منتديات السديرة
أنت غير مسجل لدينا . للتسجيل اضغط على زر التسجيل


منتديات السديرة
أنت غير مسجل لدينا . للتسجيل اضغط على زر التسجيل

منتديات السديرة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات السديرةدخول

مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد
5 مشترك

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
....حلق الطائر محترقاً ، محترقاً حلق الطائر .. حلق وحلق . حلق حتى تضائل تدريجياً إلى شراشف لهبية متقطعة ، آخذه فى التضاؤل وها هو( مارتجلو )* تتبدى تلافيفه الحية عن صوته ذاته الذى لم تهده السنين .. شهد كل فترات السلوكثيراً من الحروب ، السلاطين والممالك والناس ، ولم يحدث ثمة تغير ما فى صوته العميق الريان بالحنين واللوعة .. فى منتصف كل شهر تتنفس رئة الكون الواسع رائحة مارتجلو الرحيبة فتستفيق
الأجرام السماوية ، ويسارع البدر منيراً ناصعاً ، بإلقاء ضؤه الوديع ، الساحر ،على الوديان الرملية الرطبة .. ومن مكان ما خلف الوادى العميق الحزن والوحشة ، بالتحديد مكان ما لاشرق لاغرب لاشمال أو جنوب .. من ذلك المكان بالضبط ينبعث صوت جدتى وهى تحكى عن مارتجلو .. مارتجلو ، هكذا كان الصوت معبراً
ونافذاً ، بلا صدى ، حيث تنهزم قوانين الصوت وأضاليل الفيزياء ، وحيث يسبح الصوت فى الفراغ المهيب ، مليئاً بالاصوات السرية الساكنة .. الملأى بالهواجس والظنون والدلالات التى لا يفهمها سوى شعب الوادى .. شيئاً فشيئاً تغيب ملامح ( المارتجلو ) وتتسرب اللوحة ( شهاب أبوعلى ) فيتلاشى صوت جدته فى صوت الراديو : ( ...وقد ذكر مراسلونا أن ثمة جبل ضخم إنتصب بشكل مفاجىء فى منطقة القرن الافريقى ، و تؤكد مصادرنا أنه ربما للتحولات الكونية علاقة بما يحدث فى الشرق الاوسط، ووفقاً لتقرير المراصد أن ثمة ظاهرة مماثلة فى منطقة الخليج إذ بدأ يتكون جسم صخرى له بعض خصائص (اللافا) يشبه ذلك الجسم الذى سبق تناميه ( الاجتياح العراقى للكويت كما أفادتنا ..) أغلق (شهاب أبو على ) جهاز الراديو بتأفف وأخذ يقلب فى الصحف السودانية والعربية المتراكمة أمامه. عثر على لوحة نوار بين تلافيفها .. تمعنها وهو يضعها جانباً فى عناية
فائقة . حاصرته رغبة ما غامضة لم يستكنه فحواها ، فأخذ يمر بعينيه الكابيتين على العناوين البارزة ، إستوقفه أحدً مانشيتات
(الشارع السياسى / 25/6/1998م ) أكثرمن4000 طالباً يفقدون إستمارات التقديم للجامعات و المعاهد العليا -
مكتب القبول ينفى وصول الاستمارات وخطاب عاجل من الوحدة العسكرية – الطلاب

بسم الله الرحمن الرحيم
القيادةالعامة للقوات المسلحة
الكتيبة الرابعة / لواء إدارة القيادة العامة
الرقم / ق ع / ل ك / 50 /ج /1 /206
التاريخ/ 27/صفر /1418هـ
السيد / منسق الشئون الاكاديمية
بوزارة التربية والتعليم
مرسل لسيادتكم كشوفة بأسماء مجندى الخدمة الوطنية الذين ينتسبون لهذا
الطرف
والذين فقدت استماراتهم لكريم عنايتكم بإجراء اللازم .
وجزاكم الله خيراً
مرفقات : كشوفة إدارة القيادة العامة
يرفضون التقديم للأماكن الشاغرة ويطالبون بإلحاقهم بالكليات فوراً !. :

هزّ ابوعلى رأسه وهو يلقى بالصحيفة التى فى يده على الأرض ، و (نوار) تداهمه بكل أشواق السنين الذائبة فى حضن المدى ، عايش جرحه الأزلى وهو يرتب لذاكرته من بريق الضوء الخافت ، المتسلل عبر النافذة سكة لفوضاه التى لاتلين لها قناة ، و سحب لوحة (نوار) . . أدخلها فى الحقيبة (الهاندباك) بحرص ، حاصرته رغبة
ما ، دون هدف محدد.. ذات الرغبة التى تغولته منذ الصباح الباكر .. كانت نوار وحكاوى (الجدّة) عن "المارتجلو" ، وكان المساء يلقى بخطواته المتسارعة على شٌرفة القلب... ورويداً ، رويداً تتسرب اللوحه (شهاب ابوعلى) ، تتداخل مع صوت (الجّده) المنسحب ، يحاصره (الكلّس) و(عتام) و(سلوى) .. قال صلاح : (فى الليلة التى اختفى فيها "الكلس" فى الصحراء ، انجبت زوجته تؤام .. عتام و سلوى ...) كان عتام ، جميلاً ، أمرداً ، أقرب للجمال منه للوسامة ، وكانت سلوى خلاسية مثله وأقرب للوسامة منها الى الجمال ، لولا الخال الذى يتوسط نونتها فيضفى عليها أنوثة وسحراً... ذكرت القابلة التى أخرجتهما من غياهب رحم أمهما للنور ،
ان عتام يخلو من أعضاء الذكورة ، لكن ليس ثمة علامات أنوثة ما ،، ولم تصرح على الاطلاق عن تفاصيل سلوى ، حتى وهىتغالب النزع الاخير "منذ الطفوله الباكرة لعتام لم يبد إهتمام بشقاوة الاطفال ، كان ميالاً
للوحده، ويهوى ألعاب الدفاع عن النفس بقبضة فارغة ، ولازمته هذه الهواية لزمن طويل ، الى أن اجادها فى امريكا فترة دراسته للقانون . الاخبار التى تواترت من هناك تحكى عنه كمعلم فى عالم العصابات ..إذ كان الاخطر بين كل المقاتلين.. كان عتام منذ طفولته لا يحب رؤية الدماء ، حتى أنه لايذبح الكائنات الاليفة ،مثل الحمام " إذا إقتضى الامر ، على الاطلاق " ولم يتنازل عن هذا المبدأ ، فلم يتهم بجريمة قتل أبداً " ومع ذلك طلبت الجهات الفدرالية الامنية، فى الولايات المتحدة الامريكية (عتام ) حياً او ميتاً " فقد أقض مضجعها ،

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
وأقلقها بنشاطه الدائم ، فهرب الى القاهرة ، مما أزعج المصريين الذين لاحقوة بشراسه ، فهرب إلى بلاده..
كان عتام يبتكر مختلف أنواع الحيل ، ويمارس النصب والإحتيال دون وجل..وينفذ عمليات خطيرة لصالح منظمات سرية ، تزعم الثورية والتحرر، عشقت شقيقته سلوى منذ طفولتها الفنون الجميله ، وبرعت فى الرسم .. كانت ساهمة دوماً، كانها تترقب المجهول ، وكلما هاجمتها لحظة من لحظات الغياب عن الشرود والولوج إلى
الذاكرة ، تسافر إلى مدينة ما ، لتقيم معرضاً للوحاتها هنا او هناك .. كانت لكل لوحاتها علاقة بوالدها الذى إبتلعته الصحراء وبنوار التى تحاصر احلامها وبعتام الذى لايريدأن يحُط رحاله ويرتاح .. وبها وهى تنتظر( ابوعلى ) ، .. فترحل فى فضاءات الغياب والانتظار ؛؛أكثرما كان يؤرقها ، الوحدة القاتلة ،التى تعيشها فى بيتها الفاره ، أعلا المدينة .. ثمة حنين جارف يحاصرها من حين الاخر، للأزقه والشوارع الضيقة ، وأمنية ما ، مجهوله المثوى، بلحظة تذوب فيها مع حبات المطر ، مع شخص تراه فى حلم يتكرر كل ليلة، شخص ليس كحاج عباس ...


مـداخـلــة :-
من رواية نوار اللوز/ص19
واسينى الاعراج ..


تردد (أبوعلى ) فى أن تكون هى فتاة اللوحة ذات الجسد الأبنوسى المنتصب بشموخ.. المنحنى عند الرأس ذوالشعر الاجعد المتدلية ضفائره بغنج ؛ . كانت يدها اليمنى المتقوسة تسند جرة الفخار المتكئة على الكتف بدلال .. ملامح الوجة البرى (الولوف ) رغم تمرده ، والنهدين المتوفزين بقلق ، بحلميتهما السمراوتين ، والخصر
الدقيق ، المنتهى بعقد من الخرز الملون ، تتدلى منه ( سعفات ) متفرقات حتى الفخذين الدائريين ، عنقها المرمرى ، المتحفز بقلادته العاجية بدأ نافراً، كأنه : يتوقع مقصلة تمتد اليه من شجرة ( الحراز )* " الناشفة "،
والتى إلتفتت اليها الفتاة تواجهها، بصدرها النافر؛ وعنقها الكبرياء الحرون ؛ كانت اللوحة تماماً ؛ كما توصف ( الكيرا )** وكما هى ذات حبيبته ؛ نوار ؛؛ ( نوار ) الصغيرة التى وجدت فى زحمة السكة الحديد والقطار آلات من الغرب ، يغادر محطتة الاخيرة ، ولا أحد يقترب منها ؛ (هذى مدينة تخلو من المؤمنين!) كان القطار ..يتحرك وعيناها ، كأنهما ثبتتا على السكة الحديد وعجلات القطار .. يدها التى تشير إلى نقطة مجهوله فى المحطة ؛ تصلبت على الهواء ؛ كأنها فارقت الحياة وبات من الصعب أن تعود سيرتها الاولى .. والقطاريتبدد فى المدى .. كانت فى مثل سن شهاب أبو على .. أخذوها وعاشت معهم فى الحى وذات فيضان للنيل ( حتل بها الجاسر)*** . . تأوه شهاب أبو على ورائحة نوار ، تتسرب الذاكرة وتملأ خياشيمه .. بعضهم أشاع أنها تاهت فى الصحراء تتبع ( غنم إبليس ) .، ولم (يحتل ) بها ( الجاسر ) .. كان يشتم فى نوار ، حكاوى جدته عن الكيرا
.. وحده الذى كان يعلم أن ( الجاسر ) لم (يحتل ) بها .. وأنها لم تته فى الصحراء . قبل أن تختفى كالحلم بأيام ، قالت وعينيها ترحلان الى البعيد : (سأرحل ) ، وظنها تعبث ‍... كانت عينا أبو على لا تزالان تتشربان اللوحة .
تردد ان تكون هى فتاة اللوحة ، بوجهها الطفولى .. العارية إِلا من ورقة التوت ، التى يتدلى الخرز من اطرافها . كانت فى اللوحة تتوسط أغصاناً خضراء ، تمتد لحد الصخور المتناثرة بين الاشجار ، التى تطل بعيداً عنها مساجد عرفها أهل (سنار القديمة) لأول مرة ... عينيها ببريقهما الناشز والجمر الملتهب من سرتها حتى سرة الجدار ، المستندة عليه نوع من الاشجار ، تتساقط أوراقه خريفاً ، ويخضره فى الفصول الاخرى ، ينمو
فى غرب السودان ويعتبر فى عدد من البلدان الافريقية شجرأ مقدساً ** الكيرا : زوجة احمد المعقور الفارس الذى أتى من شمال افريقيا ، ابنة سلطان الفور ، بزواج المعقور منها تكونت شعبة الكنجاره *** ترعة كبيرة ، كناية عن أنها غاصت فيها . عليه ، فى الزاويه الاخرى للوحه ، بدأ أناس متحلقين حول النار ، معبأين بها ،
يلقمونها ( الحراز ) .. يزداد أجيجها ، فيرتلون صلواتهم الحميميه .. كان يسمع التراتيل تتسرب من اللوحة فى إيقاع حميم .. تساءل (أترى نمت تلك النطفة ، المحملة بنداء البابور وإيقاع الجدول .. أم أن رحم نوار كان مقبرة للغازى ، المحمل بالقلق و التوتر ، والالق الحار ؟؟ ) ..
تلمس أبوعلى تلافيف الذاكره يثير فى قاعها ملامح الوجه المنسى ؛ ليس منسباً تماماً- فقد علق بعنفوان الجُرح البرَي وإحتل ممالكاً بكاملها تمتد من الذاكرة حتى أقصى الوريد.. اللوحة الجسد الحى .. صوت ( الجدة ) المنسرب ، المسكون بغبار السنوات العجاف .. السنوات المقموعة . الآن .. نوار ، فى الواقع كانت طفله
، تائهه ( كالقديسة بخيته )* التى باعها تجار الرقيق ، فى سوق الابيض )** وأصبحت ( سانتا ماريا ) المبجلة فى إيطاليا ؛.. كانت تائهة مثلها تماماً ، لكن مع سبق الاصرار والترصد ؛ رحل عنها القطار حاملاً اهلها الى مدن تجيد الخوف ، ولا تتميز بطعم أو لون أو رائحة ؛؛ وعلى اللوحة تتوسط بيرقاً وجرح وثلاث نجمات
ملونة ، ومثلثاً غائماً دون سواد ؛؛ ، كالمدخنة فى زاوية الجدار .. آه ، نوار ، زرع ( تاج الدين البهارى )*** شفقه اللامتناهى ..إستنبت الحل

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
زرع ( تاج الدين البهارى )*** شفقه اللامتناهى ..إستنبت الحل والترحال والحلول ، وتجلى إيقاع طبوله فى ( سنارالقديمه ) فصحى أهل (تمبكتو)**** البعيده ، تمدد .. تمدد .. تمدد ولم يتبق من المدد سوى طعم الغبار، ورائحة العرق الحار، الناشز فى تلك الامسية البعيدة ، المحفوفة بالجمر واللهيب.. النخلة ، المناظرة للحراز ، المطل على الجدول أعلا الرابيه ..
حين راها أبوعلى فى تلك السنوات ،أحس بأوصال اللوحة التى لم تتخلق - حينها - تسرى فى دمه ، بكل عنف تلك الرائحة ، ووجد ذلك الحب المثير النافذ .. إختزنتها خلاياه شهيقاً زفيراً... تتنفس ملامحها ، ملتفة برائحة حرازه فى القلب ،عجز (البهارى ) عن تدجينها تماماً .. (إتكأ عندها المهدى ، عاندته ) هكذا قالت جدتى.. ( وهويغوى فكرة ما.) أضافت دون أن تغير ملامحها...ملامح لجسد ممزق الاشلاء تتمترس على نوار .. ( أه ، نوار .. صديقة العصافير والطيور المهاجرة . التى لاتفتأ تبحث عن وطن جميل ، وفحل لايمل شقوق قدميه المتورمتين ؛ من أى لوزة قطن تفتقت ذلك المساء الحنين ؟؛ ومن أى ( شق ) فى الارض ، إنبعثت لتحاصرك - هذه الروائح ( بالصندل والخٌمرة وبوخة الطلح والشاف) *****
القديسة بخيتة : إحدى فتيات الفور سرقها تجار الرقيق إبان العهد التركى ـ المصرى

لايزال القوادين يبحثون عن أراض لم تغزها روائحك.. لا يزالون يبحثون يانوار عن أرحام ، يعبأونها بالشفق ،حرازة فى القلب أنت يانوار ، وليست ثمة وجوه ملساء تخرج عن غياهبك لتمارس عهرها العلنى! ) .. كان الهواء بارداً ذلك المساء وظل الحرازة يتمدد داخلنا ، نراقب الغنم المبعثره أسفل الرابيه على مبعده من (قيف)* البحر ، والهواء البارد .. ذلك المساء
ونوار فى ثوبها الفضفاض، تلتاع الريح ولاتلتاع ! ،ينحسر عن سروالها ( التكة) خطط أبوعلى الارض أمامه : ( لا، لست امرؤ القيس ، ولا أحب لعبات الملوك وحريم القصر! ..)
ـ من منا يبدا اولاً يانوار ؟!..
.. وتلاقت أيدينا فى ذات اللحظة ، ونحن نضع أحجار ( السيجة) فى مربعاتها الصغيرة ..تشابكت اصابعنا وظللنا صامتين .. كانت الريح تشعل ذرات الجمرفى الارض الرطبة ..
تتوغل الخلايا وتمتد الى الخاطر .. و صوتك يرتخى ، يأتى متنهداً ومنهداً كقلوع الشاطىء الغربى للنيل .. لم يبارح ( عبدالقيوم )** بوابته أبداً ، كان (يحملق) فينا يانوار .. أه ، لم تعد طوابى أم درمان كماهى !..
ـ لتتزوج !..
ولم أكن بأقل وهجا منك أو إنصهار ، حقاً كنا ننتشر على الهواء البارد المزكوم بالثغاء والبلل و صوت البابور و خرير الجدول المجنون على ( القيف ) ..
تلمس أبوعلى عطسه المخملى ، توشحت دواخله بمهرجان من الدم و مطر من الرصاص..
خرج . مشى ، مشى .. تاه بعيداً عن سنار القديمة ، فى الصحراء الموشحة
بالغابات وآلهة الغنوص.. سخرمن ( محمد عبد الحى وعلى المك )*** وأمدرمان ، وعلى
منعرج اللوى تناجى و( محمد الواثق )****، وأطل مع الصحراء على البحر .. ليس ثمة
فارس يقطع الفيافى و الغفار ، براحلته .. ليجدد أكاذيب ألف ليله ، و تداعيات (ذى يزن) !..
إنتظر ليكون آخر الراكبين .. كان كل الناس إثنين ، إثنين .. إلاهو ونوار
..

..لن يقترب ! ، هكذا قرر شهاب أبوعلى . غيَّرَّ رأيه . إقترب . كانت قد إختفت خلف شجرة الحراز ، تداعب قطة ، لايهم أمرها أحد ! بعضهم أشاع أنها لصاحب الكافتريا ، فتقدم منه : (أهى لك ؟! ) ، ولم يشأ صاحب الكافتريا أن يرد ..
إعتقده كحال الطلبة ، يبحث عن مدخل خبيث للحوار ! .. يفاوض بشكل ما لأجل وجبة ، تئد حدة الجوع .. (آه ، نوار ، ندير الحوار لأجل ( لٌقمة ) ؟! .. الكوليرا لاترحم و الجوع كافر ، والدوله لا تستحى ! ..) ..( سنستمر فى مشروعنا حتى ولوكلفنا ذلك موت ثلٌثى الشعب ..) تلوث الجو بصوت الراديو الوقح ، الذى أنبعثت منه روائح الجيف البشرية النافقة .. ولم تجدى المفاوضات .. ( اللعنة على هذه العتمه يانوار . . اللعنة ..) ، حينها تلمس شهاب أبوعلى أنفه ، فلم يجده!! ..
*
غرفة الداخلية الكئيبة ، يتقطر منهاالحزن .. الصرصور الصغيرعلى الأرض الخربة ، برطوبتها الموحشه ، يبحث عن فتات يوارى به سوأه الأيام ، كما نملة سٌليمان !.. ناله الجوع والارهاق ، أضناه البحث تمدد منكفئاً وهو يلفظ أنفاسه الآخيرة.. ( القَّمَّرة) التى بداخل شهاب أبوعلى ( خنّقَّت )* طرق أهل سنار القديمة الطبول و هم يحرقون وجوه الشعراء المجاذيب ، فى حديقة تنفس اللوحة ، إستلقت اللوحه و نامت ( القمرة ) حيث الحرازة التى تطل على الجدول .. تطل على كل المكان الفارغ من نوار .. تركت الجرذان و الصراصير مواقعها لترحل فى دمه!
تلمَّسَ أبو على أطرافه ، لم يجدها .. ترك ظله علىالحائط ، أصبح عارياً ! ومضى زاحفاً !! ...
*
(سلوى ) ياجٌرح دمى ، ياشبه نوار .. " سلوى " ياقلب النار .. أٌغنيك ، لا.. أٌغنيك ،آه .. الآن .. ) ... كان الطريق ينكفئ فى شرايين شهاب و الأسفلت ينام على السراب الليلى ، و
صوت العربات التى تعبر شارع الجامعة لم تتمكن من إبتلاع صوت المغنى البعيد رفع حزام
بنطاله بأسنانه وشده أكثر على البطن ! كان المغنى قد أنهى فاصله الأول ، و المدعوين لم يتركوا شيئاً ، ليس ثمة كلب ينظف المكان غيرك ياأبوعلى ! و المكان نظيف تماماً ! بدأ المغنى فاصله الثانى ، لم يكن شهاب أبوعلى يسمع شيئاً ، كان قد فقد أذنيه ! ...
اللوحة / الجسد الحى اللذين رآهما يتقاطعان فى ذاكرته على إيقاع الحراز
حين تمرعبره الريح ، ظله ، يتهيجان الآن فى داخله وظله لايزال معلقاً على مشجب
الملابس ! تساّل : ( أغياب عن الذاكرة ، أم ذاكرة للغياب ؟!) حاول أن يعد لنفسه حلماً بديلاً ، حيث هو ليس هو .. هو الحلم الذى يتقاطع بعيداً على اللوحة التى أرتسمت فى الذاكرة وتبدت بعد سنوات عن أنثى تحمل قسماتها .. تلك سلوى تتوغل الدم وترحل بعيداً فى الوريد .. حاول ان يأخذ حصته من اللوحة ،
استدراراً
، فكانت نوار تتبدى عن مدينة ساحرة ( برواكيبها )* وأسواقها الشعبية التاريخية ، بباعتها المتجولين ولصوصها الرائعين ! مدينه غامضه بقطاع طرقها وشفتتها ، الذين بوعى
( الهمباته )** قال عادل : ( أعطنى وطن لأعطيه الضريبه !..) ثم أضاف
( حيث أننا فى أى مكان هنا ، فاِننا فى القاع ...) .. وحمل عادل دفاتره ومضى كالمهاجر . سالت ذاكرة شهاب ابو على تملأ فراغات المكان المخبأ فى تفاصيلالوجوه الملساء ، الناعمه والشاحبه ، المتكومه ، المتعثره والمبعثره ..
إمتلأ الفراغ بصوت صامت غير مسموع ..كان هتافاً سرياً ، محزوماً من سرته بحزام
البنطال المهترئ .. وفم شهاب مختبئ فى مكان ما .. لم يستطيع ان يسأل : (هل رأى احدكم فمى ؟!!)…

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
سأل الفنانه التشكيليه :- ما إسم هذه اللوحه؟!
-نوار .. نوار ذاكرة الحراز البّرى ..
- لماذا لا تكون ذاكرة للحراز المقدس ؟!
- اتريدها كذلك يا ابو على ..
- ابو على ؟! كيف عرفت اسمى ؟!..
- انت تعيش فى دمى ، انت دائماُ معى يا حبيبى .
كان ابو على ينتظر متاّكلاً بالفضول والصدأ يتفتت عن وجه نوار .. العرب (طلقو)* البهائم فى ( الجروف )* .. البحر ( نزل )* .. نوار تجلس قربه ( سارحل !) ولم يهتم .. فاض النيل بعدها بشكل مفاجئ ، مخترقاً قوانين المد و الجذر ! . قالوا ( البحر بشيل عواموا !..)* (حَتّلَ بها الجاسر ..( عِرق البحر) مافى زولاً يقاومو، خلّها المرّه ..الجاسر غدار!...) وسلوى كانت تعلم الحقيقه.. ( "الشاف" تباريح الطلح فى النار شافنى مرقت من عندك ضرير أرجينى يانوار ..) ،
الذى رآنى ( سأرحل ! ) وبحث عنها رجال الانقاذ البحرى ، و ( السمَّاكه ) كثيراً ، كان ابوعلى يدرك أن ليس ثمة أمل ،قالت سترحل ، ولم يعر الامر إهتمام .. لم يصدق أن تتركه للوحده و الشوق والعذاب ! ..غاص ابوعلى فى تفاصيل اللوحه ومضى .. أصبح منذها غير موجود ، إلا فى الخاطر !..
******
لم تكن ( كيرا) مثل (نوار) أو سلوى ، فى كل شىء .. كانت كيرا سليله للسلاطين والملوك . عندما تتكلم يحلق (الوِّزين ) و (الغارنوق)* مظللا أرض الوادى وعندما ترقص فى الاحتفالات التى تؤمها كل الشعوب ، تسلب اولاد القبائل لبهم ، وتنشب الحروب ويموت فى ذلك اليوم الف فارس . جمالها البّرى ، البرئ ، حطم افئدة شباب الوادى . لم تكن كيرا تبالى بالاعجاب الذى تراه فى عيونهم ، كانت كنوار ، كأنها تنتظر عاشقاً ما ، من بلاد ما ، لاشئ فيها غير العشق والعشاق . الى ان اتى ذلك الفتى ذو الساق الواحده على ظهر ناقته الشهباء ، من شمال افريقيا ، متقدماً الزحف الكسوفرى بثلاث ليال ونهار ، حينها لم يكن الغسق بعد قد القى بظلاله التفاحيه على اهداب الوادى المحاصر بجوارى كيرا والتى توستطهم وهى تستحم ، اناخ الفارس المعقور ناقته الشهباء خلف قوز "الدخن "** ومستنداً على رمحه مضى
فى قفزات صغيره .. اختبأ عند دغل فى شفة الوادى ، واخذ يرقب جسد كيرا ، فى
اندياح المياه ... كان مسحوراً ، هو الذى خبرته صحارى شمال افريقيا بسباسبها و
وهادها ، وادمن حب الهلاليات والعامريات ، وخاض لاجلهن المعارك الطوال ، والحروب
الضروسه،حتى عقرت ساقه ! لكن لم يسحر كما الان ! كان جمال الكيرا نبوياً ،
برياً ، بريئاً وساحراً ..وناعماً مثل الحرير ..بدأ جسدها الملفوف معبراً عن تمرد لذيذ وعنفوان كشلالات المياه .. ارتدت الكيرا وصوحيباتها حليهم الخرزيه والعاجيه وسوين من " السعف " و "الودع" و "الاصداف " حول خصورهن وتعطرن بالريحان البّرى ومضين بين "الجناين " ميممات شطر " الحله" ، وفى منتصف الدرب المحاصر على ضفتيه بالأشجار و الزروع ، برز ذلك الفارس المعقور للكيرا ، دهشت و صويحباتها للحظه كأنهن شاهدن نفراً من الجن ، ومن ثم جرى الحديث متسائلاً ، ثم مستفسراً ، فمستجياً وتحول الى وجد ملتهب ،سار بصيته الركبان ! ومع ذلك لم يجرؤ الركبان ولم تجرؤ جوارى (الكيرا) على اذاعته؟! فظل سريا، حميما…ولم تجرؤ تلك العرافه (الحيزبون) (الميرم)*** على مجرد التلميح به، الا اذا شاءت الكيرا نفسها.. كان سرا شائعا ، لكنه سريا تماما !الجميع يعرفونه ، ولايجرؤن على مجرد الهمس به ! فلا أحد يستطيع القول (أن بنت السلطان عزباء).
تلاشى صوت (الجدة ) فى فضاء الاحداث ، وابو على لايقوى على استرداد بصره
من الشارع الذى يغلى كمرجل ..تتناثر الاقاويل عن الاتين شرقا،عفونة القائم ونتانته يزكمان الانوف !! وشبح رهن القرار ماثلا.. القرار المرهون منذ الغزو التركى المصرى ...
الذين يهيئون انفسهم لبحث عن وطن بديل يتلمظون شفاههم اليابسه .. بائعات الشاى ،(الفولالمدمس)* و (التسالى)** واشياء اخرى ؟!!.. المتسولين ، صبية الورنيش ، باعة الماءوالمشردون يملأون الطرقات !.. كل يحمل فى دواخله جرحاً عميق الغور ،يزكيه

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
عواء البطن الخاويه الا من مرارة الايام . الشباب المتجهين جنوبًا وشرقاً ، ببدلاتهم (الكاكية) يحدقون فى شارع النيل بنظرات كابيه ، والمجروس الذى يقلهم يبتعد . المسافه تثوى داخلهم كل املٍ آت ، او حلم جميل مرتقب !.. شارع الجامعه مكتظ بالذين يرتدون طاقيات الاخفاء ، يتتبعون النبض منذ مطلع الغد المخبـأ بين تلافيف (الجلابيب) حتى غياب الامس الملتحى ! و الذين فى (بيوت الاشباح)*** وغرف التوقيف السريه ، لايزالون يعانون عذابات الدرك الأسفل ، الجماجم اسيجه للأجساد المكتنزه وصهيد افخاذ الارامل ،المترع بالأسى ،يغذى الوجع الخرافى.
والعمارات التى لاتزال تسمق والهاربين من الأرياف البعيده ، تزداد أعدادهم ، ينافسون اهل المدن على بيوت (الشوالات) والقش والصفيح ! المخدرات والخمر فوق سن العاشره حتى القبر ! ...
ردت سلوى بصرها من شارع النيل الى الداخل ، بدت لها مبان الجامعه كأشباح تلتهم كل شئ ، فالداخل اليها مفقود والخارج منها مولود ! الحرائق الروتين ،الذى يقوم به الطلاب و معارك السيخ والملتوف والاعداد التى تتناقص بعد كل معركه ! كافتريا اقتصاد امتلأت بالمهووسين وقراصنة الاخلاق !.. الجداريات السياسيه التى تحمل سطورها رنة الغضب العارم ، والأخرى الصفراء الباهته .. شبح والدى يتسلل من الفراغ المحيط ، من بين سطور الجداريات يحاصرنى صوته المهيب (..وبنيت بلدة فى الصحراء ، واصبح الناس يدعوننى بالكلس ، لانتمائى لهذه الصحراء ..فى هذه الصحراء تعرفت على امك التى قدمت تتبع ضوء إلاهها (دينج)**** و تحلم بمجد شعب (اللَّوَّة العظيم )***** ! وتزوجنا بعد حب عنيف ،أنا (المندكور الكلس)****** و(هيلدا) سليلة اللوة ، التى قبلتنى حبيباً وبعلاً.. لم ارحل الى الصحراء ياسلوى الا بعد ان ضاقت المدينه بى ،واحالت حياتى وحياة الناس ، كل الناس شقاءً وضجر.. كنت اول من قطن الصحراء ولم اكن اتوقع أن ثمة من يحذو حذوى ، وأن بلدة
ستنهض هنا تبعث من ركام التاريخ البائد ، لكن لم تستمر هذه البلده ياسلوى ، فوجئنا بليل أليل ، أنفق الناس والبهايم ، وازال بلدتك ، بلدة عتام ، بلدة الكلَّس عن سطح الوجود .. ولم يتم العثور علَّى ، ولا على هيلدا .. كانت الإذاعات والصحف اليومية ، تتصدرها اخبارنا ، التى تختم بمكافئات مغرية لمن يعثر علينا.. وكان ذاك موسم العسس والمخبرين العاطلين عن العمل ، سعوا للقبض علينا احياء أوأموات .. الكلَّس ياسلوى لم يكن ارهابياً يقود الاف المتمردين كما زعمت وسائل الاعلام ، وليس ثمة علاقة ما لبلدتى التى كونها النازحين من السل و الكوليرا و الجفاف و التصحر و الحروب -بمخابرات أجنبية .. ومع ذلك يؤكدون حصولهم على معلومات تؤكد انتماء زوجتى للمنظمات سريه مخربه ، تشرف عليها إحدى
السفارات ؟!.. أختفيت .. وأختصت هيلدا إختفيت فى تلك الصحراء الممتده وتلاشيت فى
زاكراتها البائده ...)
- سلوى ، سلوى .. قلت لكل أجلسى و لم أقل أصمتى ..
_ ماذا بك ؟!..
إنتفضت كالملدوغه :
- آسفه ياأبوعلى .. لاأدرى لماذا يحدث لى ذلك ؟!
- ماالذى يحدث
رمقته بنظره غامضه ، إحتوته لبرهه ، ثم تراجعت ..
لاشئ ، لاتهتم .. ماذا بعد أن جلسنا ؟! ..
همس أبوعلى وهو يسترد بصره :
- هذا الخريف ولادًة قسرية !
فضحكت :- ربما تكون له علاقه بالعاهات النفسية ...
لم يقل لها أن سلمى زميله فى أل GROUB لاتتبدل حالها إلاخريفاً ، ولم يحدثها عن نساء الحى فى مدينته أولئك المصابات بالانفصام خريفاً ! .. ولا كيف أيقظه عادل فى الثالثة
صباحاً فقط ليقول له ( صباح الخير !) ثم تسلق سريره ألـ DUBLE BED مرة أخرى
وأستلقى دون أن يضيف شيئاً! من غيرالعادى أن تكون طبيعياً فى الداخليه ، ملأ عينيه بوجهها الصافى ، شعرها الأسود ، شفتيها المعبأتين بالندى و الغسق ، ساقيها الملفوفتين ـ اللتين تبدتا من “ شِق ” الإسكيرت الجينز ـ الممتلئتين طلحاً و مرمر ! صدرهاالعامر بحطام قياثير المدن الولهى ، الملتهبة ، واّخرالعاشقين من ؟!.. وليس ثمة نيرون .. شعر بها تحاول اخفاء الاثواءات التى خلفتها ايحاءاته. تهدج صوته :
المراهقات ايضاً تزداد مفازاتهن ظمأ حين تهطل اول مطرة ، هكذا تزوجنا انا ونوار...
اسبلت عينيها فى حياء انثوى ، شقى ، مُلهِب ولم تنظر الى وجهه مباشرة ...
ثمة حريق يعم أعماقه ، كان يؤمن ان اجمل ما فى الشعر العربى ، جاهله ..
ـ اصبح العرب عباقره لأنهم وعوا سلطة الجسد يا سلوى وعصر النهضه الاوروبيه ،
كذلك بدأ من هناك ...
ـ لاأعرف كيف هى هكذا المقارنه ؟ !
حدثها عن الحراز و علاقته بالمطر ...
ـ لماذا تجف أغصانه و يصاب باليباس خريفاً ! هل “ يعاف “ المطر ، أم هو
ثقب
الأوزون ! ؟ …
. . للأمر علاقه بالجغرافيا . و للجغرافيا علاقه بالجسد ياسلوى ، علاقه بالأساطير والأديان ، ولكل ذلك علاقه “ بالابستيم “ ليست المسأله عولمة مجردة ، أو إعادة إنتاج لمقولات الدفاع عن العالم الحروماهى طبيعة إنعتاقنا ، و كيف ، ولماذا ؟
***
احس ابوعلى انه يشارف على القاء قصيده ثوريه ، كعادته ..شاهد فى عينيها شيئا هجينا ما بين امرؤ القيس و محمد عبدالحى ..لم تنكفى نظراتها ..تمعنت وجهه المكدود حاولت ان ترى فيه تنبؤات الوداعيات ،عن غدٍ ليس بناظره قريب ،وليس كالامس المرتقب!.. تسللت كلماته إلى قلبهاالمشروخ ، تعالج فيه الحزن .. زوجتها أمها لأول قادم التهمت السنون عمره ،لكن فى جيبه تتناسل الدنانير ، محتضنة (أب صلعة)*.. الفقر لا يرحم والايام موجعة ، والذكريات أليمه (وقعاد البت بعد البلوغ ، يوورث الفقر الابدى ) هكذا حسمت امها الامر .. (الدنانير فتوه وشباب ، والعريس هرم ، أيام قليلة ويغيب فى الضباب السماوى الاخير .. ! ) ، فتزوجت سلوى من الحاج عباس ،
يومها ولجت عليهم نوار الدار ، وكانت تلك هى المره الثانيه التى تلتقيها.. رقصت نوار مع العروس كما لم ترقص فتاة من قبل ! كانت تدور حول نفسها .. تبسط يديها ، تثينها .. تثنى ساقيها وتمد عجيزتها ، ثم تحسرها وعلى الأرض تنتظم دقات قدميها فى إيقاع مقلق ، موتر .كان رقصاً غريباً لدرجة الجنون ، بدائياً ومتوحشاً سافراً .. وكانت سلوى تردعلى الايقاع بايقاع منتظم .يملئوها الاحساس بأنها مقبله على حياه بردها موجع وفراشها موحش ! .. وهى تطأ باب دارها الجديده ودعتها نوار بعد أن أعطتها وصيتها الاخيره للذى تركته عند (مفرق البحر والجاسر) لحظتها عرفت نوار اكثر ، وحفظت حكايتها عن ظهر قلب ، وتعرفت شهاب أبوعلى كانها تراه أمامها !.. ولم يتحقق لها الدفء مع الزوج الهشيم .. كان الفراش كئيباً
كليال* الدولار الذى يحمل صورة جورج واشنطن
الخبز الحاف ، وجافاً كوجه حاج عباس الشائخ ! ..والنساء اللائى سباهن (بنى جرار)*
كن مأزومات من مداعبات العبيد الخصيان ، مستثارات ..
يقول (طنير)* * :
حليل البنيه ( أم أحمد ) العديله قومتهاكيف شارك اللحاية شابله ضفيرتها

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
ناس فسيخه وناس فسيخه مامن جماعتها
عيل زولايوقد النار ويدفأ حارتها***
بحجم إثارة الكشج والمأكمة لمشاعر أبوعلى توغل صوته المنفعل متداعياً كطوابى الشاطىء
الغربى ـ أمدرمان .. وهو يستفز دواخل سلوى لتحكى عن تلك السنوات .. فى تلك اللحظة دفق والق .. أستردت الخرطوم . إنها سلطة الجسد ككتائب الجيش المحنك.. ـ أترين تلك العصفورة ؟ أنها تبحث عن عصفور . .
ـ الطيور تتكاثر خريفاً !
ـ حكمته بالغة !
ـ ماذا لو أصبحنا عصافير ؟‍‍‍
ـ الناس ؟!
ـ قالت نوار ، سيدها الشيخ ..
ـ لا ، الانسان سيد كل شىء فى الكون ..
ـ صعب أن تتسيد على الاخرين . .
ـ لانهم سادة انفسهم ‍
(مسته فى هاجسه الاساس )
ـ انظرى ، القرامطة ، كلفتهم سيادة أنفسهم عشرين عاماً من الحصار!
ـ ماذا تعنى ؟
ـ أقصد أنهم ،فعلوا مثل الكلس ، والدك ، تماماً .. لم يتنازلوا عن تصورهم
للعالم والحياة والناس ، قاوموا التصورات البديلة ..
ـ وهل كان تصورهم صحيح ؟
ـ إنه السؤال مرة أخرى ،هل كان الكلس على حق ،ليس لذلك أهميه ، المهم أن
ثمة رؤية خاصه ..اّه ، تباً‍ ..

بلهفة :
ـ مابك ؟
ـ صداع ؟
مسدت علىجبينه برفق ، إنه الارهاق .. عادل قال إنك ترهق نفسك كثيراً...
بارتياح :
ـ لقد شفيت ، أناملك الرقيقه بلسم لكل جراحات العمر ياسلوى..
تخضب وجهها كمراهقة صغيره ،
ـ العمر فقط ؟
قالت بهمس ، فاجاب فى إقتضاب :
ـ بل حتى جراحات التاريخ والذكرى الاليمه .. ونوار والاشياء ...
كان الحديث وعراً . ينحسر ويفيض عن ليل أليل وقمر لا يغيب ونافذة واحده
للعشق و الجنون ، وأخرى للرماد و الغبار و الصدأ ..
هبط عادل فجأه :
ـ ألازلتما تجلسان ؟
ـ أيضايقك هذا ! ..
وألتفت عادل إلى سلوى :
ـ صديقى رائع أليس كذلك ؟ !
ـ هو كذلك ..
كانت سلوى قد بدأت تتماسك فى دواخلها .. أهدابها المرتخية ، تشبثت بالجفن تماماً .. نظر عادل باتجاه شهاب ، أبوعلى ، فقال الآخير :
ـ نعرف بعضنا منذ زمن طويل ياعادل ، كم هو رائع .
الوقت حين تنتزع لحظاته الجميلة من بين أفواه الذئاب .. أولاد الأفاعى !!.
لم يفهم عادل شيئاً ، أطل خبث خفى من عينيه العميقتين ، اللتين أصرتا على
أن تعيدان أبوعلى إلى تلك اللحظات المشحونه بالتوتر و القلق و السٌهاد ، .. عندما
عاد إلى مدينته فى إحدى تلك الاجازات البعيده ، نهض ليلاً و نزوة حاده تتحكم فى
كيانه ، كادت تلقيه خلف حائط الجيران ، فىاللحظة الآخيرة ، تماسك . و تأكد أنهم
سيعتقدونه لصاً و ستضحك فيه إبنتهم العاهره سعاد ذات الثمانيه عشر ربيعاً ، بكل
ما تخبىء من شماتة ، فهى الوحيده التى كانت تدرك حقيقة الأمر.. اللعينة أثارته نهاراً و مضت . كانت تدرك انه ينام قرب الجدار الفاصل بين بيتيهما من الداخل ، وهو يعلم أنها تنام فى المكان المقابل له تماماً ، لكم تمنى مراراً أن تقفزإليه بعد أن ينام الجميع ! . لكنها لم تفعل ذلك أبداً ، بل ظلت ترفع صوتها ، ضاحكة ، ذالك المساء . ثم نامت بعد أن أعتقدت أنه لا يسمع ضحكها وتحرشاتها الموحية والادعى للخلاعة ، فى حديثها الذى تتجاذبه و أسرتها ..( كيف أنام أيتها اللعينه ، وقد اطلقت شياطين الجحيم فى دمى ! ) أنه يعلم مدى ظمأها وهى تعانى وحشة الفراش الخاوى ، وبوح الخريف، بل يكاد يسمع تقلبها كأنها على السجيل ! إنتظرها صباح اليوم التالى على الباب .. و تعمدت اللعينه الإكثار من الخروج و الدخول و هى تنظر إليه بخبث دون أن تعطيه فرصه للبوح ! فى تلك اليله تبول على الجدار . رأى فتات القلب و النخاع الشوكى يتكوم ، لزجاً و البول لايقوى على فت تماسكه الصلصال .. تنهد بحرقه .. ( كان ذلك سيبلل غياهبك ، أيتها الشبقه الصغيره! ) و تراجع عن التغوط ، لكنه رمى ( بسفة تمباك )* وهو يتخيل موضع سريرها ، أحس بها تقصد تعميق الحرمان داخله و تقتل فيه حلم أن يكون رحالاً ، كلالأوطان ، وطناً له ، يستند عليها وتتكئ داخله ، جرجر شهاب أذيال خيبته ميمماً وجهه شطر " النجار " الذى يقابل دكانه ، بيتهم ، حيث يجلس عم "محمد أحمد "العجوز المتقاعد تحت ظل " النيمه "** منذ سنوات ، كانت حياة "محمد أحمد " فى شبابه حافله بليال الأنس الحمراء و الخضراء والبنفسجيه ، ألخ .. ليس ثمة شئ يتعين عليه فعله ، كفحل زنديق و لم يفعله ، وها هو الآن وحيداً ، معبأ بالنسيان وأمراض الشيخوخة ،يهتاج أحياناً عندما تغمز اليه سعاد بعينيها ، لوكان متزوجاً لكانت صغرى حفيداته فى سن سعاد تأوه محمد أحمد و هو يرد على تحية ابوعلى الفاتره ..
إنتشله عادل :
ـ أين أنت ياأبوعلى
إنتفض شهاب :
ـ ها !! .. ماذا هناك !! ؟ ..
ـ كنت أقول أن سلوى تعرفك قبل أن تلتقيك .. أين كٌنت ؟ ! ..
ـ أنا هنا .هذا صحيح ، إنها رائعه ، رائعه .. أعرفها منذ زمن بعيد .. قبل أن يستسلم المقدوم مسلم** لخيول الترك ، بزمن بعيدوأردف أبوعلى :
ـ أين نهى خطيبتك ؟ !
لم يكن ثمة شئ يعنيه . . ولم يشأ أن يقول له " حبيبتك " .
ـ تركتها سلوى فى البيت " معرفه قديمه "
ـ ألاتٌسمعنا قصيدتك الآخيرة ..
خدر شفيف سرى فى جسدها ، ووجهها يتلوّن بلون التفاح ..
ـ اننى " شاعر بالأزمة

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
مفجوع ! ..
ـ السياسه اللعينه ، الأزمه هنا ! لايهم احداث إنقلاب سياسى بقدر مايهم أن يسبقه إنقلاب على مستوى الفكر و المفاهيم ، ألخ .. هأ ،هاى ...
أضاف بحزن :
ـ سأحاول قتل الشعر و الفجيعه داخلى ..
إستردت سلوى نفسها من براثن لوعتها ، خلصت تماسكها :
ـ لماذا ؟ !
لم يجب ..
ـ لن تستطيع !
ـ لماذا ؟ ! ..
ـ لأنهما قدرك الذى أفقدك نوار .. إنها مرض مزمن ، وجميل لحد الوجع ..
كالحب تماماً !..
هتف عادل :
ـ لم تقولا تفضل !
ردت سلوى بهدوء:
ـ كيف ونحن ضيوفك!
كان أبوعلى قد إنسرب مرة أخرى ، بعيداً عنهما ..غزته مدينته و هى تسحب شريط
الزمن للخلف .. توقف مرة أخرى فى إجازته الأخيرة ، بعد آخر اعتقال .. أيام الثانوى: الوقوف دون قيود تحت المظلات وعلى الكبارى ، الجلوس عند بائعات الشاى فى سوق (الملجة)* والذهاب المستمر فى تفاصيل نوار ،حيث الدفء والألق والمظاهرات المرتجلة.. تأوه أبوعلى بعمق ينم عن حسرة حرون: ليس ثمة وطن حنون وإمرأه رائعة ،إلاك .. برغم تغير الزمن .. الى ان أصبح للمدينة طعم مركب.. حسام الأعرج جارهم فى الحي ، أستطاع آخيراً إقتناص اللص الذى قض مضجع الأهالى لسنوات عديدة ، بتوصيلة الكهرباء (الارضى) ، الى الشباك .. لكن هذا الحادث لم يثر اهتمامه بقدر ما أثارته حادثة الشاب عابدين ، الذى غزا آحد الاحياء ، المنزويه فى قاع المدينه ، وسبى ( زينة) على طريقة بنى جرار التاريخية و هو يهتف :

بِنْشْلْ الليل عَلَّى كُرعَيَّا *
شراب الأمريكان حَمَّرْ قُدودْ عِينَّياَّ
مارِيَقَة أَمْ كَّيفِّه للآخرْا فى إِيديَّا
كَسْرْ الكْسَفرِيْتْ قَلَّع مَضَافْرْ إِيديَّا**
(زينه ) المراهقه ، التى لم تبلغ السادسة عشره بعد ! أطلقت الشرطه سراحه بعد أن أقرت المراهقه ، أنها ذهبت معه بمحض إرادتها !؟ .. مضت عشره أيام من الاجازه ، فشارك فىدفن سبعه ممن ماتوا بسؤ التغذيه ! .. كان الحى رمادياً ، كئيبا ، لم يعرف طعم الحفلات البهيجه منذ أعوام عدة ، الجميع يعيشون ليأكلوا ، لاأحد ياكل ليعيش ! !!.. القطارات المتوكئه لاتزال تئن ،و المسافرون بلا أشواق أو أحلا.. لا أحد يشتاق لاأحد فى زمن مصادرة الحلم ( هذه المدينه تخلو من المؤمنين !!
(تفوعليك زمن !) .. الشجيرات صبأت ، والطريق أختفى خلف الحفر ، والبحر الذى يحيط المدينه كإسورة ، دون معصم ،بلا نافذه ، تٌهئ للبواخر أن تطل، لتندفق شحنات المشاعر أو حفنات الأحلام..
البواخر نسيت طريقها نحو الجنوب ! الجميع هنا يسافرون فقط و لاأحد يعود!..الشوارع نفسها ما عادت تتذكر سوى الصراصيروالفئران والجراد..الأزقة والحوارى (تغابت العرفة فىساكنيها)*** وجحافل الغرباء تعلق شارات الانتماء لبلدة عاهرة ،كعلامات المرور

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
والمرابون يملأون الطرقات ، يشرعون ألسنة الإرهاب الفكرى!.. إنه زقاق التاريخ ! الصينيون الذين يعملون فى إعمار الجامعات المزعومة ، يتكلمون العربية بطلاقة ، ولا تستطيع الاساءه لامهاتهم " بالدارجة " دون ان يفهموا ! !.. أشياء مريبة يقتل الصمت ، من لا يرغبون إثارتها!.. سألت سلوى :
ـ ألم يحن موعد الثورة بعد؟ !
هى الارض، تسأل والجميع أضعف من أن يصنعوا ثورة .. منهمكون فى مناقشة وضعياتهم ، والغنائم والاسلاب .. لايزال الأفق الاقطاعى فاعلاً ، والعالم قرية صغيرة وتاج الدين البهارى
يراقب المعارك المسلحه باللحى والظلام والجنون .. قال عادل مداعباً ،بأسى:
ـ أسألى الاستاذ ..
( كانت نظراتها يملؤهما الحزن لم أشأ أن أكرر ذلك الكلام الممجوج عن جدل الذاتى والموضوعى وعلم الثورة ، لم أشأ أن أكرر هذا الهراء ..)
ـ الثورة بأى مكان ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍
نظرا إليه واجمين ، وتذكر هو كيف كان يتكلم يملؤه الحماس فى الذكرى العاشره (لثوره أبريل المجيد) * والطلاب بعضهم مشدود معه ، والبعض الاخر كان منداحاً مع حبيبته ،التى تجالسه ، انوثتها ، هتأفاً ، تظاهرة عرمرم لم يأبه لشىء .. عندما أنهى خطابه بصق على منصة (النشاط) ** فهو لا يستطيع أن يتبول هنا‍ لكنه قذف (بسفة) تمباك ، كانت تختبىء اسفل شفته العليا ، رحل بعدها لقضاء (حاجته) وقضاء الاجازه ، بعيداً عن هنا‍‍. . أشتاق لتداعيات الماضى ، ودفء نوار البعيده والجدول والبابور
ـ منذ خرجت من المعتقل وأنت لست أنت يأ آبوعلى ‍‍‍‍؟
ـ كانت نوار معى دائماً ، تلقمنى الدفء والصمود ..
ـ إنك وفى للتنظيم ..
ـ لم أصمد لأجل التنظيم .. فقط قيم الرجولة
ـ ماذا تعنى ؟ ..
ـ أعنى أننى كنت أميناً مع نفسى ، وهكذا سأظل .. هل تريد أن تحللنى
(بالكوانتم)
أم (التشظى) ها .. أم الجدل التاريخى ؟...
ـ يبدو انك مرهق ياابوعلى ...
( آه ،عادل .. أيها المتأبلس ، لماذا تنظر إلى هكذا ...كانك تعرفنى لاول مره
إذهب كما أنت وجهك يلعن قفاك)*** .. كانت الكافتيريا قد خلت تقريباً إلا من ثلاثتهم نظر عادل إلى ساعته ..
ـ المحاضره الثانيه ، سأدخل .. لوأتت نهى ياسلوى قولى لها أننى بإنتظارها قرب
شجرة (الاركان )*.. وأنت يأ أبوعلى ، الذى فاتك كثير ، يجب أن تلتفت (لأكاديمياتك) قليلا ، إنها السنة الاخيرة يارجل .. رد أبوعلى بجفاء :
ـ لست بحاجه لان يقرر لى الاخرون الامور
انصرف عادل لا مبالياً و احتدت سلوى بتلقائيه :
ـ لماذا كنت جافاً معه ..
ـ ربما أن أعصابى تعبانه .. آسف ، لاتزال نوار تلاحقنى .. انه لا يشعر بذلك
.. لا أحد يشعر .. ثمة أسوار عاليه تفصلنى عن الجميع ، و فى ذات الوقت تصهرنى فيهم ..
ـ ...
ـ لا أدرى ! ؟ ! .. لا أدرى ..
ـ هذا لايبرر جفافَك تجاهه ..
بحده :
ـ أعرفه أكثر منك ..
ـ أنا ..
هدأ قليلاً ، همس :
ـ أنت نوار ، تلك الآتيه من فلاة الكلَّس ! .. من شقوق الأرض وبيوت الصفيح..
لاتشغلى نفسك بعادل ، فقد أعادت له نهى توازنه .. ليس ثمة من يستطيع ازعاجه غيرها ، مهما كان جافاً و قاسياً معه ..
ـ ماذا تعنى " بأعادت له توازنه " ؟ !
ـ خدعته احدى الفتيات اللائى ينتمين لمن يمشون خلف الآخرين منذ مطلع الأمس حتى.. أحبها بجنون ، كانت " ملظلظة " مثل تلك التى خدعت "بيريا" بعد وفاة "ستالين " ومثلما كانت تلك من ضواحى موسكو كانت هذه ، من ضواحى أمدرمان .. عندما أكتشفها عادل ، كان قد بدأ الدخول فىمرحلةالأزمه وبدأنا فى مرحلة تغيير هيكله و مؤسسات التنظيم فى الجامعة .. لم تخرجه من أزمته سوى نٌهى .. هى نفسها لاتعلم بأمر خديعته ، كالعادة العقائديه فى التكتم .. لاأحد يعلم سوى من يهمهم الأمر !
ـ لماذا تخبرنى ذلك ؟ !
ـ لأنك أولاً نوار ، ثانياً أنت التى سألت و ثالثاً ..
قاطعته :
ـ لديك طريقه غريبه فى الاقناع ..
ـ . . . . . . . . .
ـ سلوى ...
( و رحل أبوعلى كعادته فى شروده الازلى .. كل لحظة دفء يختلسها ، يٌطل عليه من فجاج اللهب و الحريق وجه خالد الزاوى فى النار .. تأوه .. )
ـ هاأنت مرة أخرى تتذكر خالد .. إنها صدمه ..
ـ أنا لم أنسه لأتذكره ، ثم ماذا تعنين "بصدمة" !..
ـ لاأعنى شيئاً ..
قال بصوت عميق :
ـ كان يقسو على خالد كثيراً ..
وسحبته الدوامه العميقه للصوت ..سحبته الى ذلك المساء الذى تلى خروجه من مدينة العسس بأيام ،قال عبدالله متوتراً :
ـ كان خالد الفتى القزحى .. يشكل فى دواخلى وطن بكل عذابات الغربةوالنفى.. فى ذلك المساء ،المشعث بالحرارة ولج عبدالله ، عادل و محمود .. غرفتى ،التى كانت لى و خالد .. كانت كما هى منذ فارقتها بجدرانها التى تزينت بعبارات على نسق " احذر اللمس، كل شئ قابل للانفجار ! " كان عبدالله بذات حقيبته البنيه العطنه " أو ميغا " ، تحدثنا كثيراً عن المعتقل والمعتقلين ، وايقاع الحياه الذى يلتهم الاحساس بالاشياء كما هى !.. كان كلٌ يبحث عن شئ ما فى داخله ، يود لويوصله للاخر ويستريح ... شئ ما يلمع فى ثمانية عيون ، لا تميز فيها سوى الحزن ، شئ غير المجهول ، كتمت احساسى ولم أستكنه عبدالله ليكون liberty of
indifference كما كان يحب الفتى القزحى ان يٌعبر لو كان موجوداً .. أحسست بشئ ما محدق قبل أن ينطق عبدالله، قفز خالد الى خاطرى ، عندما رحل فى غموض آخر مره قبل أن أٌعتقل ... كان كابياً بنظراته التى خبأ بريقها . .
ـ "ألا زلت غاضباً من عادل و محمود " ؟!
ـ لقد نسيت الأمر ياصديقي .. كان واهنا .. أخذت أنفاس عبدالله تتسارع .. تلهث . .
ـ الفتى القزحى عاش أوروبا بكل خلجاتها ..
كان نصل ينغرز فى دواخلى ، فأنزف كل رعاف السنوات المقمقمة ، وعبدالله يطرق على القمقم بعنف وتردد .. محمود و عادل ، ساكنين سكون الموتى ، لا أحد فيهما يود لو يساعده ..وأنا أشعر بما لا أعرفه ، أحس بما سيقوله ..
ـ تتراءى له أرصفة أوروبا التى وطأها بامتداد تاريخه العائلى و تاريخ بلاده.. الأرصفه النظيفه ، الأحذيه النظيفه ، ناطحات السحاب ، التكنلوجيا ، الأداب والفنون ، اللغه .. وكثيراً ما كان يكرر أن سر نهضه أوروبا يكمن فى اسيتعابهم للغتهم ، عرفوااسرارها فعرفوا أسرار الانجيل و التوراة ، ألخ .. ألخ ...
فكر كثيراً ثم قرر أن يكون liberty victim فأختار خاتمته على نحومخيف ، قالباً التاريخ على قفاه .. أخيراً تكلم محمود:
- الصحيح دائما هو الخطأ ، هكذا اكتشف خالد بشكل سرى فقرر أن يكون free will كما كان يشير مرمزاً خوطره الكثيفه .. اتحدت روحه مع الفضاء اللامتناهى
( * )
( الشباب الذين يموتون هناك ، ترى أوجدوا الحور العين ، أم اتضح أن جوارى الميتافيزيك من خدع الكاميرا الخفية ؟! .. لا أصدق أنهم ذهبوا لأجل شئ آخر ،لا يتعلق بحساسية بنية وعيهم التناسلى ، العالية ! .. مثل التطلع فى وجه الحق ، الكريم ! أوصحبة الخاتم !.. هى المرأه اذن ، و الجوع .. أهم عوامل قيام الحضارات وسقوطها .. حتى المهدويين لم يسلموا من إسارها .. قال"ودتورشين"* لفكتوريا ..
أسلمى ،تسلمى ، ولئن أسلمت لختناك وزوجناك " يونس الدكيم "** إن رضىّ ذلك ؟!!.. لم تكثر حوادث الطلاق والزنا و التصفيات التى بلا حدود ، أكثر مما هى الحال فى تلك الفترة .. لم يكن ثمة إتفاق إلا على شئ واحد : أن قائد الثورة ، هو المنتظر شخصياً !! والأن على ذات الدرب ،ثمة منتظراً آخر ، ببدله رمادية يجدد الاعتقاد ،فى إطار إعادة إنتاج مقولات عصر المماليك ، و مفاهيم زمن الانحطاط ، و اجتهادات آخر الملوك الأمويين .. ونتفق على ألا نتفق!..) ..
ـ ثمة تشوّه طبقى !
قالت سلوى وهى تجلس .. فرد أبوعلى وهو يعد لنفسه مقعداً :
ـ لا يا سلوى إنها تشوهات فى الوعى ..
ـ ماذا تعنى ؟! ..
ـ هناك مقوله لمارى ستيوارت عن أن الذين يملكون بصيرة إلهيه هم غالباً
بحاله عمى عندما يتعلق الامر بشئون الحياة اليومية
الاجتماعيه ..
ـ لكنهم يموتون لأجل قضيه يؤمنون بها ..
ـ منذ 1956 م ونحن نقتل أو تستشهد أو نموت .. اختارى الاسم
الذىتفضلين لفعل مصادرة حق الحياة ، ومع ذلك لم ننجز شيئاً ، فقط تعمقت الأزمة .. ثمة مشاريع دول منجزه نظرياً فى بلادنا .. نمضى نحو التفتت إلى دويلات ..

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
إن تداول السلطه ...
ـ لا أحب الشعارات ياسلوى ، فلاتزعجينى بها .. الجميع يدعون
الديمقراطيه و السلم على سبيل التكتيك الليبرالى ...

رفَّ هدبها فى قلق ، أحسَّ بالعِقد الذى " ينضٌم " دواخلها " يتفلَّت " تتبعثر و تتناثر أشياؤها .. تعثرت يمامة على شجرة الحراز ، المغطاة بأغصان شجرة الجميز الضخمة ، المتمددة على سقف الكافتيريا والفراغ ! لون هديل اليمامة المكان ، مظللاً شجرة الجميز .. مهرت الاغصان الشائخه بخريف أخر ، يجرح الجدب ويختزن فى ذاكرته كل الاحلام السرية، المسربة من وراء ظهر زوار الفجر ! قرأ فى عينيها سفراً حالماً ، يختبئ خلفه امر الحراز والضعف الانثوى اللذيذ .. هاهى" بهجتك الحرش " تشرع نواجزها مرة اخرى والمدينه صامته إلا من الطلقات المتباعدة ، مجهولة المصدر .. ( من يراك يا سلوى يظنك لم تتجاوزى العشرين ..أكثرمن عشر سنوات تذوب فى حيويتك ولا يبين لها اثر ، السنوات تستحى من نضجك ! هذا النضج ، القلق ، المتوتر ، الذى لم يقوى عليه حاج عباس !..) ارخت اهدابها على صورته ، التى ملأت عينيها ، تنقب جراحاتها بلهفه ..
ـ حذرتنى نوار منك !..
ـ ماذا قالت ؟!
ـ بدوى ، بزاكرة المدينه.. لايكل ولايمل الترحال فى ديار العامريه ، جلف لا يزال يعتقد فى الرمح اداته الاّخيره ، فى البحث عن كنز أبى الجرهم .. لم تكن تدرى انها تدفعنى دفعاً اليك ..
ـ وربما كانت تدرى ..
ـ اذن كانت تمارس لىَ عواطفى نحوك ،بحنو وخضوع شقيين ، تسللت ساقاه . .
ـ مشرد انا يا سلوى !..
ـ لا تخشى شيئاً
ـ اعنى ..
ـ... ... ...
هكذا ، قالت نوار مرة ثم رحلت ..كان العواء بداخله يزداد ، وكانت تعلم انه يود لو يضع حداً للحراز الذى " يعاف " المطر ... غيمه تتخلى عن زخاتها .. تمتزج والتراب .. يتسلل الطين ، برائحته المميزه انفيهما ، بحياء " دعاشى "* مخدر .. يزداد الرزاز ، يتحول الى خيوط مطر ، تلامس سطح المنضده الدائرية ، تسيل على الارض .. وأخرى تطمن مانشيتات الجداريات السياسية .. يتشكل بين الالوان المطموسة وجه "نينا "** .." شبه الكيرا الخالق الناطق " الآن اللحظة ذاتها ياسلوى ..اللحظة تلك التى كان "آدمو" يتشرب فيها ملامح"نينا" ويتخيل الكيرا جدتها ،السادسة والعشرين ، مثلها تماماً‍‍‍ ناعمة الملمس ،عطرة الأنفاس .. كانت نينا مسكونه بجدتها البعيدة ، مثلما يسكنك الكلس ، وكان آدمو حانقاً على ذلك الفارس المعقور الذى أتى من الشمال الأفريقي على ظهر ناقة شهباء هرمة ..أحب آدمو نينا بكل العنفوان وبادلته عشقه النارى ، الذى لم يتوج بتوحد إلا فى أحلام القيلولات ، حيث يأتى طيفه إثر إرهاق العمل المضن فى الحقول كان كلما حادثها فى أمر الزواج ، ترد أن مارتجلو لم يأذن
بالعرس بعد ، فيصمت آدمو على مضض ، ثم تنسيه إبتسامات نينا " القمرية " مارتجلو
وهموم الكون وعلامات آخر الزمان .. لم تكن قصه آدمو ونينا تختلف كثيراً عن قصة
جدتها الكيرا ، وذلك الفارس المعقور الذى أتى على ظهر ناقة شهباء من شمال أفريقا ،متقدماً جيش (كسوفرو )* بثلاث ليالٍ ونهار ..
ـ انها لا تختلف عن قصتك مع نوار ياأبوعلى ..
ـ لابل ، قولى انها لاتختلف عن قصة خالد ...
ـ الامر سيان ..
ـ أتظنين ذلك ؟!
ـ لاأظن شيئاً ...

شرب أبو على كثيراً حتى أستحال قدح عينيه للون الدم ، وهو يحاول التخلص من خاطر
خالد الذى يسيطر عليه ..أطفأ عشرات الأعقاب ،و أفرغ كيسين من " التمباك" أطل الصبح وأنتهى الليل بقلقه وتوتره وسهاده المضنى .. و" الحناء " التى تخضب يديه والزغاريد والمغنى يتلاشيان فى المدى ، الظليل بالحلم ...
رائحة الكبريت والدخان والخمرة ليلة الدخله ، والتتفاصيل النسوية الاخرى تتسلل خياشيمه ،تخدره حتى النخاع ، وتفقده الوعى .. تهدج صوته :
ـ آخيراً نوار ..
ـ لن أقبل بعد اليوم ان تنادينى نوار .. أنا سلوى .. قالت بدلال وهى تعجن حبات
"الدلكه"** وتسحلها على جسمه الفارع ، كجسد موسى ودجلى ...
إنتهى عادل من إلقاء قصيدته الثورية اليتيمة ، التى يلقبها للـCalling فى كل مناسبة ، و نزل عن المنصه ، كان أبوعلى يتكلم عى شرف الزكرى الثلاثين لثورة "إكتوبر الشعبيه المجيده )**** ، وسلوى تجلس فى الصفوف الأولى ، عينيها تحتويان وجهه تماماً ، تأخذانه إلى البعيد .. كان يخاطبها وحدها . . . يخاطب فيها عتام ، و الكلَّس ، وخالد الفتى القزحى ... يخاطب .. لم يكن ثمة وطن اّخر غيرها يحسه فى هذه اللحظة ...
وتلاشت الفنانه التشكيليه بين دوامات الطلاب المتزاحمين ، تلمس ابو على رأسه ، لم تكن به عينان ، تحسس جموع الطلاب امامه ، لم يكن ثمة شئ ! بعثر محتويات مخابئه . لم يكن هناك شيئ سوى السراب الليلى والصدى والصدأ ! . . إصطدم جسمه الزاحف بشيئ ما ! كان غصن حرازة تقف عنده ممتشقة فتاة من سنار القديمة ، بجرأتها وجرتها . . أحس بنفسه يبعث من جديد ، تماماً كطائر مارتجلو . . لم تكن هناك نوار . . فقط سلوى ، مارتجلو والسراب الليلى والصدأ . .

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
ويحلق حتى قمته فارداً جناحيه ليظلل الوادى . . كل الخطوط التى تمتد على صخر مارتجلو تحكى قصة الحياة وصراع ششعب الوادى مع الطبيعة والغزاة ! لحقب طويلة ، بقيت فى تلافيف اللاوعى ركاماً غامضاً . . وينسحب صوت الجدة رويداً ، رويداً . . ليحل هم الرسالة التى حمله إياها خالد القزحى ليسلمها لأخيه سامى ( لابد بد أن أذهب وأسلمه الرسالة وإلا سيموت الفتى القزحى جوعاً ! لكن الوقت غير مناسب . . ليس مهماً لماذا يحس دائماً بالإختناق. . دائماً عند هطول الأمطار ، كالحراز ! لابد أن لذلك علاقة بطرق المدينة
الترابية ، الملتوية . . الخالية إلا من الأوبئة !! . .
أتى صوت أمه من الداخل :
ـ ( بتفتتش لشنو يا ولد ؟!! )
ـ الكبك القديم بتاعى كان هنا وينو ؟!
ـ طالع ولا شنو ؟!
ـ أيوا . .
ـ تلقاه جوا المطبخ تحت النملية . .
كان الشارع طافحاً بالماء ، والناس كالظلال فى ثيابهم المشمرة أعلا الركبتين ، إحساس
كالإنزلاق الغضروفى ! . . بدت كارو برميل مغروسة فى أحد الخيران وبدأ الحمار متعباً ومتألماً . . هتف الصبى صاحب الكارو :
ـ المساعدة يا شباب . . " أبو مروة "*
عرج عليه شهاب أبو على . . سبقه أحدهم ، وتبعهما آخرون ، شعر شهاب بلسانه يتمدد طويلاً ، كأن يعانى لسعات صيف حارق وهو يحاول مع الآخرين رفع العربة من مؤخرتها
. . . تبلل بنطاله تماماً . . .
ـ المساعدة يا شباب . .
ـ هيلا ، هيلاهوب
تمكنوا أخيراً من إنقاذ الحمار المتصبب عرقاً ، برغم برودة الجو ، وقف أبو على على مبعدة ، يحدج العربة كالمنتصر . . أحس بنفسه فى تلك اللحظة كأنه التوم فضل الله سالم ، بعد أن قتل رسل " الخليفة ود تور شين " . . كلب لعين فى تلك اللحظة نفسها مر راكضاً فتطاير رزاز الماء وأذهب ما تبقى من شكله المعقول تماماً!
تنهد : ( أيقتلك عسس الخليفة ككلب أجرب يا شيخ رفاعة الهوى )** فكر أبو على فى الرجوع ونسيان قصة الرسالة إلا أن خاطراً ألح عليه ، بأن الفتى القزحى سيموت جوعاً ، حفزه على المضى قدماً . . دائماً عندما يكون فى طريقه الى بيت " ناس " خالد ، تتعقد الأمور . . فى المرة السابق كانت المدينة لاترحم ، لم يكن الوقت خريفاً مثل الآن !! . . .وفى تلك المرة ـ أى السابقة ـ تلقى جالد صدمته العاطفية الصالثة : كانت حبيبته قد عبرت عن رأيها فى فقر للمرة الأخيرة والى الأبد !. . هكذا وجد نفسه مسئولاً عن تفريغ تأزمات الفتى القزحى ( يحبون هم .. ونتأزم نحن معهم !) لم يكن أبو على يستطيع الكف عن التورط فى تفاصيل خالد . . الدروب المؤدية الى بيت ناس خالد ، كالدروب المؤدية الى مضارب المسلمية . . محفوفة بالمخاطر ، وأبناء الإنجليز لايرحمون ، وخالد سيموت جوعاً ، الكلاب ربما تمزق بنطاله (فتتم الناقصة !) " يا بنت الكلب ، هذه الشوارع !كثيراً ما مررت بها ونوار ، لتقودنى الى داخلها أو أقودها ، حتفك الآن يا أبو على ، تحس به يأتيك حثيثاً ، صديقك المبجل يعتقد أنك تدبر جريمة إغتيالك ! وهذا الشعور لايفارقك ، كأن هناك من يتتبع خطاك النبض ! " إبتسم أبو على فى سخرية وقرف وهو يلتفت خلفه ، أليس ثمة عسس بعد . . لايعلمون أننى وصلت وصلت هذه المدينة الداعرة ! . . الطين اللازب مثل العسس يجعل الوصول صعباً ! وشائكاً هو الطريق ودون الهدف " لبن الطير " خالد الفتى القزحى حساس ، وأسى دفين ، يشع من عينيه اللتين لاقاع لهما ، وخالدة مكابرة ، إستلبتها العولمة ، قبل أن يسافر خالد الى بلاد لاتشرق الشمس فيها إلاعفو الخاطر ، فى منحة دراسية ، كان قلبه مشرعاً للفرح والغد الجميل الآت ..
الغد الذى لايحمل من ملامح الأمس سوى سمرة الناس وقلوبهم الناصعة الطيبة .. إلى أن أعادته دولة "السجم والرماد "* مع كثيرين ممن كانوا يدرسون خارجها فأصيب بالحزن المقيم
. . إتكأ على خالدة فتعمق الحزن أكثر ! لم يكن لدى أخوته المقيمين فى دول النفط الإستعداد لمساعدته على إكمال دراسته . . الغربة صعبة و " الفلس " حار و" دولة السجم " تؤسس نفسها على تجهيل الآخرين ! ولقمة الخبز دونها شوك القتاد والسباسب والوهاد وطلاسم سام بن نوح . . دونها . . "والسيف مشرع والرؤوس يانعة . . اللهم ألا هل ظلمنا !" دبر خالد مصاريف السنةالأولى بعد أن عمل جرسوناً فى مطعم لمدة عام ووالده الذى يحاصره بفتاوى الطفيليين والخصخصة
" السوق أبق من العلم يا خالد . . أسمع كلامى وتعال أقعد ، حا أفتح ليك دكان ، تفيد وتستفيد ، أفضل من قرايتك الماليها طعم دى ! " وأمه المطلقة لاتلوى على شيئ . . يأكلها الهم والحزن على مصير الشاب المتعلم والمصروف القليل ، والأب الذى يصر على إثبات فحولته للموامس ، ويقضى جل يومه فى الخمارات والبيوت التى لاتدخلها الشمس إلا وتتعفن ! الأب الثرى ، يعتصم بحبل الصغار ليأتوا إليه صاغرين :
ـ لك السمع والطاعة يامولاى ! . .
ـ القراية إستثمار خاسر . .
ـ نعم يا مولاى !
ـ ليس صحيحاً أن العمل مفهومه قد تغير ، ليس ثمة مجهود ذهنى يحل محله ..
ـ هذا صحيح يا مولاى ! . .
الأستاذ سامى شقيقه يحاول تعزيته :
ـ أصبر يا خالد يا أخوى . . أنا باكر حا أمسك دروس خصوصية ومع المرتب حيكون
الحال ماشى تمام ! . . سامى يعانى ضيق الحال الذى يغنى عن السؤال والذى بين فخذيه يتعفن ، شاب . . شايب . . عابد ، زاهد ، لم يغز إمرأة قط ، يستحى منهن حتى فى الأحلام ، ومشروع الزواج اللعين يبتعد كلما إقتربت نهاية العمر ، الذى يمضى دون ثمر ! . . طرق أبو على الباب ، برهة وأطل وجه الأستاذ سامى ، تعانقا على الرغم من فارق السن ، كانا صديقين قديمين ، حميمين . . ولجا الديوان وفى منتصف المسافة إنبثقت ، لابل تدفقت كانت جميلة ليست كنوار ، عصفورة البساتين والحقول .. لم تكن ملامحها الرائعة تتجاوز سن العشرين . تقدمت من أبو على بخطوات آلية مسرعة. .
ـ أهلاً . . أهلاً . . مرحباً بالضيف ! . .
سلم عليها شهاب مأخوذاً ، حاول معالجة دهشته . . لم يكن قد رآها فى زياراته السابقة أبداً ، دهش أكثر وهو يلاحظ أنها لاترتدى سوى فستان النوم البيتى ، الشفاف ؟! على غير عادة أسرة خالد المحافظة ، حاول ألا يهتم كثيراً ، فتحاشى النظر ، شعر بالقلق والحرج يحاصرانه
تماماً ! . . " ليت الأمر ينتهى عند هذا الحد ! "خيبت الفتاة ظنه عندما دلفت معهما إلى الديوان . . جلس أبو على على أقرب كرسي ، فجلست في الكرسي المجاور ، تأكد تماماً من أن هناك شئ غير طبيعي و أنه على أعتاب كارثة ستحدث ، لا تبقي و لا تزر !.. أحس بالحيرة و التوتر و القلق يملآن أخاديد وجه سامي المتغضن .. أخذت تثرثر :
ـ أنت جيت من عمي خالد ؟ صحي إستشهد !
تقلص الإحساس بداخله و شعر بإنقباض حاد ، لم يكن خالد الفتي القزحي من ذلك النوع الذي يكرر مواسم هجرة الشلك من شاطئ النيل الأبيض الغربي من بحيرة نو جنوباً إلى فشودة ، ليست ثمة مبرر للإستشهاد و مزاعم الفردوس المفقود . . وحلم دولة المنفى . . تدخل الأستاذ سامى :
ـ إيمان ده ضيف ، خليك عندك دم . . أمى بتناديك قومى أمشى عليها . .
ـ ضيف ولا ما ضيف ، أنا ستين مرة قلت ما عاوزة حد يزعجنى ، مفهوم ولا ما مفهوم يا أستاذ يا فاهم . .
ثم أخذت تضحك بشكل هستيرى . . وصمتت فجأة . .
ـ لو إستشهد كلمنى يا ضيف ، بالمناسبة إسمك منو ؟ !
تنرفز الأستاذ سامى :
ـ إستشهد ، إستشهد ، إستشهد . . فلقتينا بإستشهد ، أخير ليك تقومى تطلعى من هنا! . .
ولم تعر ثورته إهتماماً . .
ـ ماوريتنى لسع يا ضيف ؟! . .
ـ خليتو كويس فى الجامعة يا آنسة !
ـ آنسة ؟ يآنسك الشيطان قول آمين . .
وهى تنفجر فى ضحك هستيرى . .
ـ أنا مجنونة يا دكتور موش كدة ؟
صمتت فجأة وملامحها ترتخى فى حزن بالغ . . كان أبو على فى وضع لايحسد عليه ، فكر فى طريقة للخروج ، لاتجرح أو تؤذى مشاعر سامى وأسرته . . فكر ملياً ،فلم يجد . . لم يكن ثمة طريقة للخلاص . . بدأ له جو البيت الخانق أرحم كثيراً من هذه الورطة . . ما الذى جعله يصر على الحضور ، فكر قليلاً ، لكن خالد كان سيموت جوعاً . . كان سيصبح شهيداً للعلم والوجبات المستحيلة ، فالداخلية أقسى من مناطق العمليات . . لايعنى الموت فى " سراييفو " شيئاً فهو يأتى سريعاً وحاسماً ، ولكنه هنا فى الداخلية يأتى بطيئاً وجافاً ، يستلذ بتعذيب ضحيته. . كل الأشياء فى داخلية الطلاب لاطعم لا لون لارائحة لها ولاهوية مطلقاً ! .. " لو كان الفقر رجلاً . . " وإمام الجامع يصر على فلسفة الفقر " إن الله يحب عباده الفقراء . . و . . " وفى ذات الوقت يتمتع هو بالمآدب العامرة ! ويحرض الناس على ربط البطون ، هكذا تتم فلسفة الأشياء ، حنى الصلح مع إسرائيل سيقولون أن الرسول الكريم ، صالح اليهود فى الحديبية !!! كل شيئ هنا يمكن توظيفه آيديولوجياً . . يمكن فلسفته بالدين والتاريخ ؟! . . نظرت الفتاة إلى سامى بقسماته التى إتسمت بالحزن والإحباط والحرج التام والحيرة ، بدأ مسقطاً فى يده ، لم يدرى ماذا يفعل على حين غرة ، فاجأت أبو على . .
ـ تتزوجنى . .
تكهرب الجو تماماً وإرتبك أبو على ودواخله ترتعش . .
ـ الحقيقة أنت أى زول بتمناك . . بس أنا . .
ـ إنت كضاب . . أوعك تكون صدقت أنى ممكن أتزوجك ! . .
ـ طبعاً ما مصدق . .
وعلى نحو مفاجئ إنفجرت . .
ـ عبد الرحيم الحقير غشانى ، قال حيعرسنى وهرب ، لكن لقى المصير البيستاهلو ،كتلوه فى الحرب . .
وأخذت تنتحب ، تدخل سامى فى يأس :
ـ يا إيمان عليك الله خلى عندك ذوق . . أمشى بغادى . . ومواعيد " البخرة "*والمحاية** جات . .
هتفت فى حنق وهى تشيح ببصرها :
ـ محاية ؟! محاية يامتخلفين ، ياظلمة . . أنا حقى خليتو لى الله . . " بخرة " ؟! إنتو قايلنى مجنونة ؟! يبخروك بالشطة إنشاء الله . . دايرنى أمشى بغادى عشان إنت وأمك تربطونى فى " الشعبة "*** زى كل مرة وتجلدونى !! الليلة أنا ما ماشة والبقرب منى بخسرو ؟! .

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
كان الزبد قد تسايل من شدقيها ، أصبحت كالناقة التى ترغى ، نمرودة ، شرسة ، هكذا بدت وهى تلتفت نحو أبو على . .
ـ إنت كمان يا زفت ما عاوز تتكلم ، قلت ليك خالد عمى حيجى متين ، حيجى هسعولا ما حيجى ؟! . .
وأخذت تغنى إحدى أغنيات التجييش ، كان أبو على قد وصل قمة إرتباكه وأخذ العرق يتقاطر من كل مسام فى جسمه ، ومن كل فج عميق . . لم يكن الباب قريباً منه ليلوذ بالفرار ! . . دخلت أم سامى :
ـ كيف حالك يا ولدى . . آسفين على الإزعاج ! . . تقول شنو على البت مقطوعة الطارى دى ؟! عيانة والزمن " دهوار " ياولدى . . وإلتفتت على إبنة إبنها :
ـ قومى معاى بغادى يا بت . . قومى قامت قيامتك !
ـ ياأستاذ يا فاهم ، إتكلم مع أمك المجنونة دى ، قول ليها بلاش إساءات .
. ـ قومى يا بت الجن اليركبك ، أكتر مما هو راكبك ، قومى يا مصروفة دى حبوبتك‍‍‍‍‍‍‍‍ !! . .
ـ خلاص خليها تطير منى كدى ولاكدى ، خليها تنقشر من قدامىحاول أبو على تغيير مجرى الحديث :
ـ يا جماعة أصلو أنا جايى من خالد ، وإنتو عارفين طبعاً ظروف الجامعة والداخليةكانت إيمان تحدق فى الشاى الذى وضعته جدتها على المائدة ، بنظرة يصعب تحديد هويتها { . . مدت يدها فجأة :
ـ عاوزين تشربوا شاى .! والله عال تشهوا " الهبوب "* إنشاء الله . . وأفرغت أحد الأكواب فى جك الماء البلاستيكى الكبير . .
ـ أنا عاوزة أشرب الشاى كده ، مزاجى كدة ، حرة ولا ما حرة ! . .
ـ لكن ده شاى الضيف يا إيمان ؟!! . .
قال سامى بحنق ، سادت فترة من الصمت . . كان كا يبحث عن مخرج خلالها ، شعر أبو
على أن اللحظة مناسبة للهرب ، حتى لاتهب العاصفة مرة أخرى . . تنحنح ..
ـ الحقيقة يا سامى عندى إلتزامات لازم أقضيها باقى الليل ده ، طبعاً عارف حال الطلبة لمن الواحد يجى مسافر . . يدوه ستين وصية لأهلهم وبعدين بكرة زى ماتقول كدة الواحد مسافر . . ـ مافى مشكلة يا زول . .
محمد لم يعد بعد حتى الأن ، ترى أين ذهب ؟ المسكين لايزال يمارس فوضاه اللعينة حتى وقت متاخر من الليل ؟!. . . قالت أمى :
ـ بعد ما إنت طلعت جا ( تكل)* الكارو ، قال كاسرة بلى ، وطلع تانى ما بان!! .. المسكين محمد تحمل المسؤلية وهو بعد صغير ، ناعم العود ، كان قدره أن يحمل هموماً أكبر من عمره وتجربته ، فكان من الطبيعى أن يتمرد على قدره . . ترى ما الذى يدور فى رأسه ؟! . . . لا أدرى كيف أنتشله من هذه الوهدة . . . لا بد أن أنتشله !! لابد . . . كانت أجفانى قد بدأت تثاقل ، فترتخى . . . وخدر شفيف يحيط بى كهالة من الرزاز ويتبدى وجه نوار . . . أغيب فى دوائرحمراء خضراء . . ليلكية . . . أدور وأدور . . . ونوار تركض فى مسارات حلزونية ، وهى تنثر الندى والرزاز وأنا أغيب هناك حيث البابور والنخلة والرابية والجدول . . .
*مداخلة :

* فى فلسفة الحراز . . .
نوار زهرة البساتين والحقول ، أول أنثى أحببت وتفتحت عليها فحولتى . . . نوار سليلة أرض الحراز . . . يحدها جنوباً خط العرض " إتناشر " قالت ذات مساء : ميلاد الحراز تزامن مع الزحف النخيلى ، لافى القرن " الإتناشر " الميلادى ، كما يزعم بعض المؤرخين الذين يتعيشون من موائد السلاطين وتجار الرقيق ومستثمرى سن الفيل وريش النعام ! ولاأبان الغزو النخيلى الثانى فى القرن السابع من الميلاد ، فالحراز ولد متدفقاً . . وفى كل مكان عندما توالت حركات المد والجذر خارقة حركة الشمس والقمر وكل قوانين الطبيعة . هكذا ولد الحراز والبحر الأحمر يفيض وبحيرات أثيوبيا تفيض قبل ألف عام أو يزيد ، قبل الميلاد المسيحى . . هكذا كان ميلاد الحراز يا أبو على شيئاً ما ، بين النخيل والتيك ، ولد هاهنا أصيلاً لامهاجراً يبحث عن متكأ مهجور فى طرقات القرى الناعسة أو الخائفة من هجوم مباغت. . ولد الحراز فى زمن تمردت فيه قوانين الطبيعة على الطبيعة ، فأخذت وضع الشد والجذب ، فإندغمت الفصول . . وكان الحراز نمروداً يشكل المواسم كما يشتهى وتركع تحت أغصانه الفصول دون حاجة لتفاصيلها الطقسية . . ومثل الحراز لكثير من ممالك أفريقيا القديمة العناية المقدسة ، التى تعاقب السلطات بقسوة كل من يقترب ليمسها . كان الحراز مقدساً فى أفريقيا يا أبو على . . إننى أحبك يا أبو على فأنت تحمل شيئاً من ملامح الحراز . . لكنك أنت أنت فى كل الفصول وهو مثلى يظمأ فى الخريف لعاشق لا يجهل هويته على العناوين الحقيقية ، هو مثلى يعشق المطر ، لكن لايسلبه المطر رائحته المميزة ، رائحة الطين "والجروف"* المندية و" الدعاش "** المشرب برائحة البحر وإيقاع البابور " كل الإناث يظمئن صيفاً يا أبو على إلا أنا لأننى ونوار والحراز صنوى . . أبو على يا شبيه الحراز. .
أسبلت نوار جفنيها على الرابية ، إرتحل الغيم ليظل البحر بفوضاه . .
تنهدت :
يقال ياحبيبى أن أول من إكتشف الحراز هم بنى جرار ، المنحدرين من سلالة فزارة وذبيان ، أثناء غزواتهم المتكررة لديار " البقارة " والكبابيش . . حتى أقاصى دارفور . . نشأت بين فارسهم ( موسى ود جلى )
والحراز ألفة بالغة المودة . كان موسى لا يتكئ فى رحلاته الشاقة إلا عند ظل الحراز . .

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
وكان الحراز لاينحنى إلا لموسى !! . . . نام موسى ذات نهار تحت ظل حرازة . . فغدر به أحد " الجهنية " . . قذفه " بسمندية " *** حادة ، مشرشرة ، فتدلت أغصان الحرازة التى يستظلها محاولة حمايته . . لكن السمندية الحادة كانت قد أخذت موقعها على فخذ موسى شعر بها ود جلى وأدرك أن أحدهم قد غدر به وهرب . . فلم يعر الأمر إلتفاتة بل قال : ( قرصة ضبان الخلا* صبحت حارة بالحيل !) .. ثم أكمل نومه . . وبعد أن صحى أخرج السمندية وقطف حزمة من وريقات الحراز ، ودعكها على الجرح فإلتأم فى الحال . . وأصبح موسى بعدها لاينام إلا تحت ظل الحراز . . وحدثتنى جدتى يانوار أن جدها ( محمد نوباوى ) الذى قطع رأس
غردون باشا ، لم يشأ أن يعلق رأسه على سارية القصر كما أمر المهدى ، بل علقه على
شجرة حراز ، لاتزال هناك قرب بوابة عبد القيوم ! . . علاقة الحراز " ببنى جرار " يا نوار علاقة دم ، كان شهماً وكانواً شجعان ، كان يحارب المطر ، النزيف ، الزيف ، يحاربون الصلف الزائف لكل قبائل البدو الأجلاف . . لم يكن يحتمل غدر المواسم ولم يكونوا يحتملون أحد ! ومات موسى ود جلى بذات هذا الغدر الذى حاربه مغدوراً ( ككليب ) . . وكانت اليمامة فى كل نساء القبايل يغنين فيه الفخر والحماسة والإعزاز ، وطيفه يتجلى مبشراً فيهم . . ممتطياً النوق العصافير حيناً والجياد الأصيلة البيضاء كقلبه حيناً آخر . . ومسيرة الغدر والخيانة التى تغتال الشرفاء لاحقت بنى جرار فإغتالت فارسهم ( جانو ) حفيد موسى ود جلى . . سيف جانو ودرعه وضفائر أختيه اللتين يتحلى بهما مقبض السيف يقعيان ككلبان فى المتحف الوطنى ! هكذا كان مصير السيف والدرع الذى أذاق أبناء الإنجليز معنى الشرف
والكرامة ! ، يقعى كالكلب فى زاوية الجدار . .
السيف والدرع وضفائر " أم بريمة " ( الخريسة ) و" جادينة " ( الغليسة ) ، ولاتزال الضفائر محناة كما البارحة برغم مضى التاريخ وإنصرام الزمن . . كانت (جادينة ) و (أم بريمة ) تقاتلان كما الفوارس ، عرفت سنابك خيلهما ديار لم يعرفهما الجغرافيون الذين عشقوا المكاتب " المكندشة " وكراسى الجلوس الدوارة الفاخرة ! ( جادينة وأم بريمة ) شبهى (اليمامة ) إبنة كليب ! . . لكن اليمامة لم تكن فارسة مثلهما ، لم تعرف حمل السيف وهما قد عركتهما الحروب وعركن الأيام . . رجلاً كجانو تحدى (الجهادية السود ) ** لم يكن الخليفة عبد الله التعايشى ليستطيع مراسه ولاكل قبائل البقارة . . إنه حفيد موسى ود جلى يا نوار وأنت ( الخريسة ) . . تزهرين على ضفائرها كل يوم فيتفتح النور فى أروقة المتحف القومى الشاحب ! إلا من رائحة التاريخ العطنة تجددين الهواء وتملأينه " بحمامات " يحملن تباشير الشمس والحراز أنت ( الخريسة ) وأنا لست بأقل من جدى جانو حفيد موسى ود جلى . عندما أقتيد جانو للمرة الأولى بعد " كمين " محكم إلى المدير الإنجليزى ، لم يكن قلقاً أن يأتى مرسوم إعدامه على ذات الورق الذى يصنع من أخشاب بلاده المصدرة إلى (لانكشير) فى الأمبراطورية التى لاتغيب عنها الشمس ، حبسوه فى جب ضيق ، وهو العربى الذى عشق الأرض المتجردة وغنى صوت حوافر الخيل ، وإعتاد شرب لبن الإبل وحب النساء الشريفات ! . . لكن لم يكن قلقاً ، تآمر عليه أبناء الإنجليز فحبسوه دون ماء أو طعام . . فى اليوم الأول الذى إقتادوه فيه بعد هزيمته لكتيبة من الجهادية السود ، كان معه إبنه حمد فهتف فيه
( إن أمسن فى عناقرهن ، وإن صبحن فى مناخرهن )* فصاح الإنجليزى ( بتقول شنو يا متهلف!) (ما بقصد شى ياود المرة)**
لم يكن الإنجليزى ليدرك أن كلام جانو لإبنه بمثابة أمر بتهريب المواشى حتى إذا جاء المساء يكون قد قطع مسافة طويلة ، وما أن يصبح الصبح إلا ويكون فى أرض بعيدة لايستطيع أحد أن يجده فيها ، وبالفعل نجح " حمد " فى مهمته وهو الخبير بالصحراء والقيزان ودروبها الوعرة ، الملتوية التى لايقوى " السادة " أبناء الإنجليز على معرفتها ومعرفة مخابئها و " بواجيها " *** وكانت تلك أول ليلة تمر على جانو منذ تعلم الفروسية فى نعومة أظافره ، يبيت جائعاً حتى مساء اليوم التالى . . لكن لم يستمر حنينه للبن والسمن إذ ( إنفج ) جانباُ من الجب الضيق فى الظلام وأتى صوت حمد الهامس (جانو .. جانو ) وتدلت قربتان محملتان
بالسمن واللبن . . . أربعون يوماً وجانو منسى بالجب ، دون أن يطل عليه وجه ، أربعون
يوماً وجانو يتدفأ ( بالكتر )**** ويشرب اللبن والسمن . . . ظنه الإنجليز مات لكن ليس ثمة رائحة تنبئ بجيفة ما . . وقرروا أن يفتحوا الجب ، ففوجئوا بجانوأصغر عمراً مما كان ، ناعماً أبيض كفتى من الحور . . طويل الشعر أسوده ، زادته اللحية وقاراً لم يخلو من فتوة شباب . . خاف الإنجليز ، دهشوا ، تحطمت نظرياتهم عن H2O والبروتين والأكسجين ألخ . . لايفهمون كيف يعيش رجلاً أربعين يوماً دون مقومات الحياة ولايموت ، كيف حطم هذا الرجل قوانين الجسم البشرى. . أشار أحد أبناء الإنجليز بإستدعاء أحد البدو المتميزين بالفراسة ليحل اللغز،بحثوا حتى وجدوا(كباسة*) الخبير بشؤون البدو ، توقف فى متنصف الجب ، وتلمس جسد جانو ، لحظتها كان حمد فى ثنية دهليز ما مؤد الى الجب ، يرقب الموقف. . كان حمد قلقاً تحدثه نفسه أن كباسة حتماً سيكشف اللعبة . . إنسحب حمد وأتى
من المدخل . . كان قد قرر شيئاً ، فوجئ به أبناء الإنجليز فحاصروه . .
كان حمد قد قرر مغامرة أخيرة ، تحدث (كباسة ) أخيراً وأنفه يتشمم كالكلب ، متحسساً المكان: (شرابو بكر بت بكر . . ودفوه كتر ) هتف حمد : ( كباسة بت لبون تقطع قلبك ! ) فإستدرك كباسة : ( فكوا الراجل ده ، صالح حيجيب ليكم مصيبة! )
وتحطم صلف الإمبراطورية التى لاتغرب عنها الشمس ، لم يكونوا يفهموا ان (بت لبون ) ليست سوى بكرالناقة ، وهى ثمن سكوت كباسة ! وهكذا إنتصرت إرادة الحراز الذى ألجمهم
الصمت. .
الحراز يانوار هو ما تدفأ به جانو . . إنه قدرنا نحن . . هو ، والأرض التى تتمحور علينا .. أغنية لا تعرف الإنتظار الممض . . فقط تعرف كيف تغنى الحب . . كل (الحكامات)* غنين الحراز والناس (العزاز)* وكل الأشجار غنت الحراز والناس العزاز وظلت الحرازة مناظرة للنخلة التى على الجدول تطل من الرابية . . على البابور .. حيث نجلس يا نوار . . برغم أن زمن الناس العزاز قد إنتهى ! . . شهران مرا على هروب أخى الأصغر ، والكارو لاتزال بعد متكئة على الجدار والأفواه الصغيرة مشرعة . . الجوع كافر وكسرة الخبز طعام مستحيل . .
ـ يكون عامل كيف هسع الولد ده ؟!. .
تنهدت أمى فقلت بأسى :
ـ لم يعد صغيراً ، ومع ذلك سأبحث عنه . . فقط أصمدوا قليلاً . . تماسكوا ..
قالت أختى ، التى تكبره :
ـ تركنا فى ظروف صعبة ، لم يقل أبناء أختى صغار يعتمدون على، وأختى مطلقة بلا
سند . .لم يتذكر شيئاً فلا تبحثوا عنه . .
قالت أختى الكبيرة بحزن
ـ تلاتة سنوات ماسك الأسرة يا شهاب ، والمسئولية كبيرة عليهو و( لِسع )* هو جاهل . . شال همو وهم غيرو . .صبر لكن ما قدر يستمر . .
ـ لاتحزنوا سيعود إن شاء الله . . إننى أفكر فى حلول لكل هذه المشاكل ، حتى هو يجب أن يرجع المدرسة إهتاجت التى تكبره :
ـ ده فاشل هو فى حد قال ليهو خليها ؟!
ـ الظروف كانت زى الزفت ؟
ـ كان المفروض يتحمل . . الظروف دى على الناس كلها !
قالت أمى من أعماقها بحرقة :
ـ الدراسة !

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
فقلت بحزم :
ـ سأجمد هذا العام
ـ لن تجمد ولا غيرو ! إنت ناقص ؟! كم مرة جمدت . .
ـ لن أترككم هكذا وأسافر ، سأعمل فى الكارو مؤقتاً حتى أدبر أمر البيت
ـ لن تعمل فى الكارو . . البيت له رب . .
قالت أختى وأضافت أمى :
ـ لو تركت الجامعة سآخذ أختك وأطفالها ونرحل الى القرية ، أخوانى ...
ـ خيلانى ما بتحملوك ، ولن نتركهم يقولون إنى عاجز عن تحمل مسئوليتكم . .
ـ ـ أرجو ألا يناقشنى أحد فى هذا الموضوع مرة أخرى . ..
كان أثر السهر والتعب والإرهاق بادي عليهما ، كانتا تنظران للأمور من زاوية تختلف تماماً وأبو على يفهم شيئاً واحداً فقط . . إن ( الصقر إن وقع كُتر البتابِت عيب )* وكانا يفكران فى محمد بشكل مختلف . . قلب الأم والأخت الكبيرة يلح فى السؤال : ترى هل أكل ، هل شرب . . حي هو أم ميت ؟! وعشرات الأسئلة الأخرى تدور بخاطرهما !! وفى ذات الوقت لايفهمان أن الطالب الجامعى إستثمار فاشل فى ظل القوانين التى تصادر حتى حق الحياة ، وأدنى الشروط الإنسانية !. . لم تكونان تستوعبان أنه سيتخرج بشهادة عطالة عن العمل..وربما يموت فى الخدمة الإلزامية ، فيحتسبونه عند الله شهيداً ، وربما لايحتسبونه !!..
ـ ستبقيان ، وسأبقى . . لأريد ان يناقشنى أحد فى هذا الأمر . .
تأوه الحمار بعمق وشهاب أبو على يشد (اللجام ) ويلكزه بقسوة تشرخ الأعماق ، كان يود معاملته على نحو لائق ، لكنه كان أحمقاً . . حين يحرن لاتنجح قوة فى الأرض على إقناعه بخطأ موقفه ، أحس أبو على أن الحمار يود أن يقول ( أن حمارين فى بلد واحد ليس منهما نفع ! ) . . ها أنت تمضى الآن ياأبوعلى ، ياآخر سلالات ذبيان وفزاره ،ولكن ليس على صهوة جواد عربى أصيل كموسى ود جلى.. بل على صهوة حمار أشهب كغراب، كابى ..كئيب ..منكفئ النظرات !..طرق "باغات " الماء " بخرطوشه " الأسود ! ليسمع الناس فى بيوتهم نداءه .. وينادوا عليه طلباً للماء ! .. حمارين فى بلد واحد ..نساء الأحياء الشعبية يتنادين عليه ، يطلبن الرى للغياهب البعيدة المظلمة قبل " الأزيار "* و"براميل" الماء ، هكذا يغذى غروره الذكورى.. يفترض
فى نفسه الوسامة الساحرة ، ويتخيلهن ينظرن إليه بشغف وهو يصب الماء من "الباغات " ، مشرعاً عن فحولته وبداوته ، فاتحاً أبواب الصفيح بقدميه المتشققتين ، نساء البدو الأقحاح هكذا كن يفتحن أفخاذهن لموسى ودجلى وهو يجندل فرسان القبايل ("كحل العيون " ، و"عشا البايتات " "وكحل السرارى ")* ألخ .. مشرعاً سيفه فى قلب الأرض لتتفطر عن مزيد من الحراز .. وها أنت ياأبوعلى تشرع خرطوش ماء أسود الآن ..تتحين الفرص فى الأحياء العشوائية ،وليس ثمة شنبليات تقدهن سبايا !..
تأمل أبو على نفسه فى زى "العربجى " فتأوه أكثر ..أفكار حارقة تعتمل فى دخيلته ،يزكى أجيجها الهمس الذى يدور فى الحى : " الشول بت زهرا " وجدت فى الخرابة مع أحد الكماسرة ،مستلقين على حفنة دينارات وأمامهم قطع من السمك المحَّمر والمشهيات والخبز الطازج مع فرخة مشوية .. "محمود ود حسين باشرى " ترك المدرسة وأشتغل ببيع الجرايد ، فوالده الموظف لم يقوى على دفع الرسوم الباهظة ..!
عم محمد أحمد " بتاع المعاش المتقاعد إنتقل الى رحمة مولاه بطريقة تراجيدية مؤلمة! .."سعاد " بنت الجيران الفارعة البيضاء ،حبلت ،ولم يعرف صاحب الفعلة حتى الآن!..لكن المرشحون لهذا الأمر ثلاثة ، بينهم المرحوم محمد أحمد !! .. عم حامد بناته الثلاثة يدخلن الرجال إلى بيته على مرأى ومسمع منه ومن جماهير شعبنا!
وفمه المملؤ بالخضروات واللحوم والفواكه يجعل خروج الكلام عسيراً ! يقال و العهدة على الراوى أن ثلاثتهن إعتدن الحمل سفاحاً لأكثر من مرة ! ولا أحد يستطيع الحديث وهو يلوك الطعام ؟!! . . ( حليمة ) ذات الأربعة عشر ربيعاً بجسدها الفائر المتمرد ، ( حليمة ) المراهقة الجميلة ، كثيراً ما داعبت خيال شيخ عمران إمام المسجد . . كانت تحمل اللبن من البقالة فتمر بحلقة العلم التى يقيمها أمام داره وهو يتحدث عن ( الغرانيق العلى ) ويكرر أن النساء فتنة والشيطان خبيث ، تقدم الى أهلها ، ليزيد عدد نساؤه الى خمسة بعد ان طلق
إحداهن! فالرجل على حبله ثلاثة ويشتهى حليمة رابعة ! . . حاول شراؤها عدة مرات وفى
المرة الأخيرة قذفته أمها بحلة العجين وهى تدعوه بالعجوز المتصابى ! حليمة الرائعة هذه ، ملكة جمال الحى قبض عليها مع صبى ورنيش فى مرحاض الجامع!!..
تزوج عمار أخيراً بعد أن جمع له أبناء الحلة وأصدقاؤه الأوفياء والأدعياء ما يكفى لإتمام العرس . . .قيل انه إستطاع القبض على لص فى اليوم الثالث لزواجه ، كشفوا عنه النقاب ، فإتضح أنه أحد الأصدقاء الذين كانوا من أكثر المهمومين بقضية عرسه ! فتم تجاهل الأمر حتى لاينسحب على بقية الأصدقاء الذين حفيت أرجلهم وراء جمع التبرعات !! . .
بالرغم من الحرص على ألا تصل القضية للرأى العام ، تصعدت بالفعل وتم تدويلها !. .
( عثمان ) صاحب الطاحونة لاتزال مغامراته مع الغلمان تتوالى ، قيل أنه يستغل فقرهم فيشتريهم بالدقيق والذرة ، الجدير بالذكر أن أحداً لم يعد يصلى معه فى " الضرا "* أمام المنزل ! . . زوجته الصغيرة الجميلة تخلت عن الحجاب والعباءة السوداء التى تغطى جسمها الأبيض فجأة ولم يدر أحد سر تغيرها المفاجئ هذا ولم تدلى هى بأى تصريحات ، لكن نساء الحلة (النسناسات) لازلن يجرين البحث ، ولازال التحقيق مستمراً ولربما يتجاوز فى المرحلة القادمة " قعدات " الجبنة إلى حد تكوين لجان تنبثق عنها أخرى لتقصى الحقائق !!؟!. . مسعود ترك الجيش وأصبح تاجر حشيش لتأمين كسرة الطعام للأفواه الجائعة التى تركها والده وهرب مع إحدى العاهرات دون حياء !! يقال أنه يخبي الحشيش فى سطوح الغرف وتقديراً من عملاء المكافحة لوضعه البائس يكتفون بأخذ بعض سيجارات حشيش منه مع بعض الأوراق الملونة التى يتهامس البعض مشككين حول قيمتها النقدية !. . . ( عم أب شيبة )
رحمه الله ، العربيد ، السكير ، توفى أثر علة لم تمهله طويلاً ! فى تقرير الطبيب الشرعى أنه مات بسوء التغذية ، بينما ملأت شائعة الأجواء ، مفادها أن الكحول هى السبب ، إستغل عم محمد هذه الشائعة فتوقف عن شرب الخمر زاعماً انه إعتبر ( والبشوف فى غيرو أخير من البشوف فى نفسو )* فهو لايريد أن يلاقى مصير أب شيبة بهذه الميتة رغم أن الجميع يعلمون أن كل ما فى الأمر أن عم محمد المدمن أصبح لايستطيع أن يوفر ثمن كوب من الخمر ناهيك عن زجاجة كاملة هى متوسط سعته الرسمية . . هذا كل ما فى الأمر بإختصار ، لذلك توقف عن تدخين السجائر الذى إرتفع سعره أيضاً ولجأ الى التمباك ، بحجة أن التدخين ضار بالصحة وهذا يؤكد ما أوردنا من مزاعم !! " صفية بت حاجة ختمة " لم تستطع ان تقنع إبنتها
الصغيرة شاهيناز تلك التى يؤكد كل المراقبين انها مشروع إمرأة لعوب . . لم تستطع
إقناعها بعدم الخروج من البيت وفى ذات الوقت رفضت تزويجها من إبن عمها الفقير " الكحيان " إلى أن حدثت الكارثة ، وكان إبن العم قد تزوج وبإنتظار المولود الثانى ! . . " حاتم " العسكرى ، أرجع زوجته التى طلقها منذ عام بسبب الأوضاع الإقتصادية المتردية ، لم يقتنع بكلام زوجته حسناء الحى ، بأنها ستصبر وإن الله سيفرجها ، لأن قناعته كانت
( تزوجوا فقراء تشحدوا سوا !! ) وعلى الرغم من مزاعمه بأنه طلقها لأسباب إستراتيجية تتعلق بخلافاتها المستمرة مع أمه العجوز وأختيه العانستين إلا أن التاريخ الشعبى الذى يتأكد صدقه غالباً وتناقضه التام مع التصريحات الرسمية ، سجل المسألة على نحو ما ذكرنا ! والحق لله أن الجميع يؤكدون أن زوجته أميرة وبت أمراء . .
توقف الحمار بغتة فضربه أبو على بقسوة .

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
هنا على هذه الرابية كنا نلتقى أنا ونوار ، فنتناجى كعاشقين بعد أن سلبنا الوجد الإحساس بالزمان والمكان أو . . ويأخذنا التعب والإرهاق ونحن نركض خلف العصافير. .
كان لهواً طفولياً ، وما بالقلب أكبر من شقاوة الأطفال . . . أصبحنا نكتفى بالجلوس تحت الحرازة ، نلعب السيجة والبحر يسبح فينا . . يسبح حتى يغرق فننتشله ضاحكين ! .. كبرت يانوار وتفتق الجسد عن إمتلاءات شدت تجاوب الحراز إليها. . لم تعد تقوى على الركض فالصدر الذى إستوى بإرتجاجه يؤلم الجسد الممشوق فى كبرياء حرون ، والعجيزة تثـقل على الجسم . .وصارت الطفولة بذكرياتها الحميمة دافعاً للركض فى الدم ، ومطاردة لعصافير لاتبارح القلب !! . .
نوار ، الصبية التى قدمت من مكان ما ، فى زمن ما ، حلت فى داخلى بشكل غريب نوار أنثى الحراز والأبنوس ، إحتواها شيخ بابكر " لكنها كانت بت الحلة كلها " وبدرها المنير ، حين يسلب الغيم السماء نجومها وقمرها الضاوى . . خلفها القطار وراءه ورحل ، مثلما خلفت جهينة الكبرى أشتات البدو الأقحاح ! ومثلما طوى التاريخ سلالات بنى ذبيان وفزارة
. أطوارها الغريبة كانت تهزمه : شيخ بابكر ممثل التاريخ الرسمى لدولة البحر والغابة واللحى ! كان أيضاً غريب الأطوار إلى حد الفجيعة وهما نقيضان . فهو قد يمم وجهه شطر إبن تيمية وهى تخبئ بين أستارها سبحة لاتفارق صدرها المتمرد أبداً حيث تكمن سنار القديمة وكل الإسقاطات الطقوسية لمانى وومزدك وزرادشت فى تعاليم البهارى !! لم يكن لأحداً أن يدرك عنها شيئاً سواى ، لأنها لاتسبح إلا أمامى .. وجهها يضيئ جميلاً ، حين تهتف بسيدها القوس أو قطب الأقطاب ، قوت الزمن.. هالة خضراء تحيطها حينها كالملائكة الكروبيين هى " كالحنة " والحنين وجلابيب وطواقى سيدى عبد القادر الجيلانى كما كانت تقول !! لم يكن شيخ بابكر ليعلم عنها شيئاً ، ولا كل من فى الحلة يعرفون نوار سواى . . شيئ واحد كانت تشترك فيه نوار مع شيخ بابكر والآخرين : هو أن الجميع ينتمون إلى ملوك الطوائف ، لم
يدافعوا عن دويلات المدن وهى تسقط .. واحدة تلو الأخرى ! تماماً إختبأوا والمدن الإسلامية تسقط تباعاً على أيدى الصليبيين .. كانوا يلوكون حسرتهم فى بيوتهم ينتظرون الفرح ومجد " الزلاقة " يتضائل ، يتلاشى . . . وكان الغزالى حينها يكتب تهافت الفلاسفة ، مغلقاً أذنيه بالكتاب ! لم يصمد سوى المعتزلة ، تصدوا لزيف الصليبيين وقاتلوا عن مدن هرب عنها فلاسفتها وشعرائها ، ملوكها السفهاء وحاشياتهم ! . . . وتماماً مثلما سقطت سنار . . . كان إدعاءاً كاذباً ، فليس ثمة " . . رجال صابرون على القتال بكرة وعشية . . "* بل همج يتقاتلون على الدولة وإقطاعيات الملك وحريم وجوارى القصر. كرر التاريخ نفسه* وثيقة التهديد التى أرسلها ود عدلان الى إسماعيل باشا . . .
فى اللحظة التى دكت فيها سنابك الخيل بغداد . . . كان عقلاً جباراً يخطط لإسقاط سنار ، لينهار الحراز ويهطل الدم مطر وتتحول المدن وبيوت الصفيح والقش والطين اللبن الى رماد وتجعل الطريق مشرعاً ، لتؤسس للظلام ممالك تجيد الإنحناء لسفهاء أوربا . . .
ـ الدين الرقائق* يا أبو على
ياااه تنبثق نوار من قلب الفجيعة والرماد ، حاملة فى دواخلها أثراً لبشاعة الترك والأنجليز والمصريين الغزاة ، وليالى الرعب عند مقتل ( سير لى ستاك) . . تنبثق نوار مهشمة الحنين يستلبها التاريخ ، فتبنى عند البابور دولة للقرامطة ، يفشل كل عسس السلطان فى إكتشافها . . يفشل كل أبناء الإنجليز الذين تربوا بين أحضان التاج البريطانى فى الكشف عنها . . يااااه ، هذه النمرة ، النمرودة أكبر من سنها بكثير ، كالحراز مجهولة العمر ، تتفتق عن دفق وألق لايستطيع السياف " مسرور "* إيقافه أبداً
ـ من أين لك كل هذا العلم يا نوار ؟ !. .
ـ من الفجيعة ! سنار القديمة . . الشيوخ ال ...
ـ لكنك كنت صغيرة عندما أتيت إلى هنا فكيف ؟!. .
ـ لا بل منذورة للزمن ، فكرة فى خاطر كيرا ، ( نينا ) . .أنا نوار.
رحل القطار بداخلى ولم يرحل عنها ، الزمن ثابت والسكة الحديد كشوكة الساعة والقطار لازال يتكئ فى محطته الأخيرة . . نوار أنثى الشفق والدم والدمع والجنون! . .كنا طفلين نرعى الغنم معاً ، كانت تمضى باكراً نحو البحر وأذهب أنا فى الدوام المدرسى . . ألحق بها عند نهايته . . وكان البحر حينها يسعنى ويسع أحلامنا . . ونوار مع الأيام تتفتق عن أشياؤها وأتفتق عن أشيائى ، أشياؤها السرية ، القصوى تضرب جذورها فى الأعماق وتكون تضاريسها المتمردة على أجسادنا ، ملامحاً تعبر عن نفسها ، تغزو ممالكاً ليخرج الضوء شفيفاً كالجرح يتفتق جسد نوار عن بداوته وبدائيته القحة وبدايات التيار . .
ـ رأيت سمح الشمايل سيدى قوس الزمان ! . . بشرنى بعلى كما بشر المعقور
بسلالات حبيبته الكيرا. .
ـ لا أفهم ؟!!. .
ـ أمرنى بأن أتزوجك وأنجب منك على . . تطلقنى ويذهب كل منا الى حال سبيله
.
لن يذهب الزبد جفاء يا نوار ياأخت القمر ، سليلة أرض الحراز وبدرها المنير. .
ليذهب " سمح الشمايل " ونبقى نحن على الحب والساقية والباجور . . كنت دهشاً لا لأن الجميع ينظرون لنوار كخادمة ولا لأنها بلا أهل سوى " حب المصطفى عليه السلام " كما كانت تؤكد بإستمرار! . . ولكن لأنه لم يخطر ببالى أبداً إننى سأتزوج ذات يوم ! ويكون لى أولاد !! . . كان الحلم بعيداً لمن فى مثل سنى ونوار . .لكننى لم أكن أطيق خيول الإنجليز
تأتى و بواخرهم النيلية تسقط القرى والمدن ومدافعهم تهدم الطوابى . . لم اكن أطيق صلف الدفتردار وعنجهية إسماعيل باشا . . لم أكن جباناً وأقل من مستوى الحلم الجميل !
ـ نتزوج !
وخطرت على البال تحذيرات أمى . .
ـ أبعد عن نوار يا ود . . أنت كبرت ، والبت كبرت إنتو ما شفع زى زمان ! وسربت لى أمى من مخاوفها التى تراها فى الحلم . .
ـ شفتك إنت ونوار وبينكما دغل من الحراز الأحمر . . الله يكضب الشينة !! .
وفى مرات أخرى
ـ كان بينكما بحر وفى منتصفه عجوز تمشى عليه كالصرح الممرد وكأنها لا تمشى ، فلا هى إقتربت من الضفة التى أنت عليها ولا إقتربت من ضفة نوار !! . .
- أهى جدتى يا أمى ؟!. .
وتنظر إلى بتمعن :
ـ ربما يا ولدى . . ربما !! . .
لم يكن ثمة شاهد على زواجنا سوى الله . . ذاك المساء قالت والعصافير تسبح فى دمها ، وتسيل على شعرها الأسود الطويل ، وعينيها تزقزقان . . وعطر خفى يحتضن المكان فيضفى عليه بهجة الجنون والسحر والحنين . . ذاك المساء تبدت كإمرأة عركتها الأيام . . قالت بحذر . . وإرتباك . .
ـ لنتزوج . .
فأجبت :
ـ لنتزوج !
كنا على الرابية وأمامنا البابور يضخ الماء على " السرابات "* عبر عملية معقدة تتكون من شبكة من الجداول المتفاوتة العرض والعمق والطول ، قرأنا كثيراً من القرآن وصلينا ركعتين لله . . وكان الله شاهداً ، كل ما تم من أمر كنت أنظر له ببساطة ! .

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
ذاك اليوم لم نبارح الرابية وشجرة الحراز حتى مغيب الشمس ، كانت نوار قبالتى ، أمامنا البابور وتحتنا الرابية وشجرة الحراز مشربين بالوجد . . قالت نوار :
ـ هذه الحرازة !
ـ ما بها ؟!. .
ـ أحفر عليها إسمك وسلوى وعلى . .
ـ من تكون سلوى ؟
ـ إنها خاتمتك . .
نظرت إليها فى تساؤل عميق . . كانت قد لاذت بصمت أعمق. . . . . . . . .
ـ هذه الحرازة نمت بعد أن نزح " الشلك والنوير " جنوباً وصار يؤرخ
بها للمدينة ، يقال لك سنة الحراز فتفهم ما يعنون . . .
ـ وما علاقة ذلك بسلوى ؟
ـ الآن ستؤرخ بها لهجرتك نحو مواسم لايغيب عنها الوجد والأحاسيس المخملية.
وعميقاً ينسحب الصوت ليلوِّن الحراز بمواسمه المموسقة مع إيقاع البابور والجدول
ـ لنتزوج . .
ـ لنتزوج . .
كان الخدر يسرى يملأ فراغات المكان ويفيض . . دوائر ملونة مشحونة بالشجن الملتهب اللاهب تدنو لتلتقى وخرير الجدول . . يتسرب النفس مشعلاً فيها رائحة الجروف والأرض والتراب والطين والحرائق المثمرة . .
ـ ما بك يا أبو على ؟؟!
ـ لاشيئ
ـ سيدى قطب الزمان يحجبنا
ما من جسم له لدونة ، كجسم نوار وما من ثغر له عذوبتها وما من جسد متفجر بالأحاسيس العارمة مثل جسدها التظاهر ، الهتاف ، الجنون ، والجحيم الممتع ، وليست ثمة شفاه شهية كشفاها العسل المصفى . . نوار لم تكن مثل جنيات البحر أو حبيبات عمر بن ربيعة أو عاهرات الشام ! ولم تكن مثل اليمامة ، أو ولادة بنت المستكفى ، تخون إبن زيدون وتعطى قبلتها لمن يشتهيها وتطفئ مصابيح الغوطة ، ليعم الظلام إشبيليه وقشتالة وقرطبة وقرطاجة ، فيهرب العرب من الأندلس مذعورين ويتحطم حلم دولة المنفى بين أحضان عاهرة إسبانية . .
نوار كانت دولة المنفى ذاتها والصدى للقادم من مجاهيل الحراز يبحث عن هويته بين أسداف الذاكرة ، ذاكرته الملحقة بالبحر والصحراء والنخيل والغابات . . نوار حملت فى رحمها ملامحاً للذى فى الغيب يحمل سيف موسى ود جلى من المتحف الوطنى عندما يكبر ويحارب جيوش الظلام فيعلق ضفيرتى ( الغليسة ) و(الخريسة ) بديلاً للعلم ورايات القصر الجمهورى !. . . كان على يكبر ، وليس ثمة نطفة فى أرض الحراز فى تلك اللحظة تنمو إلا وإستقت ملامحها منه . . .
ـ حان وقت الرحيل يا أبو على
ـ إلى أين ؟!
ـ هكذا أنتم الرجال ، تنسون العهد وتخونون المواثيق !!!
ـ كيف يا نوار ؟!
ـ ظننتك لست كشعبك . .
ـ وما له شعبى يا نوار ؟!
ـ ضعيف الذاكرة !
ـ بل هو بلا ذاكرة !. .
ورحلت نوار ، كنت . . . لا أدرى ماذا كنت ؟ ، فقط لحظتها أدركت أننى لست كموسى
ود جلى . . .
ـ هذه الحرازة عندما تخضر خريفاً تزوج من سلوى . . هى شبهى . .
ـ من تكون سلوى يا نوار ؟!
ـ لاتتعجل الأمور ، فكرة فى خاطرها انا . . إنها أم على . . .
ـ الحراز لايخضر خريفاً يا نوار !
ـ الخريف بداخل الحراز يا أبو على ، كل الفصول بداخلنا نحن . .
ـ للطبيعة قوانينها يا نوار !
ـ أيضاً هذه القوانين بداخلنا . .
ـ لم أعد أستطيع فهم شيئ !
ـ بل تفهم كل شيئ !
ـ نوار ؟!
ـ عندما يخضر الحراز خريفاً سيكون أحدنا قد مات ، إن لم تكن أنت فتزوج من سلوى. .
الحراز إرتبط بالنصر والهزيمة ، بالقتل والدم والثورة ، هكذا كان هكس مختبئاً أعلى حرازة فى شيكان ، قتلوه فيها وعلقوه على مشارف الرياح والصباح !! . ..
ـ أحدنا سيموت يانوار ؟!
ـ لست أنت على أى حال ، سلوى ، تنتظرك لتزرع فى رحمها العصافير والأطفال والحلوى . . إنها الأرض وباطل كل ما قاله علماء الفلك والفيزياء.
ـ نوار ؟!
ـ ستجدنى قربك دائماً عندما تحل بك الكروب ويضيق بك الزمان والأهل والوطن. أحبك ..
وكانت تلك أول وآخر مرة تقول فيها أحبك . . رحلت . . وكان الجميع سواى لايعلمون وظل الأمر سراً كحياتنا التى لايجرؤ تاريخ الدولة على تجاوزها ، كما إعتاد تجاوز كل الحقائق والأشياء الجميلة!. .
لم يكن سواى يعلم عن نوار وعوالمها الميتافيزيقية ، المخملية ، الساحرة شيئاً ! الجميع يعاملونها كجاهلة رحل عنها القطار والأهل وتغولها آخر المساء ! وحدى كنت أعلم أن القطار كان بداخلى والسكة الحديد تتكئ علىَ ونوار ، . . . لم يكونوا يعرفونها جيداً ، الجميع ، حتى شيخ بابكر نفسه ، كلهم يعاملونها على أساس فهمهم لها بإفتراضاتهم فيها ، ووحدى الذى كان يعرفها جيداً . . كثيراً ما تساءلت :
لماذا إختارتنى أنا بالذات ؟! ولم أصل لجواب أبداً. . . فأنا لم أكن أحمل ملامح ود جلى ، الذى حزن لموته الأعداء قبل الأصدقاء ، وبكته نساء القبائل كلها. . .
كن ينتظرن موسى ود جلى غازياً ديارهن ، هازماً فرسانهن ليأخذهن سبايا لو تقاسمن تقاسيمه لتمدد الوهج وغنت الحكامات مثلما غنين بعد ذلك بوقت طويل :
( حليل موسى ياحليل موسى حليل موسى الأمو جاموسة

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
أخذت نوار تحكى عن تلك الليلة التى إنتقلت فيها إلى خاطر نينا الجميلة . ..
(لم تكن مثل تلك الليالى التى يعطف فيها مارتجلو على شعب الوادى فيحفهم بصوته العميق الآسر ، ولا أحد غيره ، فكل الناس ناموا على غير عادتهم ، كانوا ينتظرون مثل هذااليوم بفارق الصبر ، لكن مر اليوم فى ذلك الشهر عادياً تماماً . .. فلم تقام الإحتفالات البهيجة تحت ضوء القمر الفضى ولم يهتم أحد " بدلالينق البقو "* ولم يرقصوا " الكسوك وأبيرة ودَّت "** . . . لم يغنوا للنسوة الفاتنات ولم يستحموا فى الوادى أو يتعطروا كعادتهم ! ولم تلبس ذوات الصدور العارية تلك " الكنافس " المميزة والأستار المحلاة بالسعف وجلد النمر والأصلة وخرز العاج.
مرَ اليوم عادياً تماماً ، كأن إتفاقاً مسبقاً ، غير معلن قد جرى بينهم .. .
كان يوماً مشبعاً بالغموض ، هكذا أحس به الجميع . . . أخذت الأصوات تخفت شيئأ فشيئأ ، سكنت الحركة تماماً فى حلة شعب الوادى أسفل المارتجلو ذو الطائر الضخم. . . تململت نينا لحظتها فى نومها العميق . . . لم تكن تدرى ، أننى أولد فيها. . . فى تلك اللحظة بالذات!! )
تنهدت ، وصوت نوار ينسحب لتملأ سلوى تجاويف الذاكرة
ـ آه ، تقصد تلك اللوحة . . . نوار ذاكرة الحراز البرى رسمتها فى جبال النوبة ، فى الرحلة السنوية للكلية . . .
آه يانوار . . لاتزال غامضة هى عوالمك ، كلما ظننت أننى إقتربت تزدادين بعداً !. . . أهى أمك تلك النوباوية ( الصَّمَة )* التى رأت موسى ود جلى يهزم فرسان
قبيلتها ويسوقهم أمامه حتى " سودرى " * ثم يرجع بهن مرة أخرى . . . فغنت له الفحولة والموت والإقدام . . . غنت له الشجاعة ، والموت . . . الموت الذى يشفق على الحياة ويرفض أن تكون ذليلة ، كما غنت من قبل ومن بعد نساء القبايل ، فأهداه ملك النوبة هذه المغنية العاشقة المتدلهة ، هذه المغنية التى لم يمض يوم إلا وتحكى له عن شهريار وشهرزاد . . بلغنى أنها انجبت له نوباوى الذى قطع رأس غردون باشا وعلقه على شجرة الحراز المتكئ على النيل ، تنظر إلى القصر الجمهورى. . . دار الحاكم العام ونظرتها تخبئ رحلة السلالة الهاربة من الإستسلام للترك
يانوار فمن أنت ؟ !! . . . سألت الفنانة التشكيلية :
ـ وإبنها على ؟!!. . .
ـ مثل تلك الفكرة . . Deliverer التى عاشت فى عقائد الناس طويلاً . . .
وحكت وحكيت .. كانت نوار تعيش بيننا ، تدير الحوار ، تتنفس هواءنا ونتنسم رائحتها ، ثم قالت سلوى . . .
ـ أخشى أن أكون فى حلم !
وكانت نوار ماثلة كالمجد الزاوى فى نفق التاريخ لاتزال هالة خضراء من الضوء. . كالهالة التى تحيط بالأربعة الكروبيين .. أنه شيخ تاج الدين البهارى يا أبو على ، لايزال يلاحقك . . .يفصم ذاكرتك ، يعبئك بالميتافيزيقيا ، لتظل حائراً على مفترق الأنثربولوجيا الدينية ونوار !! . . . أنت لست موسى ود جلى الذي رفض أجمل النساء لأنها قالت له (راقب لى العيش ده)تعوَد أن يحرس قبيلته وكل القبايل فكيف تطالبه إمرأة بأن يحرس الذرة!. تركها وقال
( حرمانة علىَ ) ولم يستطع جمالها الدفاق ، و حسنها ثنى قراره . . وها أنت الآن . . . نظرة من نوار تحيل الثلج الذى بداخلك الى نار حمراء لافحة . . . تصارع البهارى لأجل أن تنفك منه ، و تصارع لأجل البقاء ، خاض معك معارك المسلمية والبقارة وبنى جرار وسلالات ذبيان وبنى وفزارة المنقرضة . . دخل مع الغزو التركى المصرى ولم يبارح بمجيئ الإتجليز الأمصار ، إنه البهارى يا أبو على ، وأنت لست المأمون ، وليست ثمة دار
حكمة تختط للضوء طريقاً !
ـ المأمون ذاته لم يكن بريئاً !
ـ هذا صحيح ، كان يريد الإحتفاظ بالسلطة . . .
السلطة يا أبو على ، هذه اللعنة التى تلاحقك . . تلاحق دمك لاتهتم يا أبو على بفارق الزمن فالنتيجة واحدة والعدو واحد كن كإبن رشد الذى كره الظلام . .. كان يريد أن يخرج من الظلمات نور رغم أنف إبن سينا المتكئ بين عرصات حران ، بين تلافيف الغنوص والظلام فى خدمة البهارىوالذين يهيئون كل أجهزة الدولة الأيديولوجية التوظيف ، لقرون قادمة ! . . .آه يا أبو على نوار تهاجمك ، تتوغلك .. كأن فوقك الستار و تحتك الستار و خلفك الستار و بين بين .. البحر أمامك و العدو خلفك .. نفض أبو علي الغبار عن اللوحة ، تتطلع إليه مليئاً.. كانت تجسد نوار بواكير القطن و لعنة " الشرافة و الهجرة " .. نفض أبو علي خيوط
العنكبوت عن اللوحة ، إكتشف لأول مرة أن الطقس كان خريفاً و الحراز نخيل!... وضع أبو على اللوحة جانباً و محمد أخوه الصغير يدخل ، يلج دائرة وحدته و تداعيه ، نهض .. إقترب منه ، إحتضنه ...
ـ سأنسى قصة هربك بشرط أن تكون الأخيرة .. لم يتبق سوى القليل و ينتهي كل شئ
ـ إنني آسف ..
ـ ألا تهتم ، يجب ألا تتهور ..
ـ سأعود إلى المدرسة ..
إحتضنه .. عانقه .. أبو على بشدة .. أكثر..و أربعة دمعات ، تتعانقان في فراغ الغرفة ..
..... ..... ..... .....

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
فاضل العزاوى

تفاصيل الذي كان . توسط البدر المنير بضوءه الساحر ، مارتجلو . . وأحاط به تماماً ، آدمو هو الوحيد الذى لم تخبأ نار وجده أو داره . . لم تسكن حركة دواخله المضطربة ، بشوق ملتهب لنينا الجميلة ذات الألق البرى المميز. . رغم إنشغال آدمو بحبه العميق إلا أن إحساساً داهماً هاجمه ، إقترن بالحلة الوادعة أسفل الجبال الأربعة لمارتجلو . . لم يكن يدرى كنه هذا الإحساس ، فقط شعور بعدم الإرتياح والترقب أو. . فتتسارع أنفاس آدمو وتصطرع فى داخله مدينة مشتعلة بركامات اللاوعى السحيق .. تناسى آدمو أمر الإحتفال البهيج الذى لم يقام وإنشغل بمناجاته لطيف الفتاة المنعمة " نينا " سليلة " الكيرا " التى سار بصيتها الركبان ! ملأت عليه نينا كل دنيته ودنياه ، فلم يعد يرى شيئاً إلا عبرها . . ملأت عليه قسماته
التى خددتها تجاريب الجغرافيا الملأى " بالتقاقيب "* والحروب . . والطبول العالية فأكسبتها خبرة ودفق وقسوة . . لم تستطع أنثى أن تتسربها سوى نينا وحدها بصدرها العارى ، العالى ذوالحلمتين السمراويتين . . ذلك النور الذى يشع من البلاد التى تقمصتها الحرب ونيران التقاقيب كان ينبثق من جسدها الملفوف متحدياً ، متسرباً رقائق السعف وخرز العاج وجلد الأصلة المتدلى بين فخذيها الدائريين ، كان جمالها برياً ، متوحشاً ، قاسياً ، ومع ذلك ناعماً كالحرير . . إنه ذلك النوع من الجمال الغامض الذى لاتعرف من أين ينبع بالتحديد ويشع !!.
ولا إلى أين ينتهى وليس ثمة أحد يستطيع إحتماله !. . كان جمالها كجمال الكيرا ، مدوياً مثل مارتجلو . . . صداه فى كل مكان ولم يكن ثمة من يستطيع إحتواء هذا الدوى سوى دوامات صوت مارتجلو التى تشعل فى قلب آدمو مقاومة للحصار المتجدد . .
مارتجلووووه . . ووو. .


هو الخطاب السياسى اللعين ، يهاجر فى مكان نحسبه وطن ، ثم نكتشف فجأة بعد إنقضاء عهد ما أن الأمر ليس سوى ثمة دولة أخرى كالتى إنقضت ، حينها ، نبكيها على الجدارات وطن !! بلا ذاكرة ، بلا ضمير ، كالنصل ينغرس فى القلب . ..دولة من العسس ! أين هو الوطن يا نوار ونحن نهتف بعودة من خرجنا لإقصائهم بالأمس !؟!
. . أين هو . . ولا تزال البدائية والخواء وفوضى رأس المال العطنة تملأ خياشيم الأماكن والناس !!؟!! ذاكرة الغبى الأخطل لا تزال تسيطر على القطيع . . والذى يأتى هو الذى مضى ! لاقيمة لأركان النقاش السياسى العقيمة ، لاقيمة للمناظرات التى جندلتنا فى اليوم ألف مرة ! إذ لانزال نعيد إنتاج تاريخنا القبلى بكل تناقضاته ، قالت سلوى :
ـ بنية الوعى الأسطورى كما تقول . . .
وتلحظ ان إسماعيل بادي قطع الفيافى منها إلىَ . . . لم يسترح أبداً ولم تنهكه القفار فى دائرة النقاش . . ألح فى السير وهو يتقصى سوء معاملة المسلمية لقبيلته الجمع . . زار حامد السعيد فى هذه الكافتيريا " فلمَح " له حامد السعيد أن ما ورد إليه عن إهانته للجمع لاتشوبها شائبة كذب . . هى الحقيقة وأردف مضمناً كلماته وعيد وهو يقدم " المريسة "* لإسماعيل بادى ( أشرب يا أبو قصيصة باكر لابد نخرب " بريسة "* ) ويشرب إسماعيل ثم يضمن غناءه وعيداً أشد (أشرب لاتتعب قوز العافية* باكر يخرب ! ) وتقع حرب البسوس بين البقارة والمسلمية ذات التاريخ يعيد إنتاج نفسه الآن . . . فى دهاليز البرلمان . . ردهات
الكافتيريات . . على ورق الجرايد وأروقة القاعات ، ثم تتحول الجامعة الى بقعة من النار والفحم . . قال عادل :
ـ سلوى بتسأل عنك ؟!
لم تكن تخطر على بال أبو على سوى سلوى واحدة . . تلك الفنانة التى إلتقاها قبل خمسة سنوات وتلاشت فى الفراغ ، يبحث عنها فى دواخله ، يجدها مختبأة كالسر ، سلوى سره الذى لايعرفه أحد . . سره المختبئ كنوار . .
ـ لاأعرف واحدة بهذا الإسم !
ـ أنا أدرى أنك لاتعرفها . . إنها قريبة نهى . . أو قل انها صديقتى . .
ـ نهى ؟! . .
ـ نهى خطيبنى ! . . ماذا حدث لك ؟!
ـ آه تذكرتها ، هل سلوى هذه ..لم أرها ، أذكر أن نهى حدثتنى عنها أيضاً ..
ـ جميل أنها رائعة بحق ، حلوة ومدهشة . . أنت محظوظ يا صديقى . .
ـ محظوظ ؟! ليس ثمة شيئ بيننا !!
ـ يكفى أن تسأل عنك من هى مثلها !
ـ لابد أن عقلك قد حدث له شيئ !
لم يكن عادل يدرى ان القلب محجوز لأفواج نوار التى إرتحلت ذات يوم غائم معبأ بالدهشة والغموض . .
ـ نهى كيف كانت هى الآن . . هل تأقلمت على الشباب ؟! تبدو لى بسيطة ورائعة
ـ إننى أذوب فيها حباً !!
ـ وهى !!
ـ تعشقنى بجنون . . تتلاشى فىَ!
إبتسم أبو على
ـ لاتدع محموداً يراها ، أجعل تأمينك عالياً حتى لايسلبك إياها !
ـ لن يستطيع أحد إنتزاعها منى ، فهى التى بادرتنى الحب !
ـ وأنت ؟

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
ألم أقل لك إننى احبها
ـ لاتتعجل يا عادل ، كفاك تجربتك التى أدخلتك فى الأزمة السابقة . . تريث وأبن على أساس قوى !!
ـ تلك اللعينة أحببتها بصدق ، لكنها خائنة . . خدعتنى . . لكن نهى صادقة ونقية!!
ـ المرأة كائن غريب فى كل الأحوال . . خذ حذرك وعش تجربتك بصدق. . أنت كالفراش
تنتقل كلما كان هناك زهر أجمل وأكثر رحيقاً وعبقأً . . حاول أن تجعل نهى فقط محوراً لعالمك . .
ـ دائماً تهاجمنى يا أبو على ، الى الحد الذى أشعر فيه أحياناً بأننى تلميذ مشاغب فى مدرسة أنت ناظرها ! . .
ـ أنا ؟! يبدو أنك أسأت فهمى كالمعتاد . .
ـ لم أقصد قل لى متى تستقر أنت ؟!
ـ عندما أجد المرأة الحلم !
ـ إنك ترجو خيراً من سراب قاتل ! . . الآمال والرغبات لاتتحقق أبداً طالما كل ما نفعله هو مجرد إنتظارها . . إنتظارها فقط ! . .
ـ ماذا تقترح أنت ؟!
ـ سلوى تسأل عنك فى إهتمام ! . .
ـ إننى لم أراها ولا أعرفها !! . .
ـ أحبتك من حديث نهى عنك . . . وماذا تعرف نهى عنى ؟! . . .
ـ أسأل سلمى ، فلا حديث لها سوى الحكى عنك ؟! . . .
ـ تكاد تحفظ حتى تاريخ ميلادك ، أحياناً أشعر بالغيرة منك . . .
ـ ولماذا تحكى عنى بهذه الصورة لنهى ! . . .
ـ لا أدرى ما الذى يعجبها فيك . . . إنه أمر محير ! . . .
هز عادل رأسه ومضى ، مكث أبو على قليلاً ، شعر بالوحدة والوحشة ، لأول مرة يهاجمه هذا الشعور ، نهض من مكانه وتوجه الى كافتيريا النشاط . . . يعرف أين يجد بقية الشباب . . . كعادته دائماً ، نادراً ما ينضم الى جلساتهم المرحة والمثقلة بالهموم . . . كانوا متحلقين حول المائدة ، خالدة ، خالدة ، عبد الله ، آمنة ، عادل ، نهى ومحمود . . . فكر أن يغير مساره ويذهب الى بيت أخته فقد إشتاق إليها كثيراً والى إبنها الصغير . . . كما أنه منذ أيام لم يذهب إليها .. . يعلم أنها ستكون قلقة عليه جداً . . . غير رأيه وإستقر على الجلوس معهم .. . شعور بالحنين الى أخته وصغيرها لم يفارقه . . . مسه شيئ من الضيق . .. همس خالد:
ـ ما بك يا أبو على ؟!
ـ هل تكلم معك عبد الله ؟!
ـ بخصوص ؟!
ـ. . . . . . . . .
ـ عموماً لم أره منذ الصباح ، وأراه الآن مشغولاً بآمنة
ـ حديثه على كل حال لايسعدنى . . .
ـ أنا أعرفك جيداً دواخلك شفافة . . . البصمة تؤثر فيها ! . . . كيف حال خالدة
ـ معك؟!
ـ والله يا أبو على الأمور كلها فى طريقها للتأزم . . . هكذا أنا ما أنتطل
لحظة فرح حتى تسلبنى إياها الغيوم دون رحمة !!
ـ ماذا هناك بالضبط ؟!
ـ أسرتها لاتريد لها شاباً فقيراً ، كالعادة ذات السبب فى كل تجربة . . .
ـ لاتحزن يا صديقى . . . ربما لم يحالفك الحظ حتى الآن !
ـ نحن بحاجة لجمعية للدفاع عن حقوق الرجل !
كنت أشعر بضيق عظيم ، لم أستطع أن أقول لخالد سوى " لاتحزن ياصديقى " كررتها
حتى مللتها . . . قررت الذهاب الى بيت أختى هكذا فجأة . . . قمت وأنا مثقل بالحزن
{ توقفت عند مخرج الجامعة مشتت الذهن ، لا أدرى هل أذهب عن طريق الشهداء
أم السوق العربى. . ." حتى هذه المسألة الصغيرة ، لم تعد تستطيع حسمها يا أبو
على ؟! " تنهدت وأنا أتجه نحو حافلات الخرطوم . .
• * *
رأيته فجأة فى المحطة الوسطى الخرطوم ، كان الرقم الثانى فى شلتنا العجيبة تلك! مر شريط الشلة على ذاكرتى سريعاً فقد كانت فرقه ذات نشاطات متعددة ..
فهى الجهة الوحيده المسئوله رسمياً عن اى كارثه تحدث فى المدرسه وهى التى تقوم باحتيال ادارة البوفيه فتشرب الكركدى والشاى ( ملحاً) دون ان تدفع مليماً واحداً ..وهى التى تجد ذات اعضائها فى كل الجمعيات ، وهى الوحيده التى تعود الى مواقعها فى الداخليات فى وقت متأخر من الليل بعد ان تكون قد غزت الاحياء المجاوره خاصة الحى العشوائى البعيد وهى تترنح ( انا اصلى يا عقد النجوم فى الريده ذى ساقية جحا والكفة فى ميزان هواى صعبان عليَّ ارجحا ) ... كانت شلتنا حقاً ذات نشاطات متعددة ، فهى التى تدبر المكائد لارهاب الطلاب (الجناير ) حتى لا ينضموا لهذا الاتجاه السياسى او ذاك .. فارضه حمايتها على من تشاء من عباد الله الطلاب وهى التى تنتدب نفسها قيمه على الاخرين ، حاسمة الشواذ اخلاقياً
والذين ( يدكون ) المذاكره .. كنا اداره داخل اداره وهو الناطق الرسمى باسمنا فى المحافل الطلابيه .. كانت ادارة المدرسة تنظر الينا بحذر وترقب ، خوفاً من تساؤلاتنا المريبه عن كمية السكر المستحقة لدى الداخلية او اشياء من هذا القبيل .. وقد كنا ندرك تماماً اين هى مواقع الخطوط الحمراء ! من الالوان الاخرى !!! فنستكين الى شعرة معاويه ! الطلاب جميعهم يرضخون لسلطاننا الواسع ، والاتحاد يسشيرنا بغية اتقاء كيدنا ، بعد ان تفشل مؤامراته التى تستهدف امن الشله ! فيلجأ الى ترغيبنا باستمرار ، لادراكه التام ضخامة شعبيتنا واننا لو اردنا ان نكون مكانه لرشحنا انفسنا بعد ان نطيح به ! فرغم افاعيلنا التى لم ينجح احد فى اثباتها علينا ، حافظنا على هيبتنا ...
وكنا محبوبين من الجميع ، لم يكن الاتحاد يخشى ان نتحول الى هيئة رسمية ، إذ أن دستور الشلة غير المدون يمنع ذلك لئلا نعجز عن تطبيق العداله على طريقتنا التى لا تعجب احداً ، لعدم ثقتنا فى القوانين ، واعتقادنا انها كتبت اصلاً لتخرق ! لكن لم يكن بيد الجميع حيله ! ذات مرة قرر وكيل المدرسة التصدى لنا فوجد فى اليوم التالى اسم ابنته مكتوباً على السبورة بالخط الديوانى ، تحت عنوان عريض بالرسم الفارسى :( الحمله الفرنسيه !) وفى الاسفل كثيراً اسم لفتاة تناثرت حولها الاقاويل كانت تتردد على مكتبه فى فترات متفاوته ، فاضطر الوكيل لرفع الرايه البيضاء ! كانت شلتنا تعلم كل ما يدور فى و حول المدرسه من اقصى الخاص حتى اكثر الاشياء عموميه وتمارس الكرم الحاتمى على طريقتها بتحطيم اقفال الدواليب الخاصه بالطلاب الاثرياء وتوزيع مكتنزاتها سراً على الطلاب الفقراء والمعدمين .. لم يكن احد من الطلاب الذين (إبطهم والنجم )* يشكو من عدم دفع الرسوم ! كل المحاولات لاختراقها فشلت ، فشلتنا ذات عضويه محدوده وكل منا عندما يكون بمفرده فى مؤتمرما ، يمثل رئيس الشله ويؤدى الواجب ! اذ ان الكل تكليفه معه ، والكل رئيس ! لم يكن هناك
من يجرؤ على تجاوز القوانين التى كنا نضعها باستثناء عتام .. بل كان هو المدير الفعلى لكل عمليات الشلة وعقلها المفكر .. وبالفعل لم يكن ثمة من الطلاب من يتحدانا سوى عاصم الاعرج ، فقد كنا نتضامن معه فى سرنا لاعاقته وحتى لا يشعر بالنقص ، كما ان بنود دستورنا لا تسمح بايذاء المعوقين وقد استقل اللعين هذه الثغرة .....
استرديت ذاكرتى التى طافت بعيداً وهتفت ( صلاح ..صلاح !..) كان يدافع مع المدافعين ..لم يسمع ندائى فكررت النداء .. التفت صلاح ، كان وجهه مكدوداً ، متعباً ..! افتقد ذلك التحفز والعنفوان ايام المدرسه الثانويه والشله ، لمح وجهى ، فنضح وجهه بفرح طفولى .. نفض عن ملامحه المرهقه تباريح التعب والغياب
(شهاب أبوعلى .. ) والتقينا في عناق حميم .. شربنا شيئاً من بارد الباعه المتجولين “بباغاتهم” البيضاء و “كيزانهم” اللامعة وجلسنا متقاربين ، سألته :
ـ زمن ياصديقى ولم نلتقى .
هكذا حال الدنيا .. كل من عليها مصلوب على نبض المعاناه ، من اصبح عاطلاً منا ومن لا زال يبحث عن عمل ومن قضى نحبه ومن لازال ينتظر بعد ومن هاجر طلباً للمال أو مزيداً من العلم ، هاجر ...
ثم توقف وعينيه تلمعان ببريق حاد ، كأنه سيفجر قنبله :
ـ عثمان .. عثمان عبدالله !!..
ـ عثمان ؟!.. عثمان من ؟!.
ـ ذلك الفتى النحيل أول الدفعه دائماً ..
فتشت فى ذاكرتي عن عثمان ، قلَّبت بجهد ، بحثت بعسر إلى أن عثرت عليه مختبئاً فى مكان قصى بين تلافيفها .. بوجهه النحيل ، كان من النوع الذى يمر بحياتك دون أن يخلف وراءه أثراً .. بسحنته العاديه التى لاتنبئ عن عبقريه ما ... ومع ذلك كان عبقرياً .. دائماً غير موجود إلا فى إطار ذاته فى مقعده بالفصل أو السرير فى الغرفه ، مرَّ طيفه سريعاً بخاطرى
ـ عثمان ، مالو!
ـ وجدته قرب الجامع الكبير يسأل الناس .. شحاد يعنى !..
إرتفع حاجباى بدهشه :
ـ لا ياخ أكيد شبهتو !!..
ـ أبداً والله سلَّم على باسمى ، وسألنى عن الدفعه كلها !..
ـ أصلو ما ممكن !
ـ والله ده الحاصل !.. تمنيت لو أن عتام الكلس سمع به !..
وأخذتنا لهفة اللقاء الى الذكريات البعيده ، متنقله من محطه إلى أخرى ، فجأه
خطر لى خاطر:-
ـ أتذكر ما فعلته أنت وعتام بعاصم ؟!..
ـ آه عاصم .. ذلك الأعرج اللعين !
.. كان عاصم يمتلك عصا أبنوسيه ،لا يستطيع المشى بدونها .. كان معنا في عنبر واحد .. جباناً إلى حدٍ مخيف للدرجة التى كنا ندعوه فيها ب O -Neg. فقد كانت لفظه خصصناها لجبناء الداخلية ، رغم ذلك كان هو الوحيد الذى وطد علاقته بالشَّله .. اذا ان لاأحد فى شلتنا يحب “الرياضيات" و الوغد كان يدرك أسرارها جيداً فدماغه المفلطح كان يتعامل مع الأرقام بذات السهوله التى يلوك بها فمه المنتن عدس الداخلية المرعب ! .. لكن اللعين برغم ثراء أهله ، كان يحاول استغلالنا لحمايته لقاء مسألة او مسألتين .. ذات مرة تآمر عليه عتام وصلاح و الشلَّه ما كانت لترضى بأى تآمر ضده مهماً كانت الأسباب ، ثم لم يجرؤ أحد سوى عتام على تنفيذ المؤآمرة ، إذ انسحب صلاح فى اللحظة الآخيرة .. وكان عتام غاضباً منه غضباً شديداً لأنه غشه فى حساب المثلثات ، فقرر تنفيذ المخطط وحده بعد تراجع صلاح .. و فى منتصف الليل تماماً قام بغارة أسفرت عن سحب العصا الأبنوسيه من تحت السرير ، ورجع عتام الى سريره سالماً دون ان يشعربه عاصم فى الصباح اخذ عاصم الاعرج يصيح و يصرخ :-
ـ يا حرامية ياأولاد الكلب .. أربعه و عشرين دقيقة بس إذا العصاية ما ظهرت حايكون شغّل تانى ..
إنقسم العنبر إثر ذلك الى معسكرين ، حلف أعلن مناصرته لقضية عاصم علناً و هو الحلف الأقل تضرراً من لسان عاصم البذئ اللاذع أما الحلف الأكثر تضرراً فقد أبدى إرتياحه لتطورات الأوضاع في عنبر سته ! .. وحقيقة ما يدور خلف الكواليس ، أن العصا الأبنوس كادت ان تؤدى إلى كارثه اذ فجرت صراعاً حاداً بين مراكز قوى الاتحاد فى الداخلية و التى اخذت تطفو على السطح مستغلةً و موظفة حادثة العصا و فى اطار توظيفها لهذه الحادثة اخذت تعرى الشلة .. فى خضم تلك الاحداث بدوت متعاطفا مع عاصم :
ـ كدى اهدا يا عاصم لابد اننا سنجد العصاة
ـ تلاقيها..تلاقيها وين؟! ما شلتوها انتو ذاتكم !
كانت الدعاية المضادة قد أتت ثمارها عاصم نفسه بدأ كالواثق ان الشلة هى المسؤولة ،لكن كالعادة لم يجد الجميع امامهم سوى ان ينددوا و يستنكروا و يدينوا ثم يرفعوا توصياتهم ضد مجهول .. لم يستطع عاصم فى ذلك اليوم الذي اسميناه بيوم العصاية تخليدا لذكراه !.. لم يستطع الذهاب الى الفصل إلا بعصا من شجرة النيم العجوز فى باحه الداخليه ! قطعها له أحد أعضاء الشَّله !.. وأخذ هدير عاصم يخفت يوماً بعد آخر .. إلى أن أسطاع أن يخلق علاقه عاطفية حميمة مع عصاة النيم التى أخذ يخفيها بعنايه تحت فرشه عندما ينام .. وعندما شارفت الامتحانات على الابواب قرر صلاح إعادة العصا الأبنوس لعاصم مع رساله فى سوء السير والسلوك ، ولم تكن هناك طريقه مٌثلى أكثر من أن يفاجأ بها عاصم و هى منتصبة على الأرض فى قلب الساحه التى تتوسط العنابر ... تذكرت وصلاح تلك الحادثه فأخذنا نضحك على شقاوة زمان

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
سألته :
ـ مالاقيت عاصم ده ، او اى واحد من الدفعه ؟!..
ـ لاقيت عبدالعاطى وعنقره قبل فتره ..
ـ عاملين كيف ؟!
ـ عبدالعاطى مهاجر الى امريكا ، جاهُ lotery لوترى الحظ ضرب معاه
وعنقره اصبح معلم فى مدرسة خاصه .. وإنت ؟!..
ـ لم أتخرج بعد !..
ـ كيف ذلك ؟! موش المفروض تكون إتخرجت قبل أربعه سنه ؟! ..
إبتسمت :
ـ ده الحاصل .. لحدى هسع ماإتخرجت .. بعدين مابراى ، معاى من الدفعه خالد و
عادل .. نفس المشكلة
ـ اخبار خالد .. شنو ، كنت مفتكرو بدرس برا !
ـ كان فى اوربا ، الدوله اعادته مع من اعادت من منكودى الحظ ، ما سألتك اخبار
الكلس شنو ؟
ـ عتام ؟
قال صلاح وهو يضيف :
ـ ليست ثمة اخبار كافيه عنه .. لكن يبدو انه يؤرق الأجهزة الرسميه ، آخر شئ سمعته عنه انه تنكر فى زى ضابط بوليس وزور اوراق خاصة بنقله الى كنانه بعد هروبه من كوبر ....
ـ و هل كان فى كوبر ؟
ـ نعم لقد خدعهم ، إدعى التوبة وزعم انه سيذهب الى الجهاد فى الجنوب او الشرق ...
ـ لماذا اودعوه كوبر ؟
ـ هناك عشرات الاسباب اهمها اصابته لاحد التجار بعاهات مستديمه لرفضه اخراج
الزكاة من ماله ..............
ـ حتى هذه يريد ان يتدخل فيها !
ـ لاتزال ذاكرة الشله تسيطر عليه .. اعتاد اقحام انفه فى كل شئ !
ـ هااا .. ماذا حدث له فى كنانه ؟
ـ اعتمدت الجهات الرسمية اوراق نقله دون ادنى شك .. الخبيث كان يخطط للاستيلاء
على السكر و بالفعل استطاع بيعه بمبالغ طائله تحت سمع وبصر الاجهزه الامنية التى جن جنونها عندما اكتشفت الخدعه . وعند القبض عليه لم يجدوا معه ما يساوى قيمة طن واحد من السكر .. ولم يستطيعوا إثبات شى ضده ، فقيدت قضية السكر ضد مجهول .. يحكى لى أحد العساكر الذين شاركوا فى كمين القبض عليه .. (سرنا فى قافله من عربات الشرطه المسلحه ، حاصرنا الفندق ، تقدم النقيب برفقة عشره من الرتب الادنى المختلفه ، إعتليت معهم جناح عتام الكلس ، صوت جهاز التسجيل ينبعث من الحمام و فيروز تغنى عناقيد العنب .. هتف النقيب ..
ـ إخرج ياعتام .. البوليس يحاصر المكان ..
فأتى صوت عتام هادئاً وعميقاً ومؤثراً..
ـ توقفوا عن إزعاجى ، وتفضلوا الى الغرفه حتى أنهي حمامى ..
كأن الأمر لا يعنيه شخصياً وهو يواصل الحمام و ترديد النغمات خلف فيروز .. بعد زمن ليس بالقصير خرج ، جفف جسمه .. نظر حوله باستياء ، ثم حدج النقيب بنظره نافذه :
ـ آمر رجالك بالخروج .. إبق أنت فقط ..
تردد النقيب قليلاً ، ثم أشار لرجاله أن إنصرفوا، وإخذُ يعمر سلاحه بتوترملحوظ..
ـ أنت مقبوض عليك !
ـ أعرف ، فهذا ليس تكريم على مايبدو .. على فكرة أنا لم أزور أو أنتحل شخصية
أحد ولم أحتال فلاتحاولو إزعاجى بهذه التهم المألوفه.. أرجو أن تكون مدركاً أنك تقبض على الآن بتهمة واحدة فقط .. هى الهروب من سجن كوبر العريق .. كان لسان الضابط قد إنعقد ، وتجمد ، كأن مطره صبت فيه .. حاول إسترداد نفسه من أسر عتام :
ـ تفضل معى اولاً ولنرى بعد ذلك مايكون ..
حسناً إستدر الى الحائط حتى أكمل إرتداء ثيابى .. لاتريد أن تفعل ؟! .. أنت حر ،
ـ يبدو انهم حذروك منى لايهم ، حاول الا تنظر الى وأنا البس ثيابى وارتدى عتام الكلس ثيابه بعنايه فائقه .. سرح شعره وتعطر ، نظر فى المرآة للمرة الاخيرة .
ـ الاّن يمكنك ان تتقدم ..
ـ لا ، تقدم انت ..
قال الضابط وهويشير لعتام بمقدمة (الطبنجه ) :
ـ حسناً ، لكن من يحمل حقائبى ؟ !..
ـ أحملها انت ..
ـ ماذا تقول يا رجل .. هل جننت .. استدع احد رجالك قال عتام بحده ونفاد صبر .. ،
ـ حسناً تقدم ، امامى ..
وامام الفندق رفض عتام الركوب فى اى من عربات الشرطه..
ـ أنا صحيح مجرم ، ولكن مجرم محترم .. لن اركب هذه العربات المشبوهه ! تعتقدون
انكم قبضتم على لكفاءتكم وهذا ليس صحيحاً ، بل بمزاجى انا .. ولو اردت الهروب
الان لن تستطيعون منعى .. تدخل احد العساكر بنرفزه :
ـ حاول لأفرغ هذا ( الكلاش ) فى ظهرك ..
إلتفت عتام نحوه بحدة :
ـ حقاً ؟!..
ـ كما سمعت !..
ـ اننى لا أخشى الموت يا رجل !..
كانت التعليمات الصادرة للنقيب ألا يتم تعرض عنيف لعتام الكلس فهو يعرف جيداً كيف يتعامل مع العنف ، كما ان ثمة توجيه خاص بالحذر منه واطباق الحصار عليه فهو فنان فى الهروب واستاذ فى المراوغه .. صاح النقيب فى احد العساكر :
ـ اذهب وآتى بتاكسي أجرة !..
اضاف عتام :
ـ تاكسي محترم يا عسكرى !!
ووصلت عربات الشرطه التى تحاصر التاكسي الى رئاسة الشرطه ووسط دهشة الجميع استقبل المدير شخصياً عتام بالاحضان وهو يضحك :
ـ عتمه .. ازى الحال يا راجل يا مجنون انت !..
ـ كده برضو يا جنابو ترسل لى عصابة اوباش ..
ـ كدى اهدأ يا عتام واتفضل .. واضح انك كملتها فى الخرطوم وقلت تتمها هنا..
انت ما ناوى تجيبها البر ، الجابك هنا شنو يا عتام .. ما كنت فى كوبر كويس وعليك نور..
ـ جابنى شنو ؟!.. جابونى رجلينى .. هاهاهاهاى .. ودخلا المكتب تحت الحراسة المشددة
ـ عرفت انو مدير الشرطة عرض عليك التوبة ورتبة ملازم فى المباحث !؟!..
ـ ورفضت !
ـ ليه يا عتام ؟!! .. عاوز شنو انت ؟!..
ـ كل شئ وسخ فى البلد دى .. العداله .. عاوز العداله ..
ـ العداله بيحققها مشروع متكامل بتقدمه الدوله .. انت كده ما قاعد تخدم العداله ، انت بتقنن الاجرام ..
ـ كل المشاريع فشلت ، وليس مهماً ان اكون جزءً من هذا الفشل العام ان ذلك على الأقل يبرر المقولات الذرائعية لعلم الاجتماع والجريمة .. موش كده !؟!..
ـ عموماً ستواجه بعض التهم .. الاحتيال والنصب والتزوير وانتحال الشخصيه وبعدها سنقوم بترحيلك الى الخرطوم لمواجهة تهمتك الاساسية وبالمناسبة ، جبت
بطاقة الضابط المزورة من وين ؟!..
ـ خليها بطاقة الضابط .. البلد دى لو عاوز بطاقة رئيس جمهورية ممكن تطلعها!!
ـ يعنى انت معترف بانك انتحلت وزورت ..
ـ حاولوا اثبات ذلك .. يبدو ان التجارب لا تعلمكم شيئاً مثلكم مثل بقية الشعب..
ـ يبدو ان النقاش معك غير مجدى يا عتام ..ماذا تظن نفسك منقذ لامة محمد ؟!..
ـ لم تخطر على بالى هذه الفكرة على الاطلاق .. ربما ادرسها ذات يوم !..
كان المكتب ممتلئاً عن اخره برتب مختلفه ، اخذ احد العساكر المنكفئين على ملزمة اوراق يقلب فيها بين يديه فى حيره..
ـ حنفتح بلاغات بالتهم الموجهه ليهو سيادتك والمبالغ القبضناها عندو نسجلها كمعروضات .. ؟ تقلبت نظرات المدير بين العسكرى وعتام فى نظرة ما ، ليس لها هدف محدد ،قال عتام بحسم :
ـ سجلها امانات يا عسكرى .. ما فى زول اشتكى ليكم منى وقال انا شلت منو قروش!..
ارتبك العسكرى فأومأ له المدير .. سحب عتام جزء من المبلغ ووضعه فى جيبه..
ـ لزوم مصاريف ..

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
تعالت ضوضاء فى الخارج بشكل مفاجئ ، صوت امرأة تبكى فى حرقه وعسكرى ينتهرها ،
قام عتام فى فضول ، فتبعه البقيه بشكل مدروس ، توقف عند المرأة المنتحبه :
ـ ماذا بك يا خاله ؟!
ـ ولدى عشان يفكوه عاوزين ضمانه خمسين الف والله خمسين قرش ما عندنا يا ولدى ..
اولادو ليهم ثلاثه يوم ما اكلوا .. قال عتام وعضلات وجهه تتقلص فى حزن بليغ :
ـ خلاص معليش يا خاله ..
ادخل يده فى جيبه ..
ـ هاك ادفعى ليهو الضمانه والباقى خليهو عشانك وعشان اولادو ... فوجئت المرأه ، كانت تتوقع كل شئ الا ان يحدث معها هذا
ـ انت بتتكلم صح ياجنابو ؟!!
قال وهو يبتسم فى أسى :
ـ أولاً أنا ماجنابو .. وبتكلم صح ..
مدت يدها فى تردد.. لم يزل عنها التردد حتى والنقود تقعى فى حضن كفها..بكت بحرقة وهى تهرول نحو مكتب البلاغات وتدعو بكلمات مبهمه لعتام ..إنسحبت نظراته عنها وهى تغيب داخل المكتب ..تنهد المدير :
ـ ومع ذلك ستعدم ذات يوم ياعتام .. ولن يذكرك أحد !..
ـ سأكون قد إرتحت حينها !..
ـ سيجهزون لك زنزانه تليق بمجرم خطير مثلك لاتكن مزعجاً حتى لا يهذبوك
ـ سأحاول التحلى بضبط النفس !
وتم إقتياد عتام الى بوابة السجن ،عند المدخل ثمة رجل مقيد يقف بين أثنين من العساكر فى إنكسار ..توقف عتام وهو يسأله فى فضول :
ـ مابك ؟!
نظر الى عتام فى حزن ثم كفى نظراته على التراب ..
ـ سرقت غنمايه ..سيد الغنمايه إتنازل عن البلاغ : لكن الغرامه ...
انفعل عتام وهو ينقض عليه :
ـ غنمايه ؟!.. غنمايه يا حيوان !!.. غنمايه ؟!..
واخذ يصفع الرجل بجنون ... امسك عسكريين بتلابيب عتام وقيده اّخرين من يديه الى
الخلف وهم يصرخون :
ـ لماذا تقحم انفك فيما لا يعنيك ؟!..لماذا ..
كان توترهما قد بلغ ذروته ، هدأ عتام قليلاً ونظر الى شخص يقف على مبعده :
ـ تعال وخذ من جيبى لدفع غرامة هذا المأفون .. حاجة غريبه !ناس بتسرق دول.. وناس تقول ليك غنمايه !..
وانصرف مع العساكر وهو يردد : قال غنمايه ، قال !!.. ولم يلتفت مرة اخرى..

فى الليله الاولى التى قضاها عتام داخل السجن ، استفز السجانين وتعارك معهم ولم تتم السيطره عليه الا بعد جهد جهيد وعندما اعلن الديك صباحاً مولد يوم جديد تصالح عتام مع العساكر واعطاهم بعض النقود : امشوا افطروا ليكم فطور زى الناس!.. عارف ظروفكم ذى الزفت وطين زيكم .. لكن تستاهلوا اذا شغالين الشغلانيه دى!!..
ومع ذلك لم يرفض العساكر طرح الفطور ( المدنكل ) ... بعد ذلك مباشره تم استدعاء عتام الى مكتب المدير وفى طريقه الى الذهاب لم يخلو الامر من ممارسة هوايته المحببه ، التى وجدت براحاً عندما نادت على العسكرى احدى ستات الشاى ..
ـ عليكم الله ، خلوه يشرب ليهو شاى !..
التفت عتام الى العسكرى :
ـ لازم تشرب عندها شاى ..(نحن ناس حياتنا جبر خواطر )
وشرب عتام الشاى السئ الصنع فى رضا تام ومنحها اكثر مما تستحق ، قال احد الخفراء ان ست الشاى لملمت عفشها بعد ذلك مباشرة ولم تعد الا بعد اسبوع : اشتريت مؤنة البيت وشوال فتريته من قروش الراجل الصالح داك ..
ـ صالح شنو يا وليه ، ده مجرم خطير ..
ـ اجرام السرور يا بابا .. جيد لأمو
وفوجى عتام أنهم على إصرارهم فى فتح بلاغات ضده تحت مواد مختلفة ،وعندما تم عرضه على القاضى ، اسقط كل التهم المزعومة كان عتام متنرفزاً ، مما دفع القاضى لاستفزازه..شعر عتام بالغضب من محاولات القاضى المستمره لاذلاله فغلى الدم فى عروقه
ـ اعدك انك ستندم على كل اهاناتك لى ..
ثم صمت وعضلات وجهه تنقبض ، ووجه القاضى يتقلص وهو يكيل مزيداً من التهم والسباب لعتام ، الذى رغم توتره ، لاذ بصمت مهيب ، كأنه محاصراً بجبال بعضها فوق بعض ! ولحظة خروجه من قاعه المحكمه الى السجن ، وجه حديثه للقاضى فى حزم .
ـ موعدنا الليله ايها القاضى ..
فكال له القاضى سيلاً من الشتائم !.. وفى صبيحة اليوم التالى لم يحضر القاضى الى مكتبه وفى اليوم الذى يليه ذهب زملاؤه الى منزله ليطمئنوا عليه فوجدوه فى حاله يرثى لها .. اتى صوته ضعيفاً ، واهناً ، منهداً ..( دخل تلاتة مجرمين ليلاً ، تلبوا من الجدار .. هجموا على
وضربونى ضرباً مبرحاً ، لم يتركوا جزءً من جسدي دون ان يتركوا عليه بصماتهم...)
استرد صلاح نفسه من عالم عتام .. وسأل ابو على :
ـ ماذا تنوى ان تفعل ؟!
ـ لا شئ .. ماذا عنك انت ؟!
ـ اهى دى تذاكرى ..
واخرج من جيبه اوراق ملونه ..
ـ بعد بكره بس حاكون خارج الحدود .. امسكت بالتذاكر ..
ـ الى اين ان شاء الله ؟!
ـ بريطانيا ، دون عودة ان شاء الله .. قوللى كدى انت عامل شنو ؟!
ـ لازلت ابحث عن نفسى ، اراقب الحياه والناس والزمن وكل شئ !!
ـ ما تطلع يا اخى ؟!
ـ ما لاقى طريقه ..
ـ لولقيت طريقه حتطلع ؟!
ـ والله ما عارف !..
كانت حركة الناس فى المحطة قد قلت ، وقع بصرى على حافله يتيمه ، منزويه فى الطريق المؤدى الى المحطه .. اخذ الركاب ينزلون .. ساله بعجاله ..
ـ انت ماشى وين هسع يا صلاح ؟!
ـ الشعبيه !..
ـ حلو .. انا ماشى بيت اختى ، تقوم تنزل معاى فى الديوم ، نقضى باقى النهار ده
وبعدين تتكل على الله !!!
ـ بس انا ..
ـ بس انت بعد بكره مسافر !..
حدجنى بنظره حزينه!
ـ ماتضيف أى حجة ماشى معاك

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
كان الموقف وجدانى ،حزين ...جاورتنا فى الحافله حسناء رقيقة كالفراشة..كنت فى الوسط بينها وبين صلاح ..مضت بنا الحافلة خجوله ،متعبه ..مهمومه بقبحها وسط الحافلات الفارهه المتسلله غابات الاسمنت ، منتشره على الشوراع بتحفز .. كان صلاح يحدج فى العربات ذات الالوان المتباينة بحزن وغضب : لا أفهم كيف يجوع هذا الشعب !؟ ! و ألقى على الاسفلت بقايا أشجانه وفتات تساؤله المرير .. قلت :
ـ يجب ان لاتسأل مثل هذا السؤال بخاصة أنت !
ـ لماذا ؟ ! ... ... ...
ـ ليس مهماً ان ترد ، أعرف ماذا تريد ان تقول ! ..
ـ لن أعود مطلقاً ، ياسيدى البركة فيكم ! ..
ـ لن تستطيع البقاء بعيداً عن الوطن .. لازلت داخله ، لذلك تعتقد أنك لن تعود لو طلعت ! .. هذا النيل خطير ، لااحد يستطيع مقاومة نداءه السحرى ! ...
ـ الوطن جزء من تكويننا البايولوجى والاجتماعى وكل مانحملة فى العقل و الوجدان من تراكمات .. الآن ، هنا لا أحد يشعر بأنه إنسان .. أريد أن اشعر بأنسانيتى.. بدأ لى غريباً ، كما انه ليس بصلاح الذى كان يقود التظاهرات و يتحدث عن البناء و التعمير و الثورة و التغيير الجذرى و يبكى عندما يغيب عن امه الشهور ،ويسعد حين تقترب الاجازه لانه سيترك الداخليه ويلتقيها ويرتوي بحنانها !..كأنه ليس بذاك الفتى ذو القميص الابيض والبنطلون البني ..
ـ يبدو انك احبطت تماماياصلاح !.
ـ انت نفسك محبط لكنك تكابر كشجر الحراز . او ربما جبان لاتريد ان تواجه احباطك
،هذا زمان كله ورم ولقد ضيعت زمنا طويلا في الاورام ،النتيجه انك لم تتخرج حتى الان
ـ ........ ....... ......... ..........
ـ عليك ان تقرر ياصديقي ،الزمن لاينتظر احدا ،لم نعطى فرصتنا ،فيجب ان نخلق
لانفسنا فرصه في مكان آخر ..عليك ان تقرر يا ابو على .. اخذت عبارته (عليك ان تقرر .!!) ترن في دماغي بعنف كالمطرقه مددت رأسى من النافذة كنا نقطع الجسر ،مرت عربة لاندكروزر جديدة ،فارهــه يقودها ملتحي كالبالون ،ظللت اردد في نفسي.. علي ان اقرر..على ان اقرر...
( * )

كان الجميع مثقلين بالهموم ،عبثا يحاولون مداراتها بالمرح ،كانوا اثنين ،اثنين..يحادثون بعضهم حول المائدة .. الاحاديث تبدو متداخلة في اصواتهم العاليه والمنخفضه والاخرى الهامسه ..لااحد ينتبه لحديث الاخر ..تدخل بهمس :
قلت له يا ابو على انك مستلب عولميا ..
ـ ليست لكل الامور صله بالصراع الاجتماعي ..هناك اشياْء لامنطق لها ولاقانون يحكمها ..
قال خالدغاضبا :
ـ انت موسوس ، فالحب لاحدود او مبرر له ..
ـ التاريخ يثبت بالتجربة العملية ان الحالات الشبيهه بوضعك كانت تعاني من مركب
نقص محدد!. قال محمود فتنفرز عادل وشعر ابو على ان الامور ستمضي عكس ماتوقع ، فتدخل :
ـ النقاش لايكون هكذا يا محمود .. انت تبدو قاسيا ،لاادري لماذا تسعى لاستفزاز خالد ..خالد ارجوك اهدا ودعني انا وحدي اتكلم .استمع الي يا محمود ،انك مخطىْ ،ولو كانت تلك قناعاتك بصرف النظر عن راينا فيها فلا يحق لاحد توصيل رأيه وقناعاته بطريقه مؤذيه للآخرين ..ومن جهة اخرى فلتعلم ان التاريخ والتجربه العلميه يؤكدان ان هناك ملكات تزوجن من عبيدهن راجع ألف ليلة وليلة ، عمادها الأساس علاقه عبد بزوجة الملك الكلمه الاولى كانت دوماً للرجل فلا داعى للمماطلات !! نهض محمود وهو يقول ساخراً :
ـ لكن الكلمه الاخيره كانت دوماً للمرأه ، منذ حواء وحتى الأن ..
حدجاه بنظره ساخطه وهما يلحظان للمره الاولى ان الجميع كانوا منتبهين ، شعر خالد بالحرج ، فنهض منزعجاً ، تبعه ابو على وهو ليس اقل حرجاً او ضيقاً منه .. كان همه فى هذه اللحظه يتلخص فى شئ واحد : هو كيف يعيد خالد الى طبيعته ، فلا شك ان محمود ازمه تماماً وخالد حساس لدرجه مدهشه .. تأوه ابو على وهو يتتبع خطى خالد .. لا يدرى ابو على ماذا اصاب محمود فهو طيب وود ناس .. يعرفه جيداً عنيد ومشاكس وبسيط لحد الدهشه والحياه برمتها لا تعنى له شيئاً ، تنطوى دواخله على حقد مقيت للمرأه ، منذ دخل الجامعه والفتيات يركضن خلفه ، لكن لم يبال ابداً باحداهن ولم يلتفت للخلف مطلقاً ، كان دوماً يفاخر( انا الوحيد بينكم الذي لم يفلح صدر انثى ابدا في تركيعه !.) تلك الليلة كان ابوعلي يبيت في منزل محمود الذي نادرا مايذهب اليه ،فمحمود يحب الداخلية بكل جنونها ..وشرب كثيرا من الخمر ومع نسائم الليل في الساحة التي امام الصالون - على سريريهما اللذان لايبعدان كثيرا عن شجرة الليمون المتكئة على الباب الكبير- المطل على الشارع
الرئيسي لمدينة الثورة ،في هذا الجو المشحون والنسائم اليانعة ،كانت الخمر قد اتت على محمود

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
..تنهد بحرقه ،سأله ابو علي بصوت هامس :
ـ مابك ؟!..
ـ لاشئ...لاشئ
ـ منذ فتره وانت لست كعادتك ، ما الذى يشغل بالك ؟!..
ـ قلت لك لاشئ ..
ـ بل اشياء كثيره !!
تنهد محمود بشكل يوحى بالتردد :
ـ لقد سقط الجنرال آخيراً ياابوعلى !..
ـ أى جنرال تعنى ، فلا شئ فى هذه البلاد أكثر من الجنرالات ..
ـ أعنى نفسى ..
ـ ما بك ؟!
ـ لقد وقعت فى الحب ، للاسف !..
ـ هذا شئ جميل ..
ـ لكنها مخطوبه!!..
ـ ماذا !؟! هل أعرفها ؟
بعد تردد:
ـ إنها آمنة !..
ـ آمنة ؟!.. يالك من منكود الحظ ، لقد سبقك عبدالله عليها !..
ـ لقد تأخرت قليلاً ياعزيزى !!..
ـ لم أكن أعرف يا أبوعلى ..
ـ إنها ، الجامعه مليئه، بكل اللائى ينتظرن إشارة منك ..
ـ لكنهن . لسن مثلها .
بحق كانت آمنه مدهشه ، ربما لأنها فنانه بمعنى الكلمه ،ليس ذاك لأنها تدرس فى المعهد العالى للموسيقى والمسرح .. بل بساطتها ، مرحها، شقاوتها التى كشقاوة الاطفال وحكاياتها التى لا يتحكم فيها أى منطق ، انها من ذلك النوع الغريب الذى من الممكن أن يقول لك بشكل جاد :( إذا كانت الزاويه القائمه 45ْ وكنا خمسه والمسافه بين ثلاثتنا ،أنت .. كم تكون الزاويه الحاده 90ْ ؟! ) كان واضحاً أنها تفكر فى دعاباتها بطريقه " الأرأيتيين" .. اعتدنا عليها هكذا وحين تغيب كنا تشعر بالحنين ... محمود يقول انه يحبها لأنها ليست إمرأه :
ـ كيف ذلك ؟!..
ـ لأنها شجاعه وقويه ، الوحيده التى تتكلم فى أركان النقاش ولا أحد يشتكى منها.. وهى لاتشارك فى الثرثره التى تمارسها " حريم " الشّله لاأذكر ان ثمة تقرير رفع عنها لمخالفة ما منذ انتسبت .. اضف الى ذلك انها لا تخاف العسس ابداً ، كثيراً ماتعرضت للاستدعاءات و الضرب ..
ـ أى انثى جنون هذه ياأبوعلى ، انها تستحق عبدالله فهوصنديد و لايقل عنها غرابه اطوار ، شكله غير محبب ، لكن قلبه دافئ و يتسع لكل احزان الارض ، إنه رجل من طراز خاص !!
ـ يبدو انك تريد ان تحرر لهما قسيمتا إنتقال ..
ـ إنها رائعه وهو رائع ، لايكل و لايمل يكرس همه كله للنضال ، ينفذ كل تكليفاته بدقه متناهية ، دون ان يسأل ، لماذا ومتى و كيف ؟ ! اويقول لا !...
ـ ربما لهذا السبب بالذات أحبته آمنه !..

*
كان أبوعلى لايزال يتتبع خطى خالد بينما أحس بأنامل ناعمة تطرق على كتفه :
ـ أبوعلى .. شهاب !! .
ـ أهلاً سلمى .. كيف حالك ؟ ! .. لم أراك منذ الصباح !
ـ فضلت الاعتزال اليوم .. لم أرغب المجئ إليكم !
ـ مابك ؟!
ـ لقد تقدمت باستقالتى .. أقصد سأتقدم بها ! ..
ـ لماذا ؟!
إستدرك انه مارس سلوكاً غير نظامياً ، فهو ليس مسئولها المباشر .. أدار الأمر فى رأسه وتنهد ..
ـ ألم يناقشك مسئولك المباشر ؟!
ـ فضلت أن أخبرك أولاً .. أنت الأقرب إلىَّ استطيع ان اكون صريحة معك اكثر.... لا ياابوعلي ،ارجوك اسمعنى للآخر..اعلم تماما النظم واللوائح التى تحكم التنظيم وكل شئ…كان أبوعلى يعى ، إن هناك ضرورة أحياناً لخرق هذه النظم واللوائح… .
ـ أهدئى ياسلمي و أخبريني ما الذي حدث بالضبط ؟!
ـ الأمر يتعلق بمحمود !
ـ ماذا أفعل ؟!
ـ أهانني أمام صديقاتى في المدرج …
غاصت الدنيا في عينيه…
ـ لاتهتمي يا سلمي ..اعلم انه لامر محزن ألا نحترم مشاعر بعضنا .. لكن هذه ليست هى القاعدة الاساسية التى تحكمنا … انها حالة فردية سنعالجها فى اطارها ياسلمي.. فأرجوك اعطينى الفرصة لمعالجة الامر .. ولا تحاولى ان تخلطى بين استمرارك والسلوك الذى مارسه تجاهك..
ـ كنت واثقة انك ستقول لى ذلك !.
ـ وأرجو أن تكونى قد تراجعت عن قرارك!.
ـ لا استطيع ان أرفض لك أنت بالذات طلباً ،يا شهاب..أنت . . .
قالت فى صوت هامس، قبل أن تكمل:
ـ لا مكان للعواطف فى عملنا يا سلمى ..إننا مناضلون وتربطنا ببعضنا علاقات موضوعية .. يجب أن يكون دافعك الاساس لاتخاذ أى قرار هو قناعاتك ومبادئك.. الانفعال يجعل الانسان عاجزاً حتى عن مجرد تأمين نفسه ياسلمى ، وعاجزاً عن توقع الخطوة القادمة للخصم و الاستعداد لمواجهته .. العسس لا ينتظرون المناضل حتى يهدأ ويفكر ماذا يفعل .. هل تفهمين ما أعنى ياسلمى ؟..
قال ذلك وهو يشعر بنفسه قاسياً الى حدٍ لم يكن يتصوره ، كان حزيناً وهو يقول لها ذلك ، لكنه لم يكن يريد لها أن تتعلق بأمل كاذب .. ابتعدت وهى تخفى وجهها براحتيها شعر بقلبه يتمزق ، فواصل طريقه مترنحاً ، غائم الرؤية …
*
عندما أخبر أبوعلى عبدالله قال الآخير بهدؤه المعتاد:
ـ هكذا هم المبتدئون دائماً ، لا يستطيعون تحمل أمراض الواقع وتجاوزها !..
ـ انها ظاهرة ليست محصورة فى سلمى !.
ـ كل المؤسسات تعانى من هذه الأمراض ،قليل من الصبر و العناء …قاطعه ابوعلي
ـ لاادري لماذا تسمونها امراض ؟!.. لماذا تصرون على ذلك؟!.
ـ وماذا نسميها؟!
ـ اننا بشر قبل كل شئ قلت لها نفس كلامك بطريقة اخرى ، لكننى لم اكن مقتنعا بما اقول..
ـ ماذا تريد ان تقول ؟!…

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
مشكوووور

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
يسلمووووو وردة

descriptionمـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية) Emptyرد: مـــارتجلو ... ذاكرة الحراز .. (رواية)

more_horiz
مشكورين علي المرور
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد