهريا ، وهي تعتمد عليه اعتمادا كاملا وكنت أنا أحيانا أرسل لها بعض المبالغ وخاصة في المناسبات . يخصم من الراتب مبلغ عشرة شلنات لصالح راتبه التقاعدي وكان يصرف على نفسه عشرة شلنات للتبغ والبيرة .
انظر كم يتبقى من راتبه ليسير أموره الحياتية الأخرى في ظل الحرب الدائرة والأسعار المرتفعة . لقد كان الوالد فدائيا حقيقيا .، كانت وردة تحثه على التوفير للأيام القادمات . لقد كان محقا عندما يقول لها : ( كيف لي أن أوفر من لا شئ ) . فقد كان يضطر أن يستلف ما بين جنيهين إلى أربعة ثم يردها في أول الشهر ليعود للاستلاف مجددا من صاحب البقالة
.

**


كان وضعي المالي أفضل من الوالد ، فبالإضافة إلى راتبي فقد كان يصرف لي بعض المواد من الجيش وكذلك يمكنني الشراء من متجر الجيش بأسعار زهيدة مقارنة بالسوق .كنت أحصل على الرغيف مجانا عندما اذهب لمتعهد الجيش لتحميل حصة الجيش أو أسري الحرب. نسبة لغلاء الأسعار وغلاء السلع ، فقد ابتدع نظام التموين بالحصص ( الكوتات) . فصارت الأسر تزوِّر في عددها ، من أجل مزيد من السلع ، لبيعها في السوق الأسود .كان نصيب الفرد أقة في الشهر ، لذا لجأ الناس لاستخدام البلح بديلا للسكر لتحلية القهوة والشاي واستمر الناس في استعمال البلح لتحلية القهوة حتى بعد انتهاء الحرب وتوفر السكر .
لم تلهني الحرب عن حلمي القديم - الذهاب إلى أوربا - في إحدى الجلسات العائلية قلت لهم : (بعد الحرب سوف اذهب إلى أوربا ) فتوالت التعليقات من جميع إفراد الأسرة : ( مازلت في ضلالك القديم )( ماذا ستفعل بعزيزة ) ( تفتكر بنات الناس لعبة) مسكينة عزيزة لا تعرف أي شاب تزوجت) و .. و..
في حقيقة الأمر أن فكرة الذهاب إلى أوربا كان أمرا ثابتا في ذهني لم تغيره الحرب ولا الزواج .
كنت أساهم في مصاريف البيت بمبلغ جنيهين وهو المبلغ الذي كان سيخصم مني إذا ارتضيت السكن في ثكنات الجيش . بالإضافة لهذا المبلغ كنت أجلب بعض السلع من متجر الجيش ، بعضها يصرف لي مجانا وبعضها بأسعار أقل من أسعار السوق. كنت أوفر في كل الحالات ما لا يقل عن ستة جنيهات شهريا ، فلقد كنت أخاف الفقر لدرجة الهوس ، كان هذا التوفير يفرح أمي التي لا تزال تزن على الوالد ليوفر.
في الثاني والعشرين من يونيو عام 1941م ، هوجمت روسيا من قبل كل من ألمانيا , فنلندا , هنغاريا , ورومانيا. ولكن بعد سنتين ، تمكن لوردات الحرب التغلب على أنفسهم ، بعد معارك لينجراد ,موسكو و كييف،حتى وصلوا مناطق النفط في القوقاز .فأزهقت ملايين الأرواح ودمرت المنشآت .كذلك سمعنا أن اليابان قد هاجمت قاعدة نافال الأمريكية في بيرل هاربر دون إعلان مسبق للحرب .لذلك أعلنت أمريكا الحرب على اليابان وألمانيا في السابع من ديسمبر عام 1941م . في يونيو عام 1942م حوصر الألمان في العلمين حتى لا يتمكنوا من التحرك نحو قناة السويس ، والوصول إلى حقول النفط العربية . كان انتصار مونتيجمري السهل في أكتوبر 1942م . طرد الإيطاليين من القرن الأفريقي وأرجع إمبراطور الحبشة هيلا سلاسي إلى عرشه في الخامس من مايو عام 1941م .وكان قد لجأ إلى الإدارة البريطانية في السودان عام 1936م . وبذلك وضعت الحرب أوزارها ورجع مواطنو محافظتي البحر الأحمر وكسلا إلى مناطقهم .كانت هذه الحرب اللعينة قد أفقرت البعض وأغنت البعض .
**


في اليوم السابع من يناير من عام 1943م ، وهو يصادف عيد الكريسماس على حسب تقويم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ، جاء إلى منزلنا عامل من هيئة السكة حديد يحمل خطابا رسميا للوالد . وما أن رأيناه حتى أيقنا أن الواقعة قد وقعت .فض الوالد الخطاب وجرت أعيننا فوق السطور : ( السيد أيوب أفندي .. يؤسفني أن أبلغك بأن طلبك بخصوص تمديد خدمتك قد رفض . وعليه فقد تم إنهاء خدمتك من تاريخه .سوف تكون مستحقا لمعاشٍ شهريٍ قدره خمسة جنيهات . ويسرني أن أفيدكم بأن ترحيلكم مع أمتعتكم إلى الخرطوم سوف تكون على حساب الهيئة . انتهز هذه الفرصة لأشكركم على خدمتكم الممتازة طوال الأربعين عاما )
كنا نتوقع وصول هذا الخطاب بين الساعة والأخرى .ولكنه عندما وصل ، كان كأنه مفاجأة لنا .انهار الوالد وكنت أول مرة أراه في مثل هذا الضعف .
بعد أن سقت أمي وردة الوالد جرعة ماء جلست بقربه والدموع في عينيها ،وبدأت ترتل كعادتها عند وقوع المصائب :


إن صلاتي كافية لك.
إن قوتي تلحق بك عند الضعف.
إذا كنت تؤمن بالرب ، فأمن بي.
للثعالب الأجحار … وللطيور الأوكار.
ويكفي ابن آدم ما يضع عليه رأسه.
لذلك أقول :-
لا تقلقك أمور :-
الأكل
والشرب
واللبس
هذه الحياة ليست أكثر من لحظات
لا نحتاج فيها سوى :-
ما يقيم أودنا
ويبل حلقنا
ويستر عورتنا
انظر لطيور السماء:-
إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تشون الحبوب
ولكن رب السماء يطعمها
ألست أنت أفضل منها .. وأنت المميز بالعقل
هل رحمتك تنقص قيراطا من مملكته
انظر:-
كيف تنمو الزنابق في الحقول
إنها لا تكدح ولا تغزل
حتى سليمان بكل مجده لم يكن مرتبا مثلها
ما دام الرب قريبا من أعشاب الزرع التي قد ترمى غدا في المواقد ..
ألا يكون قريبا منك أنت … أيها الإنسان الجاحد
لذلك لا تقول :
ماذا سنأكل
أو
ماذا سنشرب
أو
ماذا سنلبس
لأن الرب في السماء يعلم بأنا محتاجون لكل هذا
لكن فكر في ملكوت الرب … وتنزيهه
لذلك لا تفكر في الغد
أن الغد بيد الرب
وهو الرازق بغير حساب
**


ظللنا ساكنين نستمع لتلاوة أمي وردة ، كان صوتها يأتيننا مشبعا بالإيمان ويهدهد نفوسنا فتستكين في هدوء ولكنه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(38)



آخر عهدنا بعطبرة


رُكِنَت عربة السكة حديد على بعد مائة متر من منزلنا ، لنفرغ في جوفها - بمساعدة بعض العمال - متاعنا ، من المنزل الذي سكناه ما يقارب العشرين عاما. سوف تلحق هذه العربة بقطار الركاب الذي حجز لنا به مكانا في الدرجة الثانية .
قبل اليوم السابق من السفر أو بالأحرى قبل أسبوعين من سفرنا ، كان منزلنا يمتلئ بمجموعة من البشر ،رجالا ونساء وأطفالا . الكل يود أن يودعنا ويتمنى لنا أياما سعيدة في مقبل أيامنا . أحضر الكثيرون منهم الأكل والشاي من منازلهم و البعض أحضر المواقد والقدور لطبخ الطعام في منزلنا لأننا أفرغنا منزلنا من كل الأواني و التجهيزات .
كان أصدقاء الصبا من ضمن المترددين على المنزل ومنهم مجيد ، الذي انتسب للدراسة بالمراسلة .وهو أسلوب جديد من الدراسة في ذلك الزمن . كان الكل يرى إن من واجبه تقديم النصح ومنهم مجيد ( أرجو أن تراعي ، إن العبء يقع عليك الآن ) وكذلك قال إبراهيم : ( لقد نقص دخلك أنت وأبوك من أكثر من عشرين جنيها إلى خمسة جنيهات . إن أياما عصيبة في انتظاركم . كن رجلا كما عهدناك .إن أيوب لم يقصر في شئ ، لقد أدى واجبه على أكمل وجه والباقي عليك ) .
كان الجميع يحبس مشاعره أن تسيل. كان إبراهيم يلجأ إلى سبحته كلما فاضت مشاعره . كنا نجلس على البروش ( حصير من سعف الدوم ) أمام المنزل ، إنه أشبه بالمأتم . بل إنه مأتم لا ينقصه سوى النعش وجرس الكنيسة .
داخل المنزل التفت النساء حول وردة يخففن عنها المصاب ويطلبن منها أن تراعي صحتها وتقوي من إيمانها .
عند الفجر تحرك موكبنا الحزين نحو محطة السكة حديد لنستغل القطار إلى الخرطوم . هناك في المحطة وجدنا جمع غفير من أهل المدينة جاءوا لوداعنا ومنهم مستر كومنز مأمور إدارة قسم عطبرة .


**


سودانيو ذلك العهد هم وحدهم من يستطيع تقدير واستيعاب ذلك المشهد ، عندما تحرك بنا القطار من مدينة عطبرة ليقتلعنا اقتلاعا من وسط أصدقاءنا ومدينتنا التي هي قطعة منا .
بالرغم من حالة الحزن والكآبة ، إلا أنني لم أبك خلال هذه المحنة .أذكر أن آخر مرة بكيت فيها عندما غادرت خادمتنا نورة مع زوجها عباس إلى مصر قبل عشرة سنوات . عندما عبر القطار جسر نهر عطبرة ، أخرجت كلبنا جون ووكر من سلته ووضعته على حضني ، لقد وضعناه معنا بالقطار بتصديق خاص من مستر كومنز بعد استخراج شهادة صحية من الطبيب البيطري مستر مكفرين
.


**


قد يتساءل القارئ … أين دوري أنا من كل هذه الأحداث التي عصفت بمنزلنا .في اليوم التالي لتلقينا النبأ المشئوم ، أخذت إذنا لمدة ساعتين من عملي ، لمقابلة مستر كومنز رئيس وصديق أبي .الذي يعرفني منذ حلولنا في عطبرة . دلفت إلى مكتبه وأنا في غاية الانزعاج :
- صباح الخير ، لدي مشكلة أود أن اعرضها عليك .
- أهلا صوص .. تفضل وأغلق الباب وراءك.
وبعد أن وقفت قباله أمرني بالجلوس وقال :
- تبدو قلقا ولك الحق .. ولكن ، صدقني …لقد بذلت كل جهدي لتمديد خدمة والدك ، ولكن ما باليد حيلة .. إن المصائب لا تأتي فرادى .
توقف هنا ثم مد لي سيجارة بإصرار ، لأنه يعرف عاداتنا في عدم التدخين إمام الكبار .وعندما رآني محتفظا بالسيجارة دون أن أشعلها ، حثني قائلا :
- أرجو أن تشعلها ، أنت محتاج لها الآن ، لأن عندي لك أخبارا سيئة ،وكنت على وشك استدعائك .
دارت بي الأرض وأنا أقول لنفسي : ( أخبار سيئة !!! أسوأ مما فيه نحن الآن !! ما عساها أن تكون ؟)
واصل مستر كومنز كأنه يقرأ أفكاري :
- أنها أخبار تتعلق بوظيفتك .
- وظيفتي أنا ؟
- نعم وظيفتك أنت .. لقد ذهبت لمقابلة قائد كتيبتك نيابة عنك ، لأطلب منه تحويلك إلى الخرطوم أو إعادتك إلى مصلحة الزراعة . ولكنني فشلت.. لقد أخبرني القائد إن كل ما يمكن عمله لك هو إرسالك إلى العلمين ومنها إلى أوربا إذا بقيت حيا , هل ترغب في مثل هذا ؟
- نعم .. نعم إننا في حاجة إلى المال لأن معاش أبي ضعيفا.
ثم أضفت بعد تفكر :
- ولكن عائلتي وزوجتي ماذا أفعل لهم ، إن عائلتي محتاجة لي في هذا الظرف ، ماذا أفعل يا ربي ؟
- إذا كنت تود الذهاب إلى جبهة القتال ، بإمكاننا تدبير ذلك . أذهب وناقش هذا الأمر مع أهلك .
توقف مستر كومنز ونظر إليَ نظرة أشعرتني بأنه لم يقل كل ما عنده من أخبار سيئة . وبالفعل فقد واصل حديثه :
- اسمع يا بني .. إن الحكومة بصدد تنفيذ سياسة جديدة يترتب عليها فصل جميع المصريين من أقباط ومسلمين ، إنها ستدفع لهم تعويضات سخية وتشجعهم على العودة إلى مصر على حسابها .. بالطبع أنت تود البقاء بالسودان وقد تجد عملا بالخرطوم . يمكنني أن أساعدك في صرف استحقاقك من الجيش ومن مصلحة الزراعة .. لأنكم في حاجة إلى المال ….. ، ….
واصل مستر كومنز حديثه ولكنني كنت في واد آخر ، ذهب بي تفكيري إلى أحمد بيه وجلستنا تحت ظل أحد شجر الدوم في منطقة الديوم وقوله لي : ( وفّر ما تستطع من مال .. وفّر ..وفّر ..وفّر .إن من في حالتك محتاج إلى المال ، المال ولا شئ غيره. ) وفجاءة أيقظني صوت مستر كومنز :
- صوص .. هل أنت بخير
- نعم سعادتك .. المال ,المال هو مشكلتنا الأولى

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(39)


وانطفأ البريق


لم نجد كبير عناء في إيجاد بيت من الطين، في المنطقة السكنية المسماة بالخرطوم ثلاثة .وهي منطقة أنشئت حديثا، و تتكون من حوالي ثمانية عشر منزلا أغلبها خالية من السكان . اخترنا من هذه المنازل أزهدها إيجارا- ثلاثة جنيهات في الشهر زائدا ستة شلنات للماء وعشرة شلنات للكيروسين . كان هذا المنزل يجسد الجو الموحش المليء بالكآبة والإحباط ، مما زادنا خوفا من استمرار المعاناة . يتكون المنزل من أربعة غرف:- واحدة في الركن اليساري ، ويليها المطبخ .الثانية في الركن اليماني بالقرب من المدخل وقد اخترتها لتكون غرفتي .الغرفتين الأخرتين في ركن آخر ، تربط بينهما فراندا وهي أشبه بالراكوبة. الأرضيات رملية ، الجدران خشنة وغير مطلية ، إطارات الأبواب والشبابيك صنعت من خشب الزان الخفيف الذي تغلف به البضائع . السقف من جريد النخل والبروش وفي أعلاه ألواح من الزنك .وفوق هذا فإن إيجاره ثلاثة أضعاف منزل السكة حديد بعطبرة وشتان بين المنزلين . علقت أمي وردة بمرارة ، عندما دخلت المنزل أول مرة قائلة : ( لقد طردنا من الجنة) .
تبقى مع الوالد مبلغ واحد جنيه وعشرون قرشا . انطلقت أسارير والديّ عندما أخبرتهما بأنني أملك مبلغ مائة وسبع وثلاثون جنيها في دفتر توفيري .وهذا يشمل مبلغ الستة وثلاثون جنيها مكافأة نهاية خدمتي بالجيش ومصلحة الزراعة. قررنا أن نأخذ مبلغ ثمانية جنيهات شهريا من دفتر توفيري حتى يفرجها الله ، بإيجاد وظيفة لي أو لوالدي. لقد نقل الخال لبيب منذ زمن إلى ملكال بمديرية أعالي النيل .ولكن حتى لو كان الخال موجودا لما استطاع أن يقدم إعانة مالية راتبة .
كلّت أرجلنا أنا والوالد في البحث عن عمل . أغلب الفرص الموجودة في سوق العمل هي للحرفيين والفنيين ، الوظائف الكتابية قليلة والمنافسة عليها شديدة. إضافة لمصاريف البيت كان على التكفل بمصاريف أخوتي الدراسية. كان على إخواني الاستيقاظ فجرا لأخذ كوبا من الشاي وعمل السندوتشات ثم الذهاب مشيا لقطع مسافة أربعة أميال ذهابا وإيابا في شمس الخرطوم الحارقة . إن الحالة الجسدية لعزيزتنا إيزيس ذات الثلاثة أعوام وسمسومة ذات الثمانية أعوام ما زالت عالقة في ذهني رقم مرور الزمن.
لقد رفضت مدارس الكنيسة أن تمد لنا يد العون، بحجة أن إعفاءنا من المصاريف الدراسية سوف تكون سابقة تجلب لهم المشاكل .نصحونا أن نبقي البنات في البيت ونقبل بمشيئة الله .ولكن أبي في ذلك الزمن وفي تلك الحالة رفض أن يخرج البنات من المدرسة . وقد أيدته قي ذلك بالرغم أن ما تبقي في دفتر توفيري لا يتعدى السبعة وعشرون جنيها ،ذلك يعني أنه بعد أربعة شهور إذا لم يجد أحدنا عملا فلن نجد ما نأكله..
استمر ضغط الأيام بأكثر مما يتصور المرء . كنا نذهب للنوم ببطون خاوية ، لأننا اقتصرنا وجباتنا على وجبة واحدة. ويحدث أن أحد الصغار يتغيب عن المدرسة لأن ملابس المدرسة وصلت لحالة لا تجدي معها الخياطة والترقيع .
في صباح أحد الأيام صحونا على صوت أمي وردة ، وهي تصرخ .كان لونها أقرب إلى الخضرة ، في الأيام الفائتة قد كساء لون وردة الشحوب وتساقط شعرها الأسود الجميل وعينيها قد أصابها الجحوظ مع هالة سوداء حوليها . استيقظنا على صياحها وتجمعنا حولها وتطاير شعاع الخوف من جنبنا ونحن نراها على تلك الحالة . لفت الصراخ انتباه الجيران فجاءوا يستطلعون الخبر .تقدم أحد الجيران باقتراح عبقري : أن نحضر لها الطبيب ! يقترح علينا ذلك ونحن الذين عرفنا المستشفيات وزيارة الأطباء قبل أن يعرفها كثير من السودانيين ومنهم هذا الجار العبقري . لم يؤخرنا عن طلب مساعدة الطبيب إلا ضيق ذات اليد .بالرغم من ذلك فلقد ذهبت لمستشفى الخرطوم العام أطلب المساعدة . تبرع طبيب شاب حديث التخرج اسمه طه بعشر للحضور معي ماشيا كل هذه المسافة .أعطاها الطبيب حقنة مهدئة فنامت في ساعتها وشخص الحالة بسوء التغذية مما سبب انهيارا عصبيا .حاولت أن أدفع له مبلغ عشرة شلنات وهي كل ما أملك ولكنه رفضها مبتسما : ( لا .. كنت أتمنى أن أقدر على أكثر من ذلك. أشتر بهذا المبلغ طعاما لأمك) . كنا نحيط جميعا بسرير وردة انتظارا لاستيقاظها من المهدئة وما أن فتحت عينيها حتى بادرها الوالد قائلا : ( وردة حبيبتي تعالي معي إلى كنيسة القديس جورجيوس بالخرطوم بحري _ هذا القديس سوف يرعاك ) .نظرت إلى والدي في حيرة ، فأنكرته عيناي، لقد رأيت شخصا آخر فقد كان عبارة عن كومة من العظام ضمت إلى بعضها بجلد متغضن وجبهة رسمت عليها المحن خطوطا مقوسة وشعرا أبيضا خفيفا .
نظرت وردة إلى أيوب وابتسمت ، كانت ابتسامتها جد رائعة ، فرحنا لها جميعا ونحن الذين نسينا الفرح منذ أن اقتلعنا من عطبرة . في تلك الليلة اصطحبنا أنا وأبي وردة مشيا بالأقدام إلى أقرب محطة ترام - محطة الدوران في شارع فكتوريا-. لحسن حظنا كان وصولنا مع وصول الترام ، الذي ركبناه إلى محطة الإسطبلات في شارع السردار كتشنر. لنأخذ تراما آخر إلى الخرطوم بحري .انتظرنا قرب المدرسة الإغريقية لأخذ الترام المتوجه إلى الخرطوم بحري ، ولكن قد طال بنا الانتظار ، حتى خشينا أن نكون قد تأخرنا عن موعد آخر رحلة. ولما طال بنا الانتظار جلست الوالدة على الرمال ،وجلس الوالد بقربها ليسندها ،وظللت أنا واقفا أتلفت يمينا ويسارا . بينما أنا كذلك سمعت صوت أبي يصلي بصوت عال عسى الله أن يوقف منا هذا البلاء ( يا رب القدرة .. كل هذه المتاعب أكبر من طاقتنا. هذه حكمتك تعطي من تشاء وتمنع من تشاء.. إنك لم تنسانا لأنك جعلتنا أحقر البشر .. أي ذنب جنيناه لتتركنا للأسى والحاجة ) ..لا أدري هل كانت الوالدة تستمع لصلاته أم أنها كانت غائبة عن ما حولها. لم أهتم بصلاة الوالد لأن تجربة هذه الأيام جعلتني أشك أن هناك ربا يجب أن يحب . قلت في نفسي أن الوالد يتبرم من ابتلاءه بجرأة ، لأن صلاته كانت أقرب للاحتجاج منها للتضرع .لا زال السكون مخيما على المكان ، إلا من أصوات نقارة تصل من بعيد قد تكون من ديوم الخرطوم. عندما تعبت من الوقوف جلست بقرب الوالد ،وأنا في غاية الإحباط والتعب ، ولا تنسوا أن البطون كانت خاوية .لازالت تفاصيل هذه الأيام عالقة بذهني، لأن الجروح الغائرة وإن التأمت فإنها تترك ندوبا . قطع أبي الصمت وهو يكلم نفسه : ( في المهدية كان الجميع متساوين في الجوع ، أما الآن فالأسواق مليئة من كل صنف ونوع ، ولا نستطيع الشراء ، هذه مشيئة الله، ماذا يستطيع العبد أن يفعل معها) .
أخيرا وصل الترام ، إنها رحلة التاسعة والربع وهي الأخيرة . قفز أبي أولا ومد يده لوردة ليساعدها على الركوب ،ولكن نسبة للإعياء ، الذي زاده المشي والانتظار سوءا ،لم تستطع أن تحرك ساكنا . فما كان من كمساري الترام إلا أن مد يده لمساعدتنا دون أن نطلب منه ذلك . بعد أن ركب ثلاثتنا انتظر الكمساري بقربنا لندفع له وفهم الوالد الأمر فقال له : ( يا ابني أن معنا شلنا واحدا ونحن في أمس الحاجة له ، اعفنا من الدفع ، ونعدك بالدفع في حالة ظهور مفتش في الخط ) . أومأ الكمساري برأسه علامة القبول ، وغادرنا دون أن يقول شيئا .لا زالت أذكر شكل هذا الكمساري : إنه شابا برناويا وسيما من غير شلوخ .
بعد أثني عشر دقيقة وصلنا لآخر محطة بالخرطوم بحري ،ومن هناك سرنا مسافة كيلومترا واحدا بالأقدام إلى كنيسة القديس جورجيوس .مكثنا أنا وأمي خارج الكنيسة جلوسا على مدرج أسمنتي ، بينما ذهب الوالد ليقابل القسيس ويشرح له أسباب زيارتنا . لم نمكث إلا قليلا حتى عاد الوالد بصحبة القسيس .كان قسيسا عجوزا ،قصيرا، نحيلا ،شبه ضرير . يفوح منه عبق البخور. تقدمت نحوه وانحنيت وقبلت يده .جلس القسيس قرب الوالدة وأمسك بيديها بكلتي يديه ، وأخذ يتكلم معها كلاما يدخل القلب ويشرح النفس . أصدقكم القول لو قلت لكم لقد شعرت بالأمان في حضرة هذا القسيس الورع .طلب مني القسيس أن أتبعه إلى مسكنه الصغير المتواضع الملحق بالكنيسة. هناك طلب مني أن أغلي سبعة بيضات وهي كل البيض الموجود في مطبخه، ثم فتح دولابا وأخرج منه شايا وسكرا وجبنا . حملنا ذلك وتوجهنا حيث يجلس الوالدين لنتناول طعامنا . جلس القسيس قرب الوالدة وصار يحثها على الأكل حتى استجابت .لقد نجح القديس فيما فشلنا فيه طوال اليوم.. كان يقول لها : ( كلي ..كلي هنا مزيد من الخير والنعمة .. الرب أتى بك لتأكلي معي طعامه .لقد أخبرني أن ضيوفا سوف يزورون الكنيسة في الساعة العاشرة مساء.وأمدني بخمسة بيضات إضافية ، لذلك لم أتناول وجبتي و انتظرتكم. عندما سمعت نقرا على الباب ونظرت للساعة ، وجدتها تشير لتمام العاشرة .. إنني على يقين إن الرب سيباركك وسيفتح أبوابه لأيوب و صوص.إن رحمته وسعت كل شئ ).بعد الأكل دلفنا داخل الكنيسة ونمنا أربعتنا على بروشها حتى الفجر . أوصى القسيس أن تبقى وردة معه لمدة ثلاثة أسابيع وقال مطمئنا : ( لا تقلقوا على طعامها ، إن الرب يعلم حاجتنا ويرزقنا) . امتثلنا لرغبة القسيس وكنا نزورها أنا و الوالد بالتناوب. كنا سعيدين بهذه الزيارات لأننا كنا نلاحظ تحسنها يوما بعد يوم .
قرب انتهاء الأسبوع الثاني من بقاء وردة في الكنيسة ، وأذكر أن اليوم كان أثنينا ، دعاني القسيس بصوته الوقور الهادئ وعندما اقتربت منه قال: ( يا ابني .. سوف تجد اليوم عملا.. اليوم هو بداية حياتك العملية الناجحة ولعدة سنوات قادمات لن تكون عاطلا .. لقد وضع الرب يده على رأسك وباركك وسوف تعم بركتك آخرين .. تعال وأركع معي شكرا للرب). ركعنا معه أنا وأمي وأمّانا في صلاة ربانية

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
عند المحطة الوسطى بالخرطوم، كنت أقف وحيدا ،بعيدا عن رواد المقهى ،الذي يضج بهم المكان . كان في نيتي الذهاب لزنك اللحوم والخضار ثم العودة لمنزلنا.ولكن وجدت نفسي أكِر راجعا بشارع السردار كتشنر . وعندما وصلت فندق رويال عند تقاطع شارع فكتوريا ، شعرت بدوار ، فجلست على كرسي صادف وجوده هناك تحت ظل شجرة أمام مدخل الفندق . في الجانب المقابل من الشارع مقر شركة تجارة السودان المحدودة ( سودان مركنتايل) .من مجلسي ذاك يمكنني رؤية المدير الإنجليزي ،جالسا خلف مكتبه ،والباب مفتوحا على مصراعيه . قمت من مكاني واتجهت نجوه ، وجدت نفسي أدخل مكتبه وأنا غير مباليا.فقلت باندفاع : ( سيدي .. إنني أبحث عن وظيفة .. فأنا أجيد النسخ على الآلة الكاتبة وأجيد تنظيم الملفات و أستطيع قيادة الشاحنات الثقيلة ).نظر لي الإنجليزي باستغراب ، قد يكون بسبب الطريقة الرعناء التي دخلت بها المكتب و قدمت بها طلبي .اربكتني نظراته وأشعرتني بالخجل. بعد برهة خلتها دهرا أجاب الرجل : (أتستطيع النسخ والقيام ببعض الأعباء الحسابية ؟ .. خذ أنسخ هذا على تلك الآلة ). جلست إلى آلة النسخ - القارئ يعلم مدى كراهيتي لها وسبق أن قمت بإتلافها مرتين -_ ولكن هذه المرة جلست إليها بتلهف وأنجزت ما طلب مني . عندما وضعت نتيجة النسخ أمامه ، نظر إليه مليا ، - في تلك اللحظة نظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار خلفه ،وقد كانت تشير إلى خمسة دقائق بعد الثانية عشر _ هز المدير رأسه علامة الرضا ، ثم دعا الباشكاتب طالبا منه مساعدتي في ملء استمارة طلب التوظيف . بعد نصف ساعة أي في الساعة الثانية عشر وخمس وثلاثون دقيقة ، تم توظيفي مشرفا على البريد الصادر والوارد ، براتب شهريا قدره خمسة جنيهات في الشهر، على أن أخضع لفترة تجريبية لمدة شهر .لم أصدق أذني عندما أخبرني المدير بذلك ، فخلال الثمانية أشهر الماضية لم أترك مكانا لم أذهب إليه , حتى إني فكرت أن أصرف نظرا عن البحث ،وأمكث في البيت حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
عدت للمنزل وأنا أحمل معي الخبر المفرح وخضارا ولحما بكمية أوفر من السابق . ولم أنس كلبنا جون ووكر، فقد اشتريت له كمية كبيرة من العظام .إن الأزمة قد طالت كذلك جون ووكر .كنا نغلي العظام ونشرب مرقها ثم نعطيها له ،وأحيانا نشاركه في قرقشة العظام.بمعنى أن هذه الأزمة قاربت بين وجباتنا ووجبات كلبنا. لم يحاول جون ووكر سرقة طعام من المنزل على قلته وقد برزت عظامه من الضعف والهزال ، وفي هذا فقد كنا متساويين.
عند وصولي المنزل ، وجدت عزيزنا جون ووكر ميتا .كان قد حاول أن يسرق طعاما من جارتنا أم بوسو ، فضربته على رأسه . تحامل الكلب على نفسه حتى وصل البيت ثم فاضت روحه .لقد هزّ موت هذا الصديق الوفي كيان الأسرة. ذهبت وتشاجرت مع أم بوسو وزوجها الفلاتي ، فعدت من عندهما وأنا في غاية الإحباط لأنها عيرتني بجوعنا وجوع كلبنا. قمت بحفر قبر للصديق الوفي في قلب الشارع أمام المنزل ، ودفنته هناك ودموعي تنهمر كالمطر

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(40)




قطع إمداد الماء



أشاع توظيفي جوا من التفاؤل والأمل بين أفراد أسرتنا .ذهبت للعمل في الفترة المسائية ، التي تبدأ في الساعة الرابعة والربع .قضيت ثلاثة ساعات وأنا أضع العناوين على مظاريف المراسلات ثم أضع الرسالة المناسبة في المظروف المناسب ،أضع عليها الطابع البريدي ، ثم أسجلها في دفتر الصادر ، لتكون جاهزة للبريد في صباح الغد . راجعت حساب الطوابع ووجدت أن عمل الموظف السابق – كان قد اختفى فجأة وله في ذمة الشركة راتب ثلاثة أسابيع - مضبوطا مائة في المائة .
بعد انتهاء دوام المساء في الساعة السابعة، أخذت الترام لزيارة الوالدة في الخرطوم بحري . ما إن رأتني الوالدة حتى بادرتني بالسؤال : ( هل وجدت عملا يا حبيبي ؟) . فما كان من القسيس العجوز إلا أن أجاب : ( نعم .. لقد وجده .. إن الراعي العظيم قد هيئه له ) . فقلت بفرح : ( صحيح يا أبي .. تماما مثل ما تنبأت ). تهلل وجه أمي وبدأ تحسن صحتها بائنا . كان ذلك في نهاية شهر يناير أو بداية شهر فبراير من عام 1944م ، أيام طرد الروس للألمان من أوكرانيا .تحدثنا ثلاثتنا ، أنا ووردة والقسيس عن هذا وكان حزن القسيس بالغا على ملايين الأرواح التي أزهقت .
دنا مني القسيس وقال لي : ( اليوم وليمة القديس جورجيوس ) وعندما أبديت استعدادي للمساهمة قال لي:( لا تتعب نفسك ، أنت عليك أعباء كبيرة ، أن الكثيرين غيرك يرغبون في المساهمة .إن الراعي العظيم يعذرك .)
عندما تهيأت للعودة للمنزل في ذلك المساء ، دفع لي القسيس طردا مليئا باللحم . كان رعاة الكنائس يتلقون مثل هذه المنح ويوزعونها بمعرفتهم على المحتاجين . عند وصولي البيت وبعد الأكل من هذه الوليمة ، قمنا بتقطيع اللحم إلى شرائح ، ونشره على حبل تحت أشعة الشمس ليجف - بالطبع ليس لدينا ثلاجة في ذلك الوقت -. ما إن انتهينا من ذلك ،حتى جاءت قطة وقفزت على الحبل ورمته أرضا مع اللحم المعلق عليه . عندما رأيت اللحم يتلوث بذرات التراب ، غضبت غضبا شديدا ووبخت رمسيس وضربته على رأسه . لقد علمتني تلك الأيام الحرص وجعلتني سريع الغضب . قمنا بتنظيف اللحم من ذرات التراب وعلقناه على الحبل مرة أخرى . كَمَنت للقطة ، فلما ظهرت ثانية ضربتها على رأسها فما لبثت أن ماتت .
بعد أسبوع عادت أمي وردة للمنزل . عمّنا الفرح بعودة أمنا الحبيبة إلينا وتحسن صحتها , ولكن مالك المنزل أبى إلا أن يبدد هذا الفرح النادر . جاء يهددنا بالطرد لأن له في ذمتنا إيجار ثلاثة شهور .
بعد عودتي من العمل في الأسبوع الثاني من عودة أمي ، وجدت أن شركة النور والماء قد قطعت إمداد المياه من منزلنا. لأنها تطالبنا بقيمة أربعة وعشرين شلنا . في اليوم التالي سار الوالد لمسافة خمسة أميال لرئاسة الشركة حيث دفع لهم المبلغ زائدا أربعة شلنات رسوم إعادة الإمداد ، ووُعد بإعادة الإمداد بعد ثلاثة أيام من تاريخ الدفع .
في الشهر التالي أعادت إدارة مدرسة الراهبات أخواتي خالدة وسمسمة إلى المنزل ، لأن قسط المصاريف المدرسية قد حل منذ أسبوع . كان هذا في شهر أبريل .لم يتبق لامتحانات نهاية السنة الدراسية سوى أيام معدودة . طالبوا هذه المرة بالمصروفات كاملة بحجة إنني الآن أعمل . ستصيب الدهشة القارئ عندما يعلم أن جملة التخفيض الذي يمتنون به علينا كان جنيها يتيما .
في المساء وبعد انتهاء الدوام ذهبت لصديقي أحمد بيه - كعادتي كلما حزّت بي الأمور - قال لي أحمد بيه : ( كل الإرساليات الكنسية تأخذ عونا من حكومة السودان.البعثات الأوربية غنية ولكنها تهتم بأعضائها فقط. هذه الإعانات هي في الأصل أموال مصرية دفعت لرفاهية السودانيين .) . بعد أن شربنا الشاي ، قال أحمد : ( دعنا نذهب إليهم ..ولكن تذكر المثل القائل : إذا كانت حاجتك عند كلب ، فقل له يا سيدي )

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
بعد ساعة كنا أمام رئاسة البعثة الإرسالية . كان ذلك في وقت متأخر نسبيا من الليل ، حوالي الساعة التاسعة مساء .دلفنا إلى مكتب رئيسة الراهبات .حييناها ولم ترد تحيتنا ، بالرغم من أننا قدمنا تحيتنا بكل خنوع ، مع قليل من الانحناء ، تأدبا لمقامها الجليل . وقفنا على بعد قدمين من طاولتها ، لم تعزم علينا بالجلوس بالرغم من وجود عدة مقاعد بمكتبها. بدأ أحمد الكلام قائلا :
- سيدتي .. أنا مسلم ولكني جئت لأتحدث معك في أمر بنات أيوب .
فقاطعته في حدة :
- لا تخاطبني هكذا .. أنا لست سيدة .. أنا رئيسة الراهبات.
- آسف يا رئيسة الراهبات .. أرجو الصفح عن جهلنا .. جئنا …..
وقبل أن يكمل أحمد جملته ، قاطعته :
- لا مساومة .. أنا ذاهبة للصلاة .. أخرجوا .
لم أصدق أذني . لقد عاد بي هذا الموقف لعدة سنوات ، هل يذكر القارئ جملة {أمشي برة} التي نطق بها مستر جولدبيرج المفتش الإنجليزي ؟ فاض بي الكيل فاندفعت نحوها وضربت على الطاولة بقبضة يدي مهددا : ( سوف أذهب غدا الجمعة للمسجد الكبير وأعلن إسلامي أمام الملأ !!من الآن فأنا مسلم يا أيتها المنافقة .)
ازداد وجه الحيزبون دمامة من الرعب و مدت يدا مرتعشة إلى حبل مربوط بطاولتها ، ليرن الجرس المدرسي ويملأ أنحاء المكان .لم تمض لحظات حتى استجاب جمع من الراهبات والرهبان على مختلف رتبهم لجرس الاستغاثة. همس لي أحمد : ( لا تفعل ولا تقل شيئا .. دع الأمر لي ). أخذ أحمد أحد الرهبان جانبا وتكلم معه لربع ساعة . كانت حجة الراهب قلة المال مما نتج عنه قلة الفرص ، لا سيما ونحن لسنا بأعضاء في كنيستهم . ولكنه وعد أن يدرس الأمر . يا له من صديق رائع .. احمد بيه ، لقد كنت أقحمه في جميع أموري ، وكان يقدم لي كل المساعدة الممكنة .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
كذبت على أسرتي كذبة بيضاء : قلت لهم أن المدرسة قد وافقت على تخفيض المصروفات إلى النصف ، وإنني سوف أرافق البنات ،صباح الغد إلى المدرسة. في الصباح بدأنا رحلة الخمسة أميال مشيا إلى مدرسة الراهبات على النيل الأزرق .كان المشوار يستغرق نحو ثمانين دقيقة. بنات الأثرياء يصلن بالحافلة المدرسية. قارنت بينهن وبين هيئة أخواتي :كانت النعمة والصحة والأناقة تحف بهن على عكس أخواتي الهزيلات ، الخشنات ، ذوات اللبس المدرسي الباهت المرقع . نظرتي لأطفال الموسرين لم تكن نظرة حسد ، ولكنني كنت أرث لحالة أخواتي. هذا المكان هو في الأصل لبنات الموسرين ، ولكن أفكار أبي التقدمية هي التي جعلتنا نسلك طريقا مليئا بالأشواك والصعاب . طلبت من أخواتي أن يدخلن لصفوفهن بهدوء كأن شيئا لم يكن . وانتظرت أنا تحت ظل شجرة أمام مدخل المدرسة لمدة نصف ساعة .أخواتي ما زلن بالداخل . قلت لنفسي : ( يبدو أن الأمور قد سويت ، الآن علي اللحاق بعملي ) . هرولت نحو مقر الشركة وأنا أحاول أن أسيطر على انفعالاتي وقضيت فترة عملي في صمت غير عادي .
يتزامن انتهاء اليوم الدراسي بمدرسة الراهبات ، مع توقف عمل الشركة لوجبة الغذاء .في ذلك اليوم ألغيت وجبتي ، وهرولت نحو المدرسة لأقابل أخواتي . عند الوصول رأيت أخواتي خارجات والبسمة تعلو وجوههن .( لا أحد سأل عن المصاريف ) بادرتني خالدة. (ولن يسألوا إن شاء الله) أجبت أنا في ثقة .بعد عدة أيام زارنا أحد القساوسة ، وكنت ساعتها في العمل .جاء يركب دراجة هوائية ولا أدري من أين عرف عنوان نزلنا.كان يحمل رسالة محددة ومفرحة : (لقد قررت إدارة البعثة إلغاء كامل المصاريف الدراسية.)
في مساء نفس اليوم ذهبنا أنا وأحمد بيه إلى مدرسة الأقباط،لنناقش معهم أمر مصاريف أخواني رمسيس وخالد. ناظر المدرسة مثله مثل كبيرة الراهبات وضع اللوم على الأحوال المالية للمدرسة : (كان بودنا ، ولكن هناك عدة حالات مثل حالتكم .إنكم غير ملمين عن وضعنا المالي المزري : ليس هناك محسنين محليين ليساعدوا.. الشركات الإنجليزية رفضت مساعدتنا ، فقط جلتلي هانكي منحنا عشرة جنيهات .. فقط عشر جنيهات !! وهناك مبلغ ثلاثمائة جنيها جمعت من بعض التجار الإغريق وبعض المسلمين مثل شروني ، لا الحكومة المصرية ولا الإدارة البريطانية تدفع لنا شيئا ). قال أحمد بيه: ( إنه شيئا محير ، إن مصاريف إدارة السودان تدفع من عرق الفلاح المصري، فالإنجليز لا يصرفون مليما واحدا على إدارة هذا البلد !! لقد ساهمنا معهم بفعالية في الحرب ولكن لم نجن منهم سوى الكلام المنمق ).
أخي رمسيس يبلغ من العمر تسعة عشر عاما، لقد ترك المدرسة مكرها ولكنه بعد عدة شهور وجد وظيفة لدى شركة جلتلي وهانكي وشركاؤهم المحدودة براتب شهري وقدره خمسة جنيهات .

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
إنصافا لدور البعثات الكنسية في تعليم البنات والتي كانت أمي وردة إحدى خريجيها ، أقول: إنهم كانوا من الرواد في مجال تعليم البنات ، الذي يجد كل تجاهل وإهمال من المجتمعات المحلية. افتتحت أول مدرسة من مدارس هذه البعثات في أم درمان عام 1899م ثم الخرطوم عام 1900 فعطبرة عام 1908 ثم ود مدني عام 1919م . كما أنشئت مستشفا ومدرسة لتدريس القابلات بأم درمان عام 1921م.



**



الآن دعوني أكتب لكم المزيد عن أخوتي ، وأبدأ بخالدة :-
كانت منذ صغرها تملك مقومات الشخصية العظيمة . كانت صغيرة الحجم - مثل الريشة كما يصفها أبي - قد يكون بسبب أكلها القليل . كانت قليلة الكلام ومن هذه الناحية فهي على النقيض مني تماما .كانت الأولى على فصلها، كانت تحرز الدرجة الكاملة في كل المواد. كانت من التفوق بدرجة أن تم نقلها من الصف الأول ثانوي إلى الصف الثالث بخطوة واحدة .
كانت عندما تعود من المدرسة تقوم بعمل الكسرة ،والواجبات المنزلية الأخرى التي توضع على عاتقها دون أي تبرم . عندما مرضت أمي فقد أخذت على عاتقها مراعاة أخواتها والقيام بكل أعباء وردة ، ما عدا الغسيل فقد تعلمت منذ صغري أن أقوم به نيابة عن وردة ، حتى في وجود خادمتنا نورة .في مجتمعنا البنت الكبيرة يجب عليها أن تساعد أمها في أعمال البيت حتى لو كانت تلميذة أو موظفة،وهو ما يعتبر إعدادا لها لبيت الزوجية . كانت خالدة تقوم بهذا وعمرها لا يتعد العشرة سنوات . كانت تفوقني في الوعي والنضج وتحمل المسؤولية بالرغم من أنني أكبرها بعشرة سنوات .
بعد عشرين عاما من هذا ، تبوأت خالدة منصبا إداريا كبيرا ،وانتخبت سكرتيرا للنقابة .تزوجت قاض في المحكمة العليا ، فأنجبت منه أربعة أطفال .
لقد عشت مقتصدا طوال حياتي ، لقد وصل دخلي الشهري آخر الأمر حوالي ألف وثمانمائة جنيها إسترلينيا ، ومع ذلك ما زال الخوف من المسغبة يملأ كياني .هذا الحرص والتقتير لم يمنعني من القيام بواجبي نحو والديّ وأخواني . كنت أتدخل لحل المشاكل المالية لكل أفراد الأسرة .قمت برعاية والديَّ في الأيام الباقية من حياتهم، ووفرت لهم الرعاية الطبية وأشرفت على جنازاتهم وودعتهم بما يليق بهم .كما قمت بتبني طفلين من أيتام الفلسطينيين إحياء لذكرى نعيمة وعزيزة .
كان أخي رمسيس متلافا وكذلك زوجته مما كلفني الكثير لإصلاح وضعه المالي المرة تلو الأخرى .وقد أخذت أختي إيزيس الكثير من طباع رمسيس .سمسومة وزوجها جرجس كانوا مقتصدين مثلي.

descriptionرواية "صبي من النيل الأزرق - صفحة 3 Emptyرد: رواية "صبي من النيل الأزرق

more_horiz
(41)




لؤلؤة في الطّين




بإعفاء أخواتي من المصاريف الدراسية ، وفرت لنا الإرسالية الكاثوليكية خمس جنيهاتٍ عزيزة .دخلنا الآن بحساب النقد أقل من دخلنا بعطبرة - قبل عام من الآن- بحوالي عشرة جنيهات. ولكنه بحساب الاحتياجات فهو أقلَ كثيرا .
اقترض الوالد مبلغ خمسة جنيهات ليبدأ في بيع الإفطار ، وذلك بعمل قِدر من الفول وخبز الرغيف .هذا النوع من الاستثمار لا يجلب ربحا يتعدى العٌشر ، أما إذا حسب لجهده أجرا فسوف يكون العمل خاسرا . كان يجد عناء في تحديد الكمية ، أحيانا يجد الطلب كبيرا ، فيزيد الكمية في اليوم التالي ولكنه لا يجد لها مشتريا ، فنضطر نحن أن نأكلها في الوجبات الثلاثة .بالطبع كان الوالد يدرك إنه لو باشر هذا العمل خارج حوش المنزل ، فسيجلب له مزيدا من الزبائن ، لذلك تقدم للسلطات بطلب رخصة . رفض طلب الرخصة في حينه ، بسبب عدم إيفائه للشروط اللازمة وأهمها إيجار محل لمزاولة هذا العمل . ولكن أنّى له بالمال للإيجار والضرائب .لذلك صرف النظر عن الترخيص واستمر في مزاولة عمله من المنزل لمدة عام تقريبا .أخيرا اضطر أن يترك هذا العمل ، ليس لأنه غير مربح فحسب ، ولكن ضجرا من مضايقات الشرطة .وأنا على يقين أن بعضهم قد حرضهم على ذلك .فكر الوالد - الذي اعتاد طوال حياته على العمل أكثر من خمسة عشر ساعة في اليوم- فكر أن يربي دجاجا ويبيع بيضه ، ولكن ولحسرته أصاب الدجاج مرض ، فأهلكه جميعا ،وضاعت العشرة جنيهات التي استثمرت في شرائه .جلس الوالد في البيت يندب حظه ، ولكن الفرج جاءه سريعا من حيث لا يحتسب :دق على باب بيتنا رجلا سوريا ، في ظهر أحد الأيام . بعد محادثة قصيرة مع أيوب عرض عليه وظيفة براتب شهريا قدره عشرة جنيهات !! نعم .. عشرة جنيهات !!
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد